مجلة الرسالة/العدد 18/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 18/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1933



عيد الكهارب

للدكتور احمد زكي

امتلأت الطرقات وسدت المسالك بالمشاة والراكبين وتكدست العربات الخاصة والعامة من فوق الأرض وتحتها بحمولاتها الإنسانية وكلها وجهتها اوليمبيا، ذلك القصر الواسع في الحي الغربي من لندن حيث يقام كل عام مهرجان كبير، يعرض فيه كل جديد في عالم اللاسلك، وما انتصف النهار حتى أخذ البهو الكبير من القصر السقيف يضيق بمن فيه، وأخذت الخطوات تقصر قي سبيلها بين المعروضات حتى كادت تنعدم الحركة، ولما بلغ الداخلون خمسين ألفا صدر الأمر إلى الأبواب أن تمنع الدخول، وكان على الأبواب الألوف من الناس في صفوف كالجند منتظمة، كل ينتظر دوره واقفا، لا يزحم رجل امرأة ولا يافع شيخا، ونمت الصفوف ذيولا، وتفرعت الذيول وطال الانتظار، ونفد الصبر، وكان اليوم مشمسا حاراً، فأخذت تشيع في الجمهور الصامت بطبيعته أصوات القلق، وأخذ يتبدل النظام السائد بالهرج، وتبدل الهرج بزئاط صارخ واحتجاج منذر، دوت على أثره في داخل القصر الشاسع ثلاثمائة من نواعق اللاسلك ترجو ممن أتم طوافه بالمعروضات أن يغادر بسلام، وخرج من المعرض ممثلون وممثلات من المشهورين في عالم الراديو والمشهورات يعرضن على أرصفة الطريق من ألعابهن وأغانيهن ما يسلي الجمهور ويطيب خاطره، ولكن القدر كان قد غلى وأوشك أن يفور. وبدرت بوادر العنف. فلما تحطمت ألواح الزجاج من بعض المداخل تُلْفِن البوليس فجاء لساعته بركبه ورجله وملك ناصية الموقف في دقائق، واحتبس رجل واحد. وعُدَّ من بخارج البناء عدا تقريبيا فكانوا خمسا وعشرين ألفا.

دخلنا البناء حيث المعرض فوجدناه يتألف من الصالة الكبرى قد بعد طولها، وامتد عرضها، وسما ارتفاعها، وعلى أرضها موائد متطاولة عليها أجهزة اللاسلكي الكاملة قد صفت في خطوط متوازية تستطيل تارة وتستعرض أخرى، وبينها الناس يسيرون كالنمل في بطء وكثرة. وفي الوجه المقابل للداخل سلم عريض قد تغطى بالزائرين وهم في طريقهم إلى الدهاليز العليا، والشرفات الجانبية حيث اكثر المعروضات للقطع المفردة التي تتألف منها الأجهزة الكاملة. وقد راعى المنسقون والعارضون جميعا في تفريق الأماكن وتخصيص المناضد، وكذلك في المعروضات وأنواعها وأحجامها وألوانها وزينتها، أن تتألف من الجميع وحدة كاملة جميلة تسترعي عين الزائر وهو لا يزال على الاعتاب، وكأنهم خشوا أن يكون جمال التنسيق ضعيفا فاترا فرسموا بأنابيب الكهرباء الحمراء في قبالة الداخل على الجدار العريض العالي الذي يهيمن على الدار رسما كبيرا عظيما رائعا يجمع إلى الجمال القوة والفتوَّة. وبلغ عدد العارضين نحوا من ثلاثمائة، وبلغت المبيعات نحوا من ثلاثة ملايين من الجنيهات ستجعل المصانع في شغل شاغل مدى أشهر الشتاء القادم.

وامتنع العارضون عن إدارة الأجهزة والتقاط أمواج الأثير خشية أن يتصدع الجمهور بمئات الأبواق فلم يكن لغير الفني في المعروض مأرب، إلا أن يستمتع ببريق الصمامات وجِدَّة المكثفات وسواد الحُوَيَّات ودقة النجارة في صناعة الأبواق والخزانات. أما الفني فلم يكن هناك حد لنهمه فقد امتاز هذا العام بتقدم في كل قطعة من مستقبلات الراديو أفسد على الكثيرين اغتباطهم بالأجهزة القديمة التي لديهم، وحركهم وسيحركهم لا شك، أما إلى استبدال قديم بجديد، وأما إلى الاقتصار على الترقيع لتنال أجهزتهم حظا من الجدة. ولكن في كثير من الأحوال يتناول التجديد أساس الجهاز من حيث النظام الذي بني عليه ونوع الأجزاء التي تستخدم فيه. ففي هذه الحالة قد يتكلف الترقيع أكثر من شراء الجديد. ولعل هذا هو السبب في أن كثيرا من مخازن لندن كانت تعرض قبيل ابتداء المعرض أجهزة كثيرة هي لا شك من الطرازات القديمة بأثمان بخسة بلغت النصف فما دونه. وهذه حال لا تسر مقتني الراديو. ومن المؤسف إنها ستتجدد كل عام ما فتئ العلماء يبحثون وما ظلت الشركات وهي عديدة وغنية تتنافس في تجويد المحصول. إلا أن صنفا من المستهلكين لا يفتأ يجد لذته في هذا التغيير والتبديل بحلول كل عام جديد. ذلك فريق الهواة الذين يركبون أجهزتهم بأنفسهم، ويفقهون كيف تعمل فهؤلاء يرحبون بكل جديد للمتعة التي يجدون في الحل والربط وفي ترقب التحسن الناشئ في استقبال للأثير أدق. والتقاط للكلام والنغم أصفى وأروق. ومن الغريب أن كثيرا من الهواة هَوَاهُم يقف عند هذا الحد. أو إن هو تعداه أصبح رغبة عادية لا يتحرق لها إرَم ولا يغلي معها دم. هواهم في الآلة المعدنية الزجاجية الخشبية التي تلعب فيها أصابعهم وفي النتائج التي تأتي به من حيث الأداء. أما ما يحمله الأثير من جملة بديعة أو نغمة مشجية فله عندهم المحل الثاني. ولكم سر الزائر الغريب للمعرض أن يرى شبانا هواة لم يعدوا بعد العشرين ينسلون كالسحالي من خلال هذا الزحام يجمعون في أكياس من الورق بأيديهم نشرات العارضين وكتيباتهم وقد حوت كل طريف حادث.

وتتناول التحسينات المعروضة الاستقبال وحده، أي تحسين الآلة من حيث حسن أدائها، وحمايتها من البيئة التي تعمل فيها. مثال ذلك أن حسّ الآلة زاد، أي أنها تستطيع أن تلتقط أضعف الموجات في الأثير وان تكبرها دون أن تفقد منها شيئاً لا من النغم العالي ولا النغم الواطئ، أو دون أن يضعف هذا أو ذاك، فان قيمة ذلك كبيرة في إذاعة الموسيقى، ولو انه ليس له مثل هذا الخطر في إذاعة الكلام. كذلك زادت في الآلة القدرة على الاختيار، فكثيرا ما أراد الإنسان مناغمة محطة فهوّشت عليه محطة أخرى موجتها قريبة من تلك، فاصبح الآن يستطيع أن يحجب المحطة التي يريد حجبها. كذلك كان السامع يستمع إلى المحطة التي يشاء في اغتباط وهدوء فلا يلبث أن يرى الأصوات تضعف حتى تكاد تنعدم ثم تهجم على أذنه في قوة ثم تتقهقر فلا تترك في نفسه لذة من سماع، فاصبح بالآلات الجديدة في مأمن من هذا يستمتع لنغم ذي قوة مضطردة واحدة. كذلك كانت الآلات تتأثر بما في البيت أو الطريق من الكهرباء، كأن يكون بالمسكن مصعد أو بالشارع ترام، أما الآن فقد حاطوا الآلة (أو الأصوب بعض أجزاءها) بما يصد عنها كل هذا الأذى. حدثني صديق انه الآن لا يجد للمصعد هذا الأذى مع أن جهازه لا يفصله عنه غير سمك حائط. كذلك كنت تتطلب استماع محطة فتدير اللولب فيمر بك على محطات أخرى منها القريب القوي الذي يصرخ في البوق ذلك الصراخ المؤلم المعروف، أما الآن فتضبط الآلة كل هذا من نفسها. بل من الآلات ما لا تسمع له صوتاً وأنت تدور باللولب تطلب المحطة التي تريد. وانما ترى مصباحاً ينير ويظلم كلما مر بمحطة، فاذا أضاء عند موجة المحطة التي تريدها خفضتَ زرا فجاءك النغم والصوت على أشده، هذا إلى كثير من التغييرات التي لا يمكن ذكرها دون الدخول في معقدات الفن، ودون ذلك حوائل منها اللغة العربية، ولقد جازفت في هذا المقال فقلت (المكثف) و (الحَوِيَّة) و (المناغمة) و (المستقبِل) وفي نفسي شك كبير فيم يفقه القارئ من ذلك.

أما من حيث أحجام الأجهزة وشكلها فلم تبق الشركات رغبة لراغب إلا قضتها، فالجهاز الكبير الذي يملأ الحائط كأنه قطعة من الأثاث موجود، والجهاز الصغير الذي تربطه إلى قائم عجلة الإدارة من سيارتك موجود، والجهاز الذي تستقي له من كهرباء المنزل موجود، والذي تستقي له من كهرباء البطاريات موجود، ومهما شئت من أشكال أو ألوان لخزانة الجهاز تتوافق مع شكل الحجرة التي تضعه فيها ولونها فموجود كذلك، ما وُجدت في كيسك الجنيهات. أما الذي خُيِّبت آمالنا فيه بحق فالأجهزة التي تنقل لك صور الرجل المذيع وهو يتكلم أو يمثل أو يغني فقد أقامت شركة ماركوني جهازا كبيرا من تلك الأجهزة عرفناه من بعيد لأنه كان حجر عثرة في سبيل سيل الزحام المتدفق لأنه كان ينجمد هناك. وصبرنا حتى بلغناه وإذا بوسطه لوحة سوداء طولها قدمان في مثلهما عرضا هي التي تركزت اليها الأنظار. أخذنا ننظر مع الناس فلم نر شيئا، وكنا على ساحل الصخرة الآدمية في قبالة اللوحة، وبعد لأي ضُغطنا من حيث لا ندري إلى مكان أحب واقرب، فعندئذ تبينا أشباح الممثلين وتتبعنا حركاتهم وهي متصلة حقا كاتصالها على شاشة السينما، إلا أننا خلناهم من ظلمة المنظر يلعبون في ليلة مقمرة قد حجب بدرها سحاب قاتم. على أنها بادرة حسنة وأول الغيث قطر ثم ينهمر.

لندن في 30 أغسطس 1933