مجلة الرسالة/العدد 184/هكذا قال زرادشت
مجلة الرسالة/العدد 184/هكذا قال زرادشت
8 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فيلكس فارس
الحرب والمحاربون
لا نريد أن يراعينا خيرة أعدائنا، كما لا نريد أيضاً أن يراعينا من نحبهم من صميم الفؤاد
دعوني أعلن لكم الحقيقة
أنني احبكم من صميم الفؤاد، أيها الرفاق في المعارك، فما أنا الآن إلا، كما كنت في الأمس، جندي مثلكم، فأنا إذن من خيار أعدائكم. دعوني أعلن الحقيقة لكم
إنني عارف ما في قلوبكم من حقد وحسد، فانتم من العظمة بحيث لا يمكنكم أن تتجاهلوا الحقد والحسد؛ فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما في قلوبكم. وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء في معرفة الحق فكونوا على الأقل جنودا يكافحون من اجل هذه المعرفة؛ وما المكافحون إلا طليعة الأولياء
لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من المحاربين، وعسى إلا تكون سرائرهم على طراز واحد كالألبسة التي يرتدونها
لتكن أنظاركم منطلقة تفتش على عدو لكم، وقد لاحت في لمعانها بوادر البغضاء. عليكن أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربا تناضلون فيها من اجل أفكاركم، حتى إذا سقطت هذه الأفكار في المعترك، ينتصب إخلاصكم هاتفا بالظفر
احبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، وخير السلام ما قصرت مدته. أنني لا أشير عليك بالعمل، بل أشير بالكفاح؛ لا أشير عليكم بالسلم، بل بالظفر. فليكن عملكم كفاحا وليكن سلمكم ظفرا
لا اطمئنان في الراحة إذا لم تكن السهام مسددة على أقواسها. وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال. فليكن سلمكم ظفرا. . .
تقولون أن الغاية المثلى تبرر الحرب؛ أما أنا فأقول لكم أن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والأقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس، وما أنقذ الضحايا حتى الآن إلا إقدامكم لا إشفاقكم
أنكم تتساءلون عن الخير، وما الخير إلا الاتصاف بالشجاعة، فدعوا صغيرات الأطفال يقلن: (أن الخير في اللطف والجمال)
يقولون أن لا قلوب لكم، ذلك لان قلوبكم تنبض بالإخلاص، وأن احب تواضعكم في إخلاصكم. أنكم تستحون لان أمواجكم تندفع في مدها، وسواكم يخجل من تراجعها في جزرها
أن قبحكم مريع، فتدثروا به أيها الاخوة، لان في دثار القبح ما ليس في سواه من الروعة والبهاء
أن النفس لتقف صاخبة عندما تعتلي، والقسوة كامنة في اعتلائكم، فما خفيت حالكم عني. ففي ميدان القسوة الشديد العزم بمنهوك القوى فلا يمكنهما أن يتفاهما - إنني اعرف من انتم
إذا ظفرتم بعدو فصبوا عليه بغضكم؛ وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم، فما عدوكم إلا مدعاة مباهاتكم، فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصارا لكم أيضاً
أن الثورة مفخرة للعبيد، فليكن افتخاركم انتم قائما على طاعتكم. وليكن أمر الآمر فيكم جزءا من هذه الطاعة نفسها. أن المحارب الصادق يفضل ما يجب عليه ما يريده. فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إلى هدف رغباتكم. وليكن حبكم للحياة تعبيرا عن أسمى أمانيكم؛ ولتكن هذه الأماني عبارة عن ارفع فكرة في الحياة. وما ارفع فكرة لكم، وأنا أستمحيكم إبداءها لكم كأمر، إلا هذه القاعدة: (ما الإنسان إلا كائن يجب أن نتفوق عليه)
على هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد، فما يهمكم أطالت الحياة أم قصرت. فليس من محارب يطلب أن يعامل بالمراعاة
لقد قلت لكم الحق بلا محاباة لأنني احبكم من صميم الفؤاد، أيها الاخوة في السلاح
هكذا تكلم زارا. . .
الصنم الجديد
لم يزل في بعض الأماكن من الأرض شعوب وجامعات، أما نحن فليس عندنا سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات، وما أدراكم ما هي الحكومات أعيروني أسماعكم لأخاطبكم عن موت الشعوب: - ليست الحكومة إلا ابرد مسخ بين المسوخ الباردة، فهي تكذب بكل رصانة إذا تقول: (أنا الحكومة، أنا الشعب)
إياكم وتصديق ما تقول؛ فما كون الشعوب إلا المبدعون الذين نشروا الأيمان والمحبة؛ فأتوا بأجل خدمة للحياة. وما الناصبون الإشراك للجموع الغفيرة ألا من يهدمون كيانها ليشيدوا الحكومات على أنقاضها، ويعلقوا نصلا قاطعا فوق راس الشعب، وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه
إن الشعب، حيث بقى له مرتع على الأرض، لا يفهم ما هي الحكومة، بل هو ينفر منها كما ينفر من العين الساحرة، ويراها شذوذا هادما للشرائع والتقاليد. وإليكم هذا الدليل: أن لكل شعب بيانه عن الخير والشر؛ وجيرة هذا الشعب لا تفهم هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددا به شرائعه وتقاليده، على حين أن الحكومة تكذب في جميع تعابيرها عن الخير والشر، فليس ما تقوله إلا كذبا، وليس ما تملكه إلا نتاج سرقتها واختلاسها
أن كل ما للحكومة مزيف، فهي تنهش بأسنان مستعارة، وأحشاؤها مختلقة اختلاقا؛ وما شعارها إلا (البيان المبهم المشوش عن الخير والشر) فهي تتجه به نحو الفناء، وتقوم بنشره بدعوة صريحة للمنذرين بالموت
أن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد، وما أوجدت الحكومة إلا لخدمة الفضوليين الدخلاء على الحياة. انظروا إلى هذه الحكومة كيف تجتذب إليها فتضمهم إلى صدرها وتشبعهم عناقا وتقبيلا. اسمعوها تهدر قائلة:
- ليس اعظم مني على وجه الغبراء، فأنا يد الألوهية المنظمة
وعندما تهتف هذا الهتاف، تتهاوى الركاب جاثية، وبين الراكعين كثير من غير طوال الآذان وقصار النظر
أن هذه الأكاذيب تجد مصدقين لها وا أسفاه حتى بينكم انتم، يا من تجول فيكم النفوس الأبية، لان الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة بالمكارم، الطامحة إلى الجود، إنها لتخترق سرائركم، انتم أيضاً، يا من تغلبتم على الألوهية القديمة، فهي تعرف إنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم ملالكم لعبادة الصنم الجديد
انه لصنم يتمنى أن يحيط به الأبطال وفضلاء الرجال؛ انه لمسخ بارد يريد أن يدفأ بشمس الضمائر المشعة المشرقة
انه ليمنحكم كل شيء إذا أنتم سجدتم له. فهذا الصنم الجديد يشتري لمعان فضائلكم وما في لفتاتكم من عزة وكرامة. انه في حاجة إليكم ليجتذب إليه العدد الفائض من الدخلاء على الحياة، فهنالك البرج الجهنمي، وهنالك جياد الموت تقرقع بعددها حاملة شارات المراتب والأمجاد؛ اجل ذلك هو اختراع الموت أتى به للجموع ليحصدها حصدا وهو يباهي بأنه هو الحياة، والمنذرون بالموت يرون بفعلته خير لمبادئهم
حيث يكرع الجميع السموم ويضيع كل إنسان نفسه صالحا كان أو طالحا، فهنالك تقوم الحكومة لأنها تسود كل مكان يوصف فيه الانتحار البطيء بالحياة
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. انهم يختلسون ثمرة جهود المخترعين وكنوز الحكماء ويدعون هذا الاختلاس تمدنا؛ غير أن كل شيء يصبح أدواء ومصائب تحت سلطانهم. انظروا إلى هؤلاء الدخلاء وليس فيهم إلا الإعلاء ينفثون غسلين مرائرهم، وينتحلون صفة الصحافيين. . . انهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض الآخر وليس لهم القوة على هضم ما يلتهمون
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء، انهم يحشدون الأموال، وكلما ازدادت ذخائرهم زاد فقرهم، فانهم يطمحون إلى الاستيلاء على القوة فيبدءون بالقبض على محركها الأول: على الأموال الطائلة، وما هم إلا الدخلاء العاجزون
انظروا إليهم! انظروا إلى هؤلاء القرود يتسلق بعضهم البعض الآخر فيتدافعون متمرغين في الأوحال على الشفير. أن كلا منهم يطمح إلى التقرب من العرش، وقد عراهم جنون التوصل إليه، فكان لا سعادة إلا على مقربة منه، وقد يرتفع رشاش الأوحال إلى العرش كما ينزلق نفسه إلى الأوحال
إنني أراهم وقد جن جنونهم، قرودا لا تكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة صنمهم البارود وقد انبعثت منه ومنهم اكره الروائح وأخبثها
(يتبع)
فليكس فارس