مجلة الرسالة/العدد 183/البحث عن الذهب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 183/البحث عن الذهب

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1937



بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

وجدت صديقي ينتظرني - كما وعد - فدخلنا معاً وجلسنا متقابلين إلى مائدة صغيرة، وبدأنا بأيدينا ففركناها - فقد كان البرد شديداً، وكان كلانا قد خلع المعطف والطربوش، وكانت الحجرة دافئة ولكنه لم يكن قد مضى من الوقت ما يكفي لانتقال الدفء إلى أبداننا. ثم أكب صاحبي على البيان الذي فيه ألوان الطعام وجعل يسردها لي لأتخير ما يطيب لي منها. وفرغنا من ذلك بعد طول التردد وانصرف العامل بدفتره الذي دون فيه ما طلبنا. فقال صديقي وهو يميل على المائدة:

(والآن ما العمل؟)

قلت: (هذا هو السؤال الأبدي! وما أظن بنا إلا أننا سنظل نسأل عن ذلك طول العمر - طال أم قصر. . المسألة مسألة حظ يا صاحبي)

فقال: (كلا. . لابد أن هناك وسائل كثيرة لاكتساب المال بسرعة. . كثيرون يفعلون ذلك. . وهذا دليل على أن الوسائل موجودة ولكنا نحن - لسبب ما - لا نهتدي إليها)

قلت: (فليكن الأمر كما تصوره، فلست أرى أن هذا يجدينا شيئاً)

قال: (ولكن لابد أن تكون هناك وسيلة)

قلت: (إذا كان ينفعك أو يريحك الإيقان من ذلك فأيقن وأرح نفسك)

فقال وهو يهز رأسه: (نحن اثنان. . كلانا محتاج إلى مبلغ حسن من المال. . والحاجة ملحة، والسرعة لا مفر منها. . لا سبيل إلى الاقتراض لأن الذين يقرضون يطلبون ضماناً. . شيئاً يطمئنون به على مالهم. . سخافة؟!. ولماذا ينبغي أن نرد شيئا؟؟. ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه ويروحون يكنزونه ويدفنونه في خزانات أوفي قدور يدسونها تحت الأرض. .؟؟)

فضحكت وقلت: (هذه بلشفية)

قال: (لا تصدق. . آه لو كنت غنيا!!. إذن لصارت الدنيا أرغد وأهنا. .)

قلت وأنا أبتسم: (ماذا كنت تصنع؟)

قال: (أصنع؟. أتسأل؟. . كنت أضع المال في صرر وأرمي بها لمن أتوسم فيهم أنهم أ لأن يكون في يدهم مال. . (وأطرق شيئا ثم رفع رأسه وقال): هل تعرف أني زرت اليوم أختي؟؟. . إنها غنية كما تعرف. . وكيف لا تكون غنية وهي لا تنفق شيئاً؟ فلما دخلت عليها وفتحت فمي لأتكلم رفعت يدها في وجهي وقالت: (ولا مليم!) فغضبت وصحت بها ونهرتها عن هذا السلوك)

فقلت: (ماذا قلت لها على سبيل الزجر عن هذا السلوك الذي لا يليق بين الأخ وأخته؟)

قال: (قلت لها؟. قلت لها هل تظن أنها من بوليس المرور حتى ترفع يدها هكذا لأقف؟؟ شيء غريب فقالت بهدوء: إنها ليست هذا، وليست كذلك دكان تسليف! كلا لا فائدة. . بح صوتي معها. . أكدت لها مائة مرة أني محتاج إلى قليل من المال، فوافقت وأكدت لي أني سأكون محتاجاً إلى هذا المال حين أخرج من بيتها. . سلوك يطير العقل. . فهل تسمى هذه أختاً؟ إني أتصور أختاً ظريفة لطيفة سخية كريمة تعطيني، وهي تعتذر، وتملأ يدي وهي مغضبة. . . وهكذا تكون الأخت. . . أما هذه؟. . . أعوذ بالله!. . على كل حال لا فائدة. . وإنما أردت أن أقول لك أن هذا الباب أيضا سد في وجهي)

فقلت: (لماذا لا تفكر في طريقة لكسب المال)

قال بلهجة الاستنكار: (أفكر. . وما الفائدة من التفكير؟ لا فائدة مادامت الدنيا مقلوبة. . آه لو كان لي سلطان في هذه البلاد. . إذن لعقدت امتحاناً كل ثلاثة شهور للأغنياء. . . يجلس أعضاء اللجنة ويقف أمامهم الغني فيقول له أحدهم: (كم تملك يا مولانا؟) فيقول: (ألف فدان، ونحو مائتي ألف جنيه في المصرف وعمارتين - كلا منهما ذات سبع طبقات في شارع الملكة نازلي) فيقول أحد الأعضاء (وماذا تصنع بكل هذه الثروة) فيقول (أوه لا أصنع شيئا. . كل ما زاد على حاجاتي الضرورية جدا أضيفه إلى المدخر) فتقول اللجنة: (شيء جميل. . . أهذا رأيك فيما ينبغي أن يصنع المرء بالمال؟. . لا بأس. . اسألوا أحمد (أي العبد الخاضع المطيع) ماذا يكفيه؟) فأقول ردا على السؤال: (أوه يكفيني القليل. . خمسون ألفاً. . كفاية. . أعني مؤقتاً. .) فتقول اللجنة: (أحمد هذا رجل يحسن أنفاق المال. . أعطوه ما يطلب) فاقبض المبلغ وأفرك يدي وأقول (إذا سمحتم لي يا حضرات الأعضاء الموقرين فأني أستأذنكم في لفت نظركم إلى رجل يعرف كيف يعطي. . . بارع جدا في الإنفاق) فيسأل أحدهم (من هذا. . . قل بسرعة) فأقول (انه المازني) فيقول (آه صحيح. .

كيف نسيناه؟. . هاتوه حالاً. . علينا به. . اقبضوا عليه حيثما تجدونه) فيقبض عليك الشرطة ويجرونك مصفدا إلى اللجنة فيضحك الأعضاء ويقولون (خذ. خذ. خذ أيضا) فتخرج معي مسرورا. . ونروح ننفق باليمين وبالشمال حتى يحين موعد الامتحان التالي. . ما قولك؟)

فقلت وأنا أضحك: (شيء عظيم جدا. . . ولكن إلى أن يتيسر أن تلي أمور الناس ماذا نصنع؟)

فقال: (آه هذه هي المسألة. . ما رأيك أنت)

قلت: (يمكننا أن نكسب الورقة الأولى الرابحة من يانصيب المؤاساة، أو اليانصيب الأيرلندي)

قال: (هذا ممكن. . ولكن ذلك يتطلب أن ننتظر بعضة شهور. والعجلة من الشيطان، ولكنه لا معدي لنا عنها - كائنة ما كانت منه. . شيطان أو غير شيطان. . سيان. .)

قلت: (صدقت. . يمكن أن نخترع شيئا ونحتكر بيعه - وصنعه بالطبع - فنغنى)

قال: (صحيح. . . فكرة لا بأس بها. . سأدون هذا في مذكرتي. . تنفع في المستقبل. . وعلى ذكر ذلك ماذا نخترع؟)

فقلت: (باب الاختراع واسع. . واسع جدا. . . مثلا نخترع طريقة تجعل السيارات تستغني عن البنزين وتكتفي بالماء - أو حتى بالهواء - أو نخترع بديلا من النقود، فان النقود هي أصل البلاء في هذه الدنيا. . . أو نخترع. .)

قال: (يكفي! يكفي! ولكن هذا كله يحتاج زمن. والمطلوب هو الاهتداء إلى وسيلة تكفل إفادة المال اللازم في أربع وعشرين ساعة. . .)

فقلت وأنا اضطجع وأرسل الدخان من فمي خيطا متلويا - فقد فرغنا من الطعام -: (يظهر أن الضرورة تفتق الحيلة حقيقية)

فقال: (معلوم. . اسمع. . أترى هذا الرجل القاعد هناك في الركن الأيمن؟. أترى كيف يأكل؟. أترى كرشه المدورة كالكرة، ووجهه المنتفخ؟ وكيف يفتح عيناً ويغمض أخرى وينظر حوله قبل أن يدس اللقمة في فمه كأنما هو يخشى أن يراه أحد؟. . الحق أقول لك إني أكره وجهه ولا أرتاح إلى النظر إليه) قلت: (يا أخي لا تنظر إليه. . دعه وحول عينيك عنه)

قال: (ولكني لا أستطيع. . إنه وجه سوء. . لا يمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الخير. . إنه ممن لا يؤتمنون على القصر والأيتام والأرامل. .)

فضقت به وصحت (ولكن مالك أنت؟. . دعه وشأنه. . أليس له حق في أن يأكل هنا مثلي ومثلك؟)

قال: (يا أبله. . إن هذا الرجل لا بد أن يكون منطوياً على أسرار يكره أن تذاع. . لأن وجهه ناطق بأنه شرير. . فلوقمت إليه الآن وقلت له: (طيب. طيب) كأني أعرف سره الذي يجاهد لإخفائه ألا تظن أنه يفزع ويضطرب ويشتري سكوتي بأي ثمن. .)

فقلت: (أها؟. أهذه طريقتك؟. أتريد أن تبتز المال من الناس بهذه الوسائل؟. .)

قال: (المصيبة أني لا أستطيع. . تنقصني الشجاعة. . ولكني واثق أني أنجح إذا استطعت أن أصنع هذا؟. . ومع ذلك لكل إنسان سره القبيح. . ولو أن واحداً جاء إليّ ووقف على رأسي الآن وحدق في وجهي ثم هز رأسه هزة العارف بكل ما هناك ثم قال (طيب! طيب! يا أحمد) لما وسعني إلا أن أضطرب. . على كل حال يظهر أنه لا فائدة. . لا أمل في مال كثير نفيده بالسرعة اللازمة. .)

قلت: (صدقت. لا أمل)

قال: (خسارة. . سأظل أتحسر لأني لم أجد الشجاعة الكافية للوقوف على رأس هذا المجرم - هو مجرم ولا شك - وإبلاغه بعيني أني لا أعرف باطنه كما أعرف ظاهره البادئ لنا. . خسارة. . نهايته

. . . نقوم؟)

قلت: (تفضل)

ودفع إلى الخادم ثمن الطعام وخرجنا

ولم نقل للرجل المنتفخ الأوداج شيئاً فلم نعرف أله - أم ليس له - سر يشتري كتمانه. .

وقلت لصاحبي وأنا أودعه (على فكرة. . من قبيل الاحتياط للمستقبل. . من يدري؟.)

قال: (نعم. .)

قلت: (ما هو الجواب الصحيح. . أمام اللجنة؟) قال: (آه!. . انفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب)

قلت: (أهو ذاك؟. أما ما في الجيب فلست أحتاج في أمر إنفاقه إلى التكلف. . وأما ما في الغيب فهل تعرفه يأتي يا صاحبي؟)

فأشار لي بيده ومضى عني وهو يضحك

إبراهيم عبد القادر المازني