مجلة الرسالة/العدد 188/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 188/الكتب
رسالة المنبر إلى الشرق العربي
للأستاذ فليكس فارس
يقول الله في صفة بقية القوم الصالحين من القسيسين والرهبان (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) وقد قرأت كثيراً من هذا الكتاب فتراءت لي هذه الآية، وتراءى الأستاذ فليكس فارس بقية من هذه البقية الصالحة، فهو طالب حق لا يغفل، وساع إلى غاية لا يمل. والكتاب مجموعة من أدب الأستاذ تربط بينها هذه الرابطة: طلب الحقيقة مبرأة من العصبية لما يخالفها، وسعى إلى غاية مبدأة في الطلب، يحتمل في سبيلها إرهاق الفكرة للبلوغ، وحرمان النفس للسمو، والعدل بين المتخالفين لإقرار الحق وتثبيته والعلو به عن نوازع النفوس وشهواتها، وهو في ذلك فارس كاسمه متدفع متدفق، مأمون العثرة، حديد النظرة، ثابت الجنان لا يرهب ولا يتخلف
وقد تعاطى - في كتابه - القول في كثير من الأدباء، وتكلم في أدبهم الكلام القسط، وكشف ببيانه عن الحقيقة الأدبية التي انطوى عليها أدبهم، وعن الحقيقة الفنية التي اشتملت عليها جوانحه، وافصح عن الحقيقة الشرقية التي تعمل في حياة الشرق عمل الدؤوب والاستمرار لتجعل في ضعفه قوة عضلة تستعصي على الأنياب الأجنبية التي تزعم أنها (تستعمر) أرضه وبلاده ونفوس أهله وبنيه. فجزى الله (فارس الحلبة) خير ما جوزي مجاهد عن أمته.
وقد سمى الأستاذ الفارس كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) وأصاب، فهو في جوهره يحمل الأصل المشرق الذي تكون منه الرسالة. ففيه الشمول والتعدد واختلاف الأغراض وما يتبع ذلك مما يمتاز به الكاتب من جودة الفكرة، وجلاء العبارة، وحسن القصد، وبلاغ الغاية. فأنت من أول فصل مندفع إلى قراءة البقية لما تجد من الروعة واللذة والفائدة.
بدأ رسالته بقوله (نحن وأنتم)، وهي أول رسالة إلى البلاد العربية مصر والشام والعراق وأرض الحجاز فهو فيها عربي قد غلبته عروبته على هواه وعلى عصبيته، يدعو دعوة الحق لليقظة والاتحاد والتعاضد والتخلص من آصار العبودية القاتلة التي تتلجلج في أوهامها تلجلج المحموم، ثم يتدافع من ثم إلى رسالته في الثقافة الشرقية والعربية، فهو عربي مفكر يقظ مؤمل هاد إلى حقيقة الثقافة الشرقية العربية، عامل على ربط الأول بالآخر من هذه الأمة، داع إلى نبذ الأوهام المتمكنة من وباء الجهل القديم، والسمو عن التورط في التقليد الذي لا يرد بنا إلا موارد التلف. ثم يقف بك على باب أدب من أدب (جبران) وهو كتاب وحده فيه من الفكر ما تختلف عليه العقول، وحسب القارئ أن يقرأه فأن فيه روح الكاتب متجلية كاشفة ناقدة بصيرة عليمة بفنها وإحساسها قادرة على الإبانة عن خلجاتها خير الإبانة. ثم الرسالة الخامسة وهي إصلاح الحياة البيتية، وهو من أدق أبواب هذه الرسالة، يبين عن الفكرة الاجتماعية المخلصة التي تدفع الأستاذ إلى البصر والتفكير والنقد والتمييز، ولولا ما يحول بيننا وبين الإفاضة لأثبتنا بعض هذا الباب وعقبنا، فهو على جلالته فيه مواقع من القول لو عاد إليها الأستاذ بثاقب فكره ومسدد نظره لأنكشف له الحق الذي ينشده ويبغيه.
وأما الرسالة الأخيرة فهي (المهود في الشرق والغرب) وهي التي كتبها بالفرنسية ونشرها ثم ترجمها إلى العربية، فلا غرو أن كانت هذه الرسالة (هي رسالة الشرق والغرب) فإنها بنيت على أصل ثابت من نظرة الشرقي المتحفز بشرقيته في الحياة الغربية التي انتقلت إلينا انتقال الوباء. وأهم ذلك مسألة النسل، وقد كان الرافعي قد كتب (رؤيا في السماء)، فترجمها الأستاذ الفارس واستخرج منها الحكمة الإسلامية في الزواج والنسل وما أعجزت به هذه الشريعة فكر الإنسان في إصابتها مكان الداء على اختلاف الزمان والمكان، وانطوائها على الدواء الذي لا يدع للعلة ما تتعلق في الجسم الاجتماعي
فهذه هي رسالة المنبر إلى الشرق العربي، وهي قبس من إشراق هذا الشرق المتلفع المتجافي ذي الأهوال والأسرار
ثمن الكتاب عشرة قروش ويطلب من إدارة الرسالة ومن المكاتب الشهيرة.
(ش)
نظرات تاريخية دستورية
للأستاذ حسن صادق 180 صفحة من القطع المتوسط
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
قلما يعالج الباحث القانوني في مصر موضوع البحث الدستوري، وقلما يتناول الأنظمة النيابية في العالم بأي درس أو بحث. وإذا استثنينا بضع مذكرات موجزة يضعها أساتذة القانون لطلبتهم. فإننا نرى هذا الميدان خلوا من أقلام الباحثين.
وأخيرا يطالعنا الأستاذ حسن صادق بكتابه (نظرات تاريخية دستورية) ويشمل هذا الكتاب ثلاثة بحوث مستفيضة لثلاثة من دساتير العالم الهامة التي تكونت بعد الحرب العظمى وهي: الدستور الألماني، النمسوي، والتشيكوسلوفاكي.
مهد الأستاذ لكتابه بمقدمة قصيرة، أوضح فيها كيف جاهدت مصر في سبيل دستورها على يد زعيميها، وبين فيها كيف كان لزاما على المصري أن يعرف ماله من حقوق وما عليه من واجبات، وأشار فيها إلى أن الغرض من كتابه هو المساهمة في تربية الشعب تربية دستورية صادقة.
ثم بدأ الكاتب بدراسة الدستور الألماني دراسة دقيقة، فتكلم أولا عن الوجهة التاريخية في ذلك الدستور منذ أن سنه بسمارك في إبريل سنة 1871 فخلص ذلك الشعب الذي رسف في قيود الرجعية زمناً طويلا، والذي آده الظلم وأضنته الآلام من نير الظلم ووطأة الاضطهاد، وعلمه كيف يحكم نفسه بنفسه، وكيف يصبح سيداً لا مسوداً، وكانت ألمانيا إلى قبل الحرب مكونة من دويلات صغيرة. وكانت السيادة في دولة الريخ ممثلة في مجلسين: الأول وهو البندسرات ويتكون من مندوبي أمراء الدول. والثاني الريخستاج وينتخب من الشعب. ثم الإمبراطور وهو الرئيس الأعلى للدولة.
واستمر الحكم على هذا النظام إلى أن شبت ثورة سنة 1918. وأخذ الشعب يعمل بجد وعزم حتى سن لنفسه دستوراً، يذهب في الديموقراطية إلى أبعد حد. وأنشأ سلطاناً نيابياً يعبر عن سلطته حق التعبير، وجعل نفسه الحاكم العام في كل خلاف يقع بين عناصر الدولة، وبذلك جعل الشعب الحكومة تستمد منه سلطانها وتدين له بمناصبها إن شاء أسقطها، وإذا شاء أبقاها، وفي ذلك اطمئنان الشعب.
ثم انتقل الكاتب إلى الكلام عن الدستور النمسوي فبين لنا كيف تخلص ذلك الشعب بعد جهاد طويل من أغلال الإمبراطورية النمسوية التي قيدته زمناً طويلاً. فما أشرق عام 1918 حتى هب الشعب يطالب بحقوقه. فسن لنفسه دستوراً ووضع السلطة كلها في يد المجلس الوطني، وهذا المجلس له حرية مطلقة في تحديد انعقاده وتأجيله ولا يمكن لرئيس الدولة أو الوزارة التدخل في ذلك. وفي أثناء الحل والعطلة تقوم مقامه لجنة تراقب أعمال الحكومة. . وإذا خالف الرئيس أو الوزارة قواعد الدستور حوكموا أمام المحكمة الدستورية. والدستور النمسوي منظور فيه إلى الدستور الألماني ومقتبس منه في بعض أجزائه.
أما الشعب التشيكوسلوفاكي الذي نزلت به ضروب الظلم، وصنوف الإرهاق أيام الإمبراطورية النمسوية فأنه انتهز فرصة انهزامها سنة 1918، فأعلن استقلاله، وسن لنفسه دستوراً مقتبسا من دساتير العالم الأخرى. ونص فيه على وجوب دوام الحياة النيابية وذلك بتأليف لجنة من 24 عضواً ستة عشر من الشيوخ وثمانية من النواب، تزاول عمل البرلمان في عطلته وذلك لضمان وجود السلطة التشريعية حتى لا تستأثر السلطة التنفيذية بالأمر
ومما يلاحظ في الكتاب أن الدساتير الثلاثة التي اختارها الأستاذ متشابهة إلى حد ما، ويشمل ذلك التشابه أيضاً نظام الحكم في هذه الدول الثلاث (الحكم الجمهوري) فلو أن الكاتب الفاضل اختار لنا صوراً مختلفة من الدساتير العريقة الأخرى التي يمكن للشعب أن يفيد من تجاربها الدستورية لجاء الكتاب جامعاً شاملا.
والكتاب - في دقة آرائه وبحوثه - مجهود موفق نشكره للأستاذ، وقدوة طيبة نرجو أن نجد في مصر من يقتدي بها، وثمرة تبشر باهتمام الكتاب بالناحية الدستورية، ومساهماتهم في تربية هذا الشعب تربية دستورية صادقة.
أحمد ف. م
التلميذ
لبول بورجيه
ترجمة الأستاذ عبد المجيد نافع لعل من فضول القول أن يتحدث متحدث عن الفراغ الذي ملأته ترجمة هذه القصة إلى العربية، فما أشد ما كانت تمتلئ قلوبنا أسفاً وحسرة حينما نرى الدنيا تتحدث عن بول بورجيه، ونسمع بأدبه وترى في قصته الخالدة مثلا من أروع المثل للقصص المفتن الدقيق، والأدب العالي الجميل؛ ثم نتلفت حولنا، فنرى مكانه في العربية خالياً إلا من كلمات عنه طائرة هنا وهناك، لا تمثل في ذهن القارئ العربي أدبه، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يجد فيها ذلك المتاع الفني المهذب، أو يستشعر لقاءها تلك اللغة العقلية السامية التي يبتعثها في النفس أدب ذلك الأديب.
وقصة التلميذ التي بين يدينا هي، فيما يقول بعض نقاد الأدب الفرنسي، أروع ما كتب بول بورجيه وما نحسبهم أطلقوا هذا إطلاقاً إلا أنها خير ما يمثل مذهبه في كتابة القصة، فقد أبدع فيها أيما إبداع في عرض الدقائق النفسية عرضا فنياً خلابا، وتحليل الأمزجة العقلية المعقدة تحليلا عبقريا رائعا. حتى لا يكاد يفلت منه عنصر من العناصر التي تكون الشخصية، على ما فيها من غموض وإبهام وتصوير ذلك في صورة فنية منسقة مضطردة، لا يحس القارئ فيها بنبوة، ولا يلمح بها شيئا من الصنعة المتكلفة، أو التلفيق البغيض.
وهو في هذه القصة يعرض شخصية شاب من شبان القرن التاسع عشر، وهو من أعقد العصور فيما أحسب إذا اعتبرنا التأثيرات المختلفة، والنزعات المتباينة، والاتجاهات الغريبة التي تعرض لها الفكر الأوربي في تلك الفترة من الزمن، وأمتحن بها محنة ظهر أثرها في جميع مجالات الحياة، فلا يدع شيئاً مما يكون الشخصية حتى يسوقه في سياقة الغنى الرائع، فإذا أتم عرض شخصيته في صورة فيلسوف من فلاسفة ذلك القرن. قد فني في الفلسفة حتى صار صورة حية منها كر عليها كرة أخرى، فإذا بذلك كله آثار سطحية، وإذا بتلك الصبغة الفلسفية وهذه الصوفية العلمية لم تستطع أن تغير من كيانه الداخلي أو تنسخ ذلك الميراث الذي ورثته الإنسانية الحاضرة عن أناسيها الأولى. فما تزال له من تحت هذا الظاهر الوقور المتزن غرائزه الطبيعية الكامنة التي كان يبدو بادئ الرأي أنها ضعفت وتلاشت بتأثير تلك الحياة الفلسفية الخلابة، ولكنها لم تلبث أن وجدت في البيئة التي تلائمها: ورأت من حولها موضوعا لبروزها ونشاطها حتى ثارت ثورتها، وخرجت من مكمنها، ملونة ألواناً. . بتأثير المؤثرات المختلفة التي كونت صاحبها، ولا تزال تعمل فيه وتوجهه في طريقها وفي هذه الألوان الغريبة التي عملت في تكييفها شتى العوامل، وفي إظهارها مفتنة متموجة، تتجلى عبقرية بورجيه وقدرته الفائقة على تحليل الحالات النفسية المعقدة إلى دقائقها، وتصويره لها في أروع صورها وأدقها، في أسلوب بياني خلاب.
فما من شك في أن هذه القصة من أعجب المثل الأدبية الخليقة بالخلود، الحقيقة بأن تمثل في كل لغة تقيم للأدب العالي وزناً، فللأستاذ المترجم أخلص التهنئة على هذا التوفيق الذي صادفه في ترجمتها، وأجزل الشكر على الجهد البليغ الذي بذله فيها، حتى جلاها في أسلوب عربي رائق، ومظهر من النشر أنيق.
وبعد فقد كنا نود، مع هذا الصنيع المبارك المشكور، لو أن الأستاذ المترجم عني بأن يبرز إلى اللغة العربية صورة من هذا الأثر الفني الخالد دقيقة كاملة بتفصيلاتها. كما أبرزها جميلة وافية في جملتها. ولكنه اتخذ لنفسه مذهبا في الترجمة وضع فيه الأدب ودقة النقل في المكان الثاني. ووضع فيه جمهور القراء في المكان الأول: فهذه صورة لا تتفق مع تقاليد جمهورنا، إذن يجب أن تبعد! وهذه مسألة فلسفية أطنب المؤلف في عرضها حتى لا تلائم عقلية جمهورنا، إذن يجب أن تبتر! وهذا إسهاب في التحليل والتصوير يبعث السأم إلى نفوس جمهورنا، إذن يجب أن ينفى! ولا بأس بشيء من ذلك مادام سياق الرواية مضطردا، ووقائعها متسقة، وفكرتها محققة. هذا هو مذهب الأستاذ المترجم عرضه في مقدمة ترجمته. وعندنا أن هذا المذهب إن جاز أن يتخذ في نقل بعض الآثار الأدبية الأخرى فلا يجوز أن يتخذ في هذا الذي سماه الأستاذ المترجم نفسه خالدا، والذي صدر عن نابغة كتاب فرنسا حقا، فهو أثر عالمي لا ينبغي أن يخضع لسيطرة بعض هذه الاعتبارات البسيطة. على أنا لا نمنع مع هذا أن المسالة دقيقة كل الدقة، وأن الفصل بين المذهبين ليس من الأمور الهينة التي يتقبلها الضمير دون معاناة.
أما أسلوب المترجم فهو على ما نعرف منه: عربي جميل ناصع، لا ابتذال فيه ولا إبهام. وقد وفق - على حد قوله - إلى إحلال المعاني الغربية في معان عربية. على أنا كنا نود أيضاً أن لو برئ من مثل هذه العبارة: (عالما لا يشق له غبار، ولا يصطلي له بنار) فليس هذا فيما نحسب معنى عربيا، بل هو دمنة بدوية.
وهناك هنوات لغوية لا نرى بأسا في أن نشير إلى شيء منها مثل قطع همزة الابن في صفحة 41، ومثل قوله (ص55) أصبحت وأمي وحيدين) والصحيح الفصل في مثل هذا بالضمير المنفصل فيقال: (أصبحت أنا وأمي وحيدين)، ومثل قوله (ص19) (قد تلقى خمسة أو ستة خطابات) وليس هذا فيما أحسب بناء عربياً، وإن كان من الممكن أن يخرج له وجه نحوي، والعربية المستقيمة تقول: خمسة خطابات أو ستة وهذا على كل حال أمر هين يسير، لا يغض من القيمة الأدبية لذلك الصنيع العظيم.
(الحاجري)