مجلة الرسالة/العدد 180/سالزبورج
مجلة الرسالة/العدد 180/سالزبورج
مدينة المطر والموسيقى
بقلم سائح متجول
لم يطل بنا المكث في ربوع سويسرا الجميلة فغادرنا (تسيريخ) (زيورخ) إلى ألمانيا عن طريق شافهاوزن، وقصدنا (منشن) (ميونيخ) عاصمة بافاريا عن طريق أوجسبورج واولم؛ وفي أثناء الزيارة الجمركية عند الحدود الألمانية، أحصى الموظف المختص ما معنا من صنوف النقد الأجنبي وقيمه وأثبتها بعد الاطلاع عليها في شهادة خاصة؛ وهذا إجراء لا بد منه لكي يستطيع السائح أن يخرج من ألمانيا بما يحمل من صنوف النقد الأجنبي، ووصلنا إلى (منشن) عصراً بعد رحلة ممتعة خلال سهولة بافاريا الغنية، فألفينا المدينة تموج بالوافدين عليها من السياج من مختلف الأقطار، وألفينا الفنادق غاصة بالزائرين، وقد رفعت أجورها جميعاً عن الأسعار الرسمية المدونة في سجل الفنادق الألمانية؛ وقد كانت دورة الألعاب الأولمبية قد بدأت في برلين قبل ذلك بأيام، فلم نرغب في الذهاب إليها اجتناباً لضجيجها وحياتها الصاخبة، وآثرنا البقاء في منشن وبافاريا فلم نجد ما كنا ننشد من الراحة والهدوء
وقد تحدثنا في فصل سابق عن (منشن) ومناظرها وعن أبهاء البيرة الضخمة التي اشتهرت بها، فلا نعود إلى ذلك. وإنما نلاحظ هنا فقط أن الفنادق الألمانية لا ترضى بالأسعار الرسمية التي تقيدت بقبولها والتي يعول عليها السائح، وهي مدونة في دليل الفنادق الرسمي الذي يقدم إليك؛ وإن السائح يتكبد في صرف تحاويل السياحة (رجستر مارك) خسائر لا مبرر لها، فكل تحويل بخمسين ماركا أو أقل يؤخذ عنه (مارك) ويؤخذ عن المائة مارك ونصف مارك، وهكذا فإذا ذكرت أنه يؤخذ مثل هذه النسبة أو أكثر عند شراء التحويل، فإن (العمولة) قد تصل بذلك إلى أربعة أو خمسة في المائة، هذا والسائح الذي يريد أن يحول ما تبقى لديه من النقد الألماني بعد انتهاء زيارته يتكبد في تحويله خسارة لا تقل عن عشرين أو خمسة وعشرين في المائة، وهذه نسبة غير معقولة.
أضف إلى ذلك أن نفقات المعيشة في ألمانيا ليست من الرخص كما يقال، وهذا بالرغم مما وضعته ألمانيا من تسهيل في مسألة النقد بتقرير (الرجستر مارك) للسياج؛ وتمنح ألماني على سككها الحديدية تخفيضاً قدره ستون في المائة، ولكنها تشترط في مقابل ذلك أن يقيم في أرضها سبعة أيام كاملة على الأقل، وهذا شرط مرهق بلا ريب؛ لأن إيطاليا تمنح للأجانب تخفيضاً قدره خمسون في المائة أو أكثر على سككها الحديدية دون اشتراط الإقامة مطلقاً، وكل ما هناك أنك تزور معرضاً في إحدى المدن الإيطالية التي تمر بها وقد لا يستغرق ذلك أكثر من ساعتين
غادرنا (منشن) بقطار الساعة الثانية مساء إلى مدينة سالزبورج، فوصلنا إليها بعد رحلة قصيرة وتمت الإجراءات الجمركية بسرعة في الجانب النمسوي من المحطة؛ ثم جزنا إلى خارج المحطة، ولشد ما كان سرورنا ودهشتنا إذ التقينا في فنائها بصديقنا القديم الصحفي النابه الأستاذ محمود أبو الفتح، فبادلناه تحية حارة، وتواعدنا على التزاور واللقاء، ولكن الظروف لم تسمح للأسف بتلاقينا بعد ذلك؛ وقد علمنا فيما بعد من صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم أنه كان في نفس الوقت الذي زرنا فيه سالزبورج يقبع في فندق (شتات ميران) الذي نزلنا فيه؛ ومع أننا كنا نجوس خلال المدينة في كل وقت بالنهار وبالليل ونغشى جميع المقاهي والمنتديات التي ذكر لنا الصديق أنه كان يغشاها أيضاً؛ فأننا لم نعرف بوجوده ولم نقع له على خبر أو أثر؛ ولعله كان يؤثر الاعتكاف والاحتجاب ليستجم كل تفكيره وخياله ثم يطالعنا بكتابه الذي اعتاد أن يخرجه كل موسم؛ وعلى أي حال فقد كان المطر ينهمر باستمرار في سالزبورج، ويحمل ذوي الأمزجة الرقيقة على الاحتجاب والاعتكاف. أما نحن فقد كنا نجد في هذا الغيث المنهمر الذي اشتهرت به سالزبورج ظاهرة بديعة من ظواهر الطبيعة، وكنا نستقبله باسمين مرحين رغم انه كان يغمرنا بالبلل ليل نهار. والواقع أن المطر يغمر هذه المدينة الرشيقة بنوع من الصباحة المنعشة، كما تغمرها الشمس أيام الصحو وبضوئها المنعش؛ وحينما يسقط المطر تقدم إليك تلك المدينة منظراً بديعاً، فالمظلات تنتشر فوق الرؤوس، ويرتدي الناس معاطف المطر الجلدية؛ وترى المطر يقطر من المارة، ولكن حركة المدينة تبقى على حالها؛ ومما يلفت النظر بنوع خاص من السيدات وهن يرتدين المعاطف الجلدية أو معاطف صنعت من ورق خاص يسيل عليها المطر وتحمي من البلل؛ وإذا كانت سالزبورج وقتئذ تموج بالوافدين لحضور حفلاتها الموسيقية الشهيرة، فقد كنا نرى أسراب الحسان يرتدين هذه المعاطف الورقية المختلفة الألوان فوق ثياب السهرة، وينساب الماء فوق معاطفهن، كما ينساب السحر من زينتهن وعطرهن، وهن ضاحكات مرحات لا يزعجهن البلل
وإذا كانت سالزبورج تشتهر بمطرها الذي لا ينقطع حتى في أشد أيام الصيف، والذي يغمرها دائماً بالبلل المنعش، فإنها تشتهر أيضاً بصفة أخرى، هي أنها مدينة الموسيقى؛ وشهرتها عالية تدعو إليها الزائر من أقصى العالم؛ ولا غرو فهي مسقط رأس موتسارت، وفيها بزغ مجده؛ وما زال المنزل الذي ولد فيه موتسارت قائماً في سالزبورج، وفيه الجناح الذي قضى فيه طفولته؛ وقد حول هذا الجناح اليوم إلى متحف يحج إليه المعجبون بذكرى الموسيقي الكبير، ويتأملون فيه ذكرياته وآثاره؛ وإنك لتشعر حين ترى هذا المنزل المتواضع الذي حرص أولوا الأمر على استبقائه بشكله القديم؛ وحين تطوف بغرفه الضيقة ذات الأسقف الخفيضة، بنوع من التأثر يمازجه الخشوع؛ ذلك أنك ترى في كل زاوية من المكان أثراً حياً لذلك الذي بهر العالم وسحره منذ طفولته برائع أنغامه ورائع مقطوعاته؛ فهنالك مسودات لكثير من قطع موتسارت كتبت بخطه، وهنالك رسائل كثيرة، وصور عديدة تمثله في مناسبات وحفلات مختلفة؛ وهنالك جمجمة الموسيقى الكبير ذاتها، لا نجد لوضعها معنى بين هذه القطع والآثار الفنية؛ ثم هنالك مناظر سحرية تمثل كثيراً من القطع التمثيلية التي وضع موتسارت مقطوعاتها الموسيقية واشترك في إحيائها مثل (الدون جوان) و (زواج فيجارو) و (المزمار المسحور) و (كوزي فان توتي) و (اختطاف الحريم) وغيرها؛ وهذه المناظر آية في الدقة والإبداع لأنها تمثل المناظر والأشخاص والألوان مجسمة واضحة، وتدل على مبلغ ما انتهى إليه المسرح في عصر موتسارت أعنى في أواخر القرن الثامن عشر من التقدم؛ ولفت نظرنا بنوع خاص من بين هذه الذكريات عدة إعلانات مسرحية ترجع إلى سنة 1780 و 1781، عن روايات يشترك في إحيائها موتسارت وقد ذكر فيها أنه يتولى قيادة الموسيقى، وأن الأثمان عادية أو مخفضة! وما زلنا نرى هذه الأوضاع ونقرأ هذه العبارات التي كان يتخذها المسرح منذ قرن ونصف للإعلان عن نفسه، فيما يصدره اليوم من الإعلانات والبرامج! وإنك لتكاد تقرأ في هذه الغرف المتواضعة، وفي هذه الذكريات المؤثرة طرفاً من حياة ذلك الذي لم تغنه عبقريته الرائعة شر الحاجة؛ ذلك أن موتسارت قد بهر مجتمعات عصره يسمو فنه وافتنانه، ونهل من منهل المجد ما شاء، ولكنه لبث طول حياته يتخبط بين غمار الفاقة، وتوفي مثقلاً بالبأساء والدين
وقد اسبغ تراث موتسارت وذكرياته على سالزبورج شهرة موسيقية عالمية ما زالت تحتفظ بها حتى اليوم. ولسالزبورج موسم موسيقى مشهور تقيمه في كل صيف في يوليه وأغسطس، ويشترك في إحيائه أقطاب الموسيقى العالميون مثل برنو فالتر، فليكس فينجارتنز، وأرتورو توسكانيني؛ وتمثل في هذا الموسم عدة من القطع المسرحية الخالدة التي وضع موسيقاها موتسارت وبيتهوفن وشوبرت وغيرهم من أقطاب الفن، وتنظم حفلات موسيقية رائعة تعرض فيها قطع وأناشيد من وضعهم، وتقوم بتنفيذها فرقة موسيقية رائعة على رأسها أحد أقطاب العصر ممن ذكرنا؛ وتقام إلى جانب هذه الحفلات حفلات موسيقية منوعة، كلاسيكية أو عصرية أو كنسية؛ وقد أعدت بلدية سالزبورج لإحياء هذه الحفلات الشهيرة مسرحاً شاسعاً يمتاز بسذاجة وفخامته معاً؛ وكنا في سالزبورج والموسم على اشده، والمدينة تموج بالوافدين عليها من سائر الأقطار؛ تغص بهم فنادقها ومقاهيها وطرقاتها، ولم نستطع أن نشهد من هذه الحفلات الرائعة أكثر من حفلين لاستحالة الحصول على التذاكر ولأنه يجب للحصول عليها أن نشتري قبل الموعد بأيام إن لم يكن بأسابيع، وكان مما شهدنا حفلاً موسيقياً رائعاً برآسة أرتورو توسكانيني، ونظم في ضحى يوم ماطر كثير البلل، ومع ذلك فلم نتمكن من شهوده إلا بعد جهد جهيد
وتتخذ مدينة سالزبورج وسكانها خلال الموسم استعدادات خاصة لاستقبال آلاف الزوار الوافدين عليها، وتنظيم معدات الاقامة، وتيسير حركة النقل والتنزه، ويرابط في الطرق المؤدية إلى المسرح كثير من رجال البوليس لتنظيم حركة المرور الهائلة التي تجري حوله، وتغص الشوارع المجاورة والمقاهي القريبة بالجماعات الأنيقة وأسراب الحسان من كل جنس وأمة، وتسمع مختلف اللغات في كل مكان
وتقع سالزبورج في بسيط ساحر تحيط به الجبال الشاهقة؛ ومن أشهر بقاعها ونزهها ضاحية (هيلبرون) وقصرها الشهير، وتقع هيلبرون على مسيرة نصف ساعة من سالزبورج، ويربطها بها ترام خاص، يخترق طائفة من الربوع والمحلات المزهرة؛ وقد قصدنا إليها ذات صباح ماطر، وزرنا قصرها وبساتينها الشهيرة، ورأينا في قصر هيلبرون مناظر عجيبة لم نرها في أي أثر آخر؛ ذلك أنه قد نظمت في هذا القصر الغريب مغارات ومجالس جهزت كلها بنوافير من المياه تنبثق من كل نواحيها في أشكال وأوضاع ساحرة؛ ورتبت هذه النوافير والمنابع الخفية في حديقة القصر حول المماشي والأحراج بنفس البراعة والدقة، فكنا نتصور حين تطلق المياه من منابعها الخفية أننا أمام سحر ساحر؛ وفي المغارات والمجالس تماثيل بارزة وصور من الفسيفساء صنعت على مثل صور كنيسة القديس مرقص بالبندقية. وأما القصر ذاته فهو صرح فخم من صروح القرن السابع عشر، وقد زينت غرفة وأبهاؤه بطائفة من الصور الثمينة ومجموعات من الأثاث القديم الذي يرجع إلى عصر إنشائه، وزينت سقفه بالأخص بصور ونقوش بديعة تأخذ الألباب بدقتها وروعتها.
وقد فهمنا من دليل القصر، أن الذي أنشأ هذا الصرح الفخم أسقف سالزبورج في ذلك العصر، وأنه هو الذي أشرف على زخرفته وتنسيقه على هذا النحو المدهش؛ ويقع القصر وسط بستان شاسع نظمت في إحدى جوانبه حظيرة ترتع الغزلان في جنباتها، ويؤمها زوار القصر للتفرج ومداعبة الغزلان
وعلى الجملة فإن هذه المدينة الصغيرة - لأن سالزبورج مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها أربعون ألفاً - تبدو بفنادقها الأنيقة، وطرقها وميادينها المنسقة في ثوب خاص من الحسن والرشاقة، ينم عن حسن ذوق أهلها وسلطاتها البلدية، ويزيد في سحر سالزبورج ومتاع الإقامة فيها، فضلاً عن روحها الموسيقي، ما فطر عليه أهلها من الأدب الجم والشمائل الرقيقة. وهذه في الغالب أخلاق أهل المدن السياحية؛ بيد أنك تشعر في سالزبورج أن هذه الخلال الحسنة ترجع إلى الفطرة أكثر منها إلى مقتضيات المعاملة، وتشعر أنها بعيدة عن الرياء المعسول الذي تأنسه في المجتمعات السياحية الأخرى
وغادرنا سالزبورج لأيام قلائل، وقد ترك بللها المنعش، وموسيقاها الساحرة، وذكرياتها السريعة الممتعة في النفس أجمل الأثر