مجلة الرسالة/العدد 183/الفنون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 183/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1937



بيتر باول روبنز

الفنان الخالد

للدكتور أحمد موسى

إذا قيس قدر الفنان بعمله، وفنه بحسن اختياره، ومجده بتراثه، فأنك تجد روبنز في عصره إمام الفنانين، وحجة العارفين، لأنه الفنان الذي عاش لفنه، وشعر بالجمال فيما حوله، وبحث وراء المثل الأعلى في كل ما صادفه. صور الجمال فأبدع، والطبيعة فأحسن، والحياة فأجاد. صور القصص التاريخية والدينية فأوضح، والشخصية فعرف؛ لا تجد فيما ترك مجالاً للنقد، ولا بين ما أختار موضعاً للزلل

هذا هو روبنز الذي ولد في مدينة سيجين سنة 1577، وانتقل في صحبة والديه وأخوته إلى كولونيا سنة 1578 وبقى فيها إلى سن العاشرة ثم تركها إلى انتفرب سنة 1588. تمتع بقسط وافر من التربية الراقية التي لم تكن دائماً متوفرة لغيره من الفنانين، ودان بكثير من درايته بالتاريخ العام والتاريخ الديني إلى المدرسة الكاثوليكية بانتفرب

شب روبنز مولعاً بمشاهد الطبيعة، موهوبا حدة النظر ودقة الملاحظة، له نظر سجل كل ما رآه؛ انجذب نحو الجمال، وتعطش إلى الخلود، وهام بالكمال المطلق

لم ير روبنز المثل الأعلى بين الموجودات، ولكنه ظل في خياله السامي، فعبر عنه جهد طاقته في تراثه المجيد

استمد من الطبيعة مادة التعبير والتصوير، فاستطاع إظهار ما انطوت عليه عبقريته وما جال بخاطره. كان من هذه الناحية عبداً للطبيعة، ولكنه فاز في النهاية بدرجة الوصول فكان سيدها، لأنه استمد منها مادته، ووصل بها إلى ما لم تصل هي إليه من تسام، إن قدر لنا أن نتأمله ونفهمه ونتأثر به، وصلنا نحن أيضاً بمشاعرنا إلى كمال الاستمتاع

كان أول معلميه للمناظر الطبيعية توبياس فيرهجت الذي وصل صيته إلى إيطاليا، كما كان أدم فان نورت معلمه لتصوير الأجسام والمناظر الشخصية؛ أما معلمه للفن والألوان فكان اوتوفان في لاحظ فيه معلموه نبوغا ظاهراً، فكانت دروسهم له أشبه بتعاريف أولية لأصول سير العمل، أما هو فقد نهج في اقصر وقت منهجا سار عليه وعرفت روحه فيه، وظل بعد مائة عام يؤثر في الفن الفلامنكي تأثيراً عميقاً إلى أقصى حد

شاءت المقادير لروبنز أن يسافر إلى إيطاليا سنة 1600، وشاءت المقادير أن يلحق بخدمة أحد أمرائها الذي كان من كبار عشاق الفنون الجميلة في مدينة مانتوا، فشاهد روبنز لدى الأمير حيناً وبوساطته حيناً أخر أحسن ما أخرجته قرائح الفنانين الإيطاليين وغير الإيطاليين

لم يكن لروبنز إلا الانتقاد والتأمل، فكان في حالة من البؤس النفسي شبيهة بحال الفيلسوف المتصوف؛ لم يقنع بما رآه، ولم ير شيئاً عده كاملاً؛ ولذا فقد عمل مكملاً، وصل إلى ما صبت إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت من نفوس المجموع بدقة التأمل وبالدرس. وبقوة الملاحظة وبالتغلغل في كنه المرئيات، وأخيراً بالقدرة اللانهائية على تفهم الجمال

وبقدر تفانيه في التصوير كان عاشقاً لسماع الموسيقى ولعزفها، كأنه يقول إن مصدر الفنون واحد، وإن الفنان الكامل لابد له من دراية بالفنون الأخرى لزيادة الاستمتاع بما في الحياة من مكنونات لا يصل إليها إلا العارف

تراه أيضاً ألمّ بأصول الكيمياء لرغبته في الوقوف على سر صناعة الألوان

سافر كثيرا، وتأمل كثيرا؛ لم يترك لحظة تمر دون النظر والدرس، باحثاً عن الجمال أياً كان نوعه، وحيثما كان وجوده. كان لرحلته إلى أسبانيا تأثير في نفسه لم يقل من اثر رحلته إلى إيطاليا التي استطاع أن يعرف الفن القديم والفن المعاصر أثناء إقامته بها

وتدل كراسات روبنز ومذكراته الخاصة على أنه كان كثير التدوين والتسجيل والنقل والاقتباس، لا للتقليد بل للإلمام، شأن العالم الجهبذ؛ فتراه ينقل قدماً لتمثال استماله، ووعيناً من صورة استهوته، وذراعا ورأساً من أخرى، فكان جباراً في اختياره عنيفاً في نقده

خلق روبنز فنا قائما بذاته ومدرسة عرفت باسمه، بعد أن شاهد الكثير من أعمال فناني إيطاليا، وتأثر إلى حد بعيد بميشيل أنجلو وروفائيل وتيتسيان وكراتسي، كما أن بعض لوحاته تمت بصلة إلى جيليو رومانو الذي شاهد صوره عندما أقام في مانتوا

أشبع نفسه الفنية، فعرج بعد عودته من إيطاليا على دراسة الألوان ودرسها درساً وافياً، فكان له في صوره لون اسمر قوي، وظلٌ ازرق رمادي عُرفا بعده باسمه

أقام في بروكسل حيث تزوج من ايزابيلا برانت سنة 1609 وبنى بيتاً خاصاً لأقامته كان متحفا لآيات الفن ومدرسة لتلامذته، أمثال فان دايك، وفان تولدن، وكورن، وارسموس كويللينيوس، وجان فاندن هوك، وتوماس فان ايبرن، وساللارت، وفوتز، ودل مونت، وولفوت

وكل هؤلاء كانوا خير معين له على إتمام أعماله، فكان غالباً يضع التصميم والرسم التخطيطي ويترك لهم القيام بالتنفيذ تحت إشرافه، كما أنه كان المخرج الأخير لكل صورة

على أن فان سيندر وباول دي فوس كانا قديرين إلى حد أن سمح لهما بتصوير بعض الحيوانات في مصوراته

أما لوكاس فان آدن وجان وبلدنز فكانا يصوران أجزاء على لوحاته الشاملة للمناظر الطبيعية، كما كان جان بروجل يصور الزهور

ولا يعد هذا نقصا في مقدرة روبنز ولا تقصيرا منه، لأنه كان في ذلك أشبه بأستاذ يدير معهداً للأبحاث يساعده فيه تلامذته

والمجال لا يسمح هنا بوصف كل تراثه الخالد الذي بلغ ألفي قطعة من روائع الفن موزعة على متاحف العالم، ولكنا نقتصر فقط على وصف ما جاء من صوره بهذا المقال

فالصورة الأولى (الخاطئون أمام المسيح) تمثل يسوع واقفا وحول رأسه هالة من نور، أمامه امرأة خاطئة تقف منحنية بخشوع والدمع منهمر من عينيها تلتمس المغفرة عن الخطيئة، وحولها ثلاث رجال ظهرت على وجوههم علائم الندم والألم لما فرط منهم، لأنهم أمام رسول الله الذي ينظر إليهم نظرة العطف والسمو

والصورة الثانية (إنزال الجسد من الصلب إلى الأرض) تراها مجموعة رائعة من تسعة أشخاص لا تجد بينها واحدا خرج عن دائرة الاندماج وتكميل الشخصية الكاملة للصورة. انظر إلى طريقة ووقوف القديسات واشتراكهن في حمله، ولاحظ ما ارتسم على وجوههن من علائم الألم والحزن. أليس هذا الإنشاء الكامل دليلا على قوة المعرفة بالقصص الدينية والعبقرية الفنية في الإخراج؟

وصورة مادونا القديس إلديفونسو تمثل العذراء جالسة على عرش وفوق رأسها ملائكة ثلاثة في هيئة أطفال بأجنحة يحملون الأزهار، وحولها وقفت أربع قديسات ينظرن إلى القديس الدفونسو وهو راكع أمامها، وهي في مجموعها تبين إلى حدٍ بعيد نبل الإخراج وقوة التعبير. وإذا تأملنا وجوه هذه القديسات وملابسهن نراها تعطينا فكرة صحيحة عن ناحية القوة البنائية في إنشاء روبنز

أما الصورة الرابعة (حكم الراعي باريس) فهي توضح لنا إلى أي حد وصل علم روبنز بالتاريخ القديم وبالقصص الإغريقي؛ فباريس هذا كان شاباً وديعاً يرعى الغنم، صادفه في طريقه ثلاثة آلهة هن هيرا واثينا وافروديت في هيئة نسوة غاية في الجمال، وسألنه أن يعطي التفاحة التي بيده إلى أجملهن منظراً. فأجاب باريس سائلاً ماذا يكون جزاؤه؟

وعدته هيرا بأن تمنحه الملك والغنى - وأثينا بمنحه الحكمة والشهرة - وأفروديت بأجمل النساء على الأرض إطلاقاً! تريث باريس وأخيراً أعطى تفاحته إلى أفروديت (راجع إلياذة هومير 28: 24)

أنظر إلى باريس وهو يمثل التريث والحيرة في الاختيار؛ ثم انظر إلى كل واحدة منهن ثم إليهن جميعاً، فكل واحدة أبرع من الأخرى جمالاً، ثم لا تلبث أن يستلفت نظرك ما فيها من قوة لا تزال إلى اليوم مطمح الفنانين

فكر قليلاً في العصر الذي مثل فيه روبنز هذه القصة الإغريقية الخرافية! أليس عجيباً أن يوفق روبنز إلى هذا الحد الذي يدعو إلى الدهشة والاستغراب؟ ألا تراه وفق كل التوفيق في تصوير هذه القصة الرائعة؟ أعطى تفاصيل الجسم كل عنايته، فكانت أية في جمال التناسب وعظمة الانسجام. لا ترى للتكرار فيها أثراً. إن متحف مدريد يحسد حقاً على احتوائه هذه التحفة الفنية، ولعل الحرب الداخلية لا تكون سبباً في أن يتسرب التلف إليها كما تسرب إلى غيرها في هذه الأيام بأسبانيا

وتعد لوحته الممثلة لأحد مواقف رواية اشيللوس تاتيوس في القرن الخامس قبل المسيح والمسماة لوسيبوس وكليتوفون من أروع وأبدع اللوحات

أنعم النظر إلى مظهر المرأتين المخطوفتين وإلى ما ظهر عليهما من علائم الوجل والتوسل، وكيف استطاع روبنز أن ينفث فيها من روحه وعبقريته، وتأمل كيف ينظر الحصانان إلى هذا الموقف الخطير كما لو كانا يتحفزان للهرب، ثم إلى قوة عضلات الرجلين الخاطفين

إن مجلداً ضخماً لا يكفي للكتابة عن روبنز الخالد، ولكنا مع هذا استطعنا أن نعرف بعض ما سجله تاريخ الفن له

دكتور أحمد موسى