مجلة الرسالة/العدد 185/في الحب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 185/في الحب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 01 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

الكلام في الحب يحلو للعاشق والسالي والخلي؛ وأنا والله (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، وقد كنت أتوهم أني عشقت بضع من المرات في حياتي مذ عرفت أن لي قلباً وأن مكانه في الناحية اليسرى لا اليمنى. ولهذه المعرفة قيمتها عندي، فقد خيل إلي في صدر أيامي أني أحب فتاة وأفضيت إليها يوماً - أو على الأصح ليلة وكان القمر طالعاً والجو سجسجاً - بما يجن صدري، وأردت أن أؤكد لها الحب فأشرت إلى حيث الضلوع في الجانب الأيمن، وكانتأعرف مني بتركيب الجسم الإنساني، فضحكت وقالت: (هل أنت واثق مما تقول؟. .) فلم أفهم معنى لسؤالها وظننتها تريد أن تعاهدني على الحب والحفاظ وما إلى ذلك من الكلام الفارغ - أو الذي صرت أعتقد أنه فارغ - فوضعت كفها الرخصة على حيث أشرت لها إلى موضع قلبي وقالت: (مسكين هذا القلب!. .) فتناولت يدها وقبلتها وقلت على سبيل التأييد: (إي والله. . مسكين. .)

فسألتني: (وما العمل الآن؟. .) فقلت: (في أي شيء؟) قالت: (أليس الواجب أن نبدأ بقلبك فنرده إلى مكانه الذي حوله الحب عنه؟) قلت: (كيف؟. ماذا تعنين؟) قالت: (أن قلوب الناس هنا. . إلى اليسار. . ولكن قلبك قد وثب وثبة نقلته إلى اليمين؛ وهذا - فيما أظن - يجب أن يستعان على إصلاحه بالجراح. . والى أن يتم ذلك. . .)

فلم أدعها تتم كلامها ووليت هارباً. وخطر لي بعد ذلك أنه إذا كان القلب في غير الموضع الذي حسبته فيه فأن ما توهمته من إحساسه - أو بعبارة أدق - من الإحساس في ذلك الموضع لا بد أن يكون تخيلاً لا حقيقة له. وكانت هذه مغالطة، فليس من الضروري أن يعرف الإنسان موضع قلبه ليحب، ولكن المغالطة نفعتني وشفتني من هذا البلاء

وأنا لا اعشق بالمعنى المألوف لأني شديد النسيان سريعه. والنسيان يجعلني أمسى عاشقاً، واصبح سالياً. وكثيراً ما حدث أني عشقت، ولكن الليل يجيء فأجوع - ولا سيما في الشتاء - فأكل فيغلبني النعاس - والامتلاء يساعد عليه - وانهض في الصباح فيخطر لي شيء ساعة افتح عيني على الدنيا فاشغل بذاك عما عداه وافرغ من هذا الأمر الجديد في العصر أو بعد يوم أو اثنين؛ فاقعد أفكر فيما مر بي في يومي، أو في الأيام الأخيرة، وإذ بي أتذكر فجأة أني عشقت فأقول: (اووووووه. . . . أعوذ بالله! ما هذا النسيان الفظيع؟ إلا شد ما أذهلتني الحياة عن حبيبتي التي لا شك إنها تحسبني الآن أحيي الليل ساهراً أناجيها. . . كلا، ينبغي أن أكتم هذا لئلا تغضب؛ وليس من اللائق على كل حال أن أخبرها أني كنت ناسياً أني عاشق مد نف. . . ولكن من هي الحبيبة؟ لقد ذكرت حبها ولكني والله نسيتها هي. . .) وأحار ماذا أصنع. . . فليس من المعقول أن أسال من أعرف من الفتيات أهي التي أحبها آم سواها. ويعجبني هذا الموقف فأتصور أني أقبلت على واحدة وفركت كفي وقلت لها: (هل تسمحين لي أن القي عليك سؤالاً عني؟ (فتقول) تفضل. . . بالطبع. . لم لا؟.) فأقول: (أن المسالة بسيطة!!. . أعني أنها في الحقيقة دقيقة. . والمفروض أني أعرف بها ولكني كما تعرفين حمار. فتقول: (استغفر الله!. لماذا تطعن على نفسك هكذا؟.) فأقول: (معذرة. . واشكر لك هذا اللطف ولكنها الحقيقة. . على كل حال لقد تبينت من كلامك. . أعني. . أريد أن أقول إن كلامك الذي سمعته أغناني عن السؤال فآلف شكر لك يا روحي ونور عيني وحبة قلبي و. . .)

فتقاطعني وتصيح بي: (ماذا جرى لك؟. . . لماذا تتكلم هكذا. . .؟)

فأقول: (معذرة. . . ولكن ألست أنت روحي ونور عيني وحبة قلبي. . . لقد ضننتك. . .)

فتسال وهي مقطبة: (هل جننت. . .؟)

فأقول: (لا. . . لم أجن. . . . ولكني نسيت. . .)

فتقول وهي كالمذهولة: (نسيت!. . . ماذا نسيت. . .؟)

فأقول: (اسمعي. . . لم يبق بد من الإقرار بالحقيقة. . . إني أحب، ولكني نسيت ولم أعد أعرف من هي التي سرقت قلبي، وقد كانت نيتي حين ربكتني بالمقاطعة أن أسألك أأنت التي أحبها أم أنا قد غلطت؟. . . فلما أظهرت هذا العطف علي وأغضبك أني أطعن على نفسي، قلت إنك لا بد أن تكوني المحبوبة الضائعة - أعني المنسية - فان لم تكونيها فأنت لاشك أولى منها بحبي. . . وهذا هو تأويل قولي: يا روحي يا نور عيني ويا حبة قلبي. . . فما رأيك؟)

أتصور هذا الموقف فلا يسعني إلا أن أضحك. ومتى ضحك المرء فقد سلا وخلا قلبه من الوجع. ولو أن كل عاشق استطاع أن يضحك لكان الأرجح ألا يبقى في الدنيا حب عنيف طاغ

ولا أحتاج أن أقول إني في الحب كما تشاء ذاكرتي؛ فإذا استيقظت وتنبهت، ووسعها أن ترتب ما فيها، وتبرز ما يستحق الإبراز، وتؤخر ما التأخير أولى به، وتعرض الأمر علي عرضا يساعد على التدبر ولا يغري بالفرار والتماس النجاة. . . إذا فعلت ذاكرتي هذا فأني أستطيع أن أعرف أأنا عاشق أم خلي، ومن هي التي أحببتها، أو من هن اللواتي أحببتهن ثم نسيتهن؟ ولا غرابة إذن أن يكون حبي - حين أفطن إليه - بالجملة. أما إذا عجزت ذاكرتي عن هذا العرض فأني أمشي في الدنيا مستريح القلب من هم الحب وكربه، واثقاً من نعمة الخلو ومزية السلامة والنجاة

ولكن البلاء والداء العياء أن ذاكرتي تفاجئني بومضات التذكر حين تحسن اللجلجة في النسيان. . . وتصور أن تكون جالساً تناجي من تذكرت أنك تحبها. وأن تكون راغباً في ملاطفتها لتعوضها من الإساءة إليها بنسيان أمرها، فتروح تبثها هذا الحب وتناجيها بأعذب ما تستطيع من عبارات الشغف والهيام، وتؤكد لها أنك ما أحببت. . . كلا، ولن تحب سواها، وأن قلبك وقف عليها، وأن حبك لها خالد، وأن الدنيا تستطيع أن تعمر بمن شاءت من النساء الجميلات الفاتنات الساحرات؛ ولكنك أنت لن تكون لك عين ترى سواها، أو قلب يخفق لغيرها. . . وإنك لتسح بهذا الكلام وإذا بذاكرتك تصيح بك:

(حاسب. . . ماذا تقول؟. . . أتزعم أنك لا تحب سواها؟ يوه. . . أتراك نسيت تلك التي كنت تقسم لها مثل هذه الأيمان الغلاظ البارحة. . . البارحة فقط. . . في الساعة التاسعة. . . على شاطئ النيل. . . أو تلك التي دعوتها إلى الذهاب معك إلى الإسكندرية لأنك لا تطيق البعد عنها يوماً واحداً. . . أو الأخرى. . . أو. . . أو. . .)

وأرجو أن يكون القارئ منصفاً، وأن يقول لي كيف بالله يمكن أن يمضي المرء في الكلام الذي بدأه؟. . . أو كيف يستطيع أن يستحلي ما هو فيه؟. . . أو ماذا يبلغ من شعوره بالتنغيص في لحظة جميلة كالتي هو فيها؟. . . ثم أن هذه سماجة من الذاكرة. . . لماذا لا تنتظر حتى تنقضي اللحظة الحلوة، ويفوز المرء بالمتعة - متعة الجلسة والحديث والمناجاة وسرور المحبوبة بأنها محبوبة ثم بعد ذلك - بعد أن تنقضي الساعة التي هو فيها لا يبقى مانع من أن تذكره بما شاءت، وأن تعرض عليه الحقائق الثقيلة في غير أوانها فماذا أصنع بالله. . . وكيف أستطيع أن أحب ما ينبغي. . . وهل مما يستظرف أن تعابثني ذاكرتي معابثة تحرمني لذة الحب في دنيا تزخر بالجمال؟. . . وماذا عسى أن أقول للغانيات؟. . . والله أن هذه لحيرة وأي حيرة، ثم والله أني لمستريح مسكين

إبراهيم عبد القادر المازني