مجلة الرسالة/العدد 180/عرس وسرير
مجلة الرسالة/العدد 180/عرس وسرير
بين سلطان وسلطان
يا كافرين بالشعر والأحلام والحب! أتريدون بعد حادث اليوم معجزة؟
هذا ملك المغرب، وإمبراطور المشرق، وإله البحر، وصاحب العرش المحمول على أعناق الشعوب، ووارث التاج المتألق على جباه القرون، وخليفة المجد المحفوف بالجلال الباهر والسؤدد العريق والسنَّة المقدسة، وسليل الدم السَّرى الذي يتدفق بالحياة في هدوء ويجيش بالنشاط في ثبات، وربيب البيئة التي تعظم القوانين وتقدس التقاليد وتعبد الإمبراطورية؛ هذا هو ينزل عن العرش، ويلقي التاج، وينبذ اللقب، ويهجر الوطن، ويلحق بحبيبته أميراً لا يميزه شعار، وإنساناً لا تحدوه أبَّهة، وفرداً لا تصحبه حاشية!
يا جاحدين لسلام الروح وراحة القلب ورضى العاطفة، أتمارون بعد اليوم في هذه الآية؟
زعمتم أن الأرض بدلِّت غير الأرض، والدنيا أصبحت غير الدنيا، فقدَّرتم سعادة الحياة بالوزن والكيل والمساحة، وقلتم أودى منطق العقل بإلهام القلب، وأزرت مادية العلم بروحية الأدب، وغلبت أثرة المنفعة على إيثار التضحية؛ ورحتم تتجهزون بما صنع العلم من صواعق وزلازل وبراكين، لتنسفوا ما قام من المدينة، وتقتلوا ما بقي من الإنسانية، وتقرُّوا في ملكوت الله نظاماً لا يعيش فيه جمال ولا خير ولا حق؛ فقام أكبر ملك في العالم، على أظهر مكان في الأرض، يعلن أن عظمة الملك لا تضمن سعادة النفس، وسلطان العرش لا يعوض حرية الإرادة، وجواهر التاج لا تساوي بسمة الحبيب!
سبحانك يا بديع الحياة والحي! ما هذا الذي تضعه في العيون فنسميه سحراً، وتجريه على الشفاه فندعوه جاذبية، وترسله في الأعضاء فيكون رشاقة؟ ما هذا الذي تودعه هذا الجسم الرقيق الناعم فيقهر سطوة الجبار، ويسوِّي أخدع المتكبر، ويطأطأ أشراف الملك؟ أهو إعجاز القدرة التي تغلب بالأضعف؟ أم سر الحكمة التي تمكر بالأقوى؟ أم روح القدس الذي ينفّذ قانون الحياة في هذا الكوكب؟
بين سورة الملك وأمانة التاج، وبين فتنة الجمال ومحنة الهوى، وقف العاهل ادوار الثامن يتحسس في مطاوي الغيب مشيئة القدر: أيعيش في نفسه ولنفس، أم يعيش في جنسه وللناس؟ أيظل رمزاً لأمته يخفق فوق رءوسها كالعلم، ويتغلغل في قلوبها كالأيمان، ويتردد على ألسنتها كالصلاة، ثم لا يكون له ما للعامل الفقير من وجود مستقل وإرادة مختارة؛ أم يرتد إلى طبيعة الإنسان فيضرب بنفسه في الزحام، ويبحث عن نصيبه في الرغام، ويضطلع بعبئه ككل فرد؟؟ أيبقى أسير التقاليد التي نسجتها عناكب الماضي البعيد على نوافذ البلاط والبرلمان، فلا يفكر إلا بإيحاء، ولا يتحرك إلا بميقات، ولا يتكلم إلا بمقدار، ولا يعمل إلا بإشارة؛ أم يتمرد تمرد الحي المريد، فيدفع من أمامه ذلك الحاجز الصفيق الثقيل، ويجذّ من ورائه ذلك الذيل العتيق الطويل، ثم ينطلق في أجواء الله انطلاق الطائر المرح، يقع في كل روضة، ويهبط على كل غدير، ويتملى أليفه فوق عروش الورود، وعلى بسط المروج، وبين أفنان الخمائل؟؟
كانت هذه الآراء الحائرة تعصف نكباء في رأس الملك، بينما كان في (لندن) الواجب المرير الخشن يتمثل في وجه (بلدوين) الحازم الجبار، ومن خلفه برلمان متحد يؤيد دستوره، وملكوت واسع يريد إمبراطوره، وشعب مخلص يحب ملكه؛ وفي (كان) حب عنيف ملح يشرق في قسمات (مسز سمبسون) الفاتنة، ومن ورائه إنسان يطلب حريته، وقلب ينشد سعادته، وحي يتغنى حظه من الحياة
وهنا يتدخل القدر الذي يحكم وحده على الملوك، فيحل عقدة الرواية التي يشهدها العالم كله، على غير ما يحلها به الروائيون الخياليون، فينصر تجديد الطبيعة على تقليد العرف، ويغلّب سلطان الحب على سلطانالواجب، ويرفع سرير الأسرة على عرش الأمة!
يا كافرين بالشعر والأحلام والحب! أتريدون بعد حادث اليوم معجزة؟
أيها الناسون ما صنعت حواء بأبيكم آدم! لا تحسبوا أن الماسونية والجاسوسية والشيوعية والصهيونية والفاشية والنازية هي التي في تقلب في السر أو في العلن أوضاع المجتمع.
فتشوا في زوايا كل أولئكم عن المرأة! وإذا كانت مأساة البرنس ادوار تذكرنا بمأساة البطل أنطوان، فليست كليوبطرة أول النساء، ولا مسز سمبسون آخرهن؛ وسيظل هذا الجنس القوي الخفي الغامض سلطان الكون المطلق؛ فهو محور الطموح والمنافسة، ومصدر الخير والشر، ومنبع السرور والألم، ولئن خضع له اليوم أدوار، فمن قبلهخضع نابليون، ومن قبل نابليون خضع الرشيد وقال فيما حدَّث الرواة:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... - وبه قوين - أعزُّ من سلطاني
احمد حسن الزيات