مجلة الرسالة/العدد 178/إلى من يسمع!. . .
مجلة الرسالة/العدد 178/إلى من يسمع!. . .
مقصورة: غلالة:
للأستاذ كرم ملحم كرم
عقدنا الأمل الأكبر على المجمع اللغوي المنعقد في مصر، وتوسمنا فيه حافزاً للخروج باللغة العربية عن جمودها وهي البعيدة عن روح العصر، الضيقة المسالكبمستنبطات العلم الحديث، والفسيحة الفجاج بما لنهضة اليوم غُنية عنه. فكان من المجمع الكريم أن خيبنا خيبة فاضحة. فما جاد علينا رجاله الميامين - دفع الله عنهم الخيبة!. . . - بكلمة واحدة من الكلمات التي خلقوها أو اشتقوها يجوز الركون إليها. فأتحفونا بالوحشيّ الغريب النافر منه حتى ابن البادية الجاثم بين كثبانه ونخيله، ورمونا بمئات (المستشزرات) ونحن نضيق بواحدة منها.
ألا عفا الله عن الأرزيز والجماز وأخواتهما. فمن يحفظها ويجهد قلمه في إثباتها والذوق نفسه يمجها. أنعتمدها نكاية بالذوق؟
ليعلم المجمع اللغوي السامي المقام أنه كفر بالرسالة المفوض أمرها إليه، فزلت به القدم في الخطوة الأولى. وإذا أبى إلا الصراحة قلنا أن ثقتنا به ذهبت عنا، خصوصاً والمفروض في إنشاء المجامع العلمية اللغوية رفع اللغة إلى مستوى روح العصر، لا التقهقر بها إلى ما بعد عشرات الأجيال، فيتخاطب بها جيل اليوم كما كان يتخاطب بها الأعراب في البادية.
والأعراب أنفسهم نفروا من كل لفظ غريب، فهل يجوز لمن يفاخر أسلافه بكونه ابتدع الطيارة والموّاج والمذياع أن يتكلم بلغة راعي الشويهة والبعير، وضارب خيام الوبر، ومفترش البلس؟
إنها لأضحوكة. والمجمع اللغوي في مصر وفر لنا هذه الأضحوكة، وربما شاء بها أن ينفي عنا جهامة الأيام السود. فالشكر له كل الشكر. على أنه كان في وسعه أن يثير فينا روح الإعجاب بدل أن يجرنا إلى الضحك في موقف الجد. فما يدعو رجاله إلى التمسك بالكلام العويص ومجالس الشنفري والملك الضليل والهمذاني وصاحبنا الفرزدق وإمامهم زهير والحطيئة وعمر بن أبي ربيعة ولا غضاضة بجرير؟. . . فهؤلاء ما حشوا أشعارهم بما لا يُفهم من وحشي غليظ، بل جاؤونا بكلام يقال اليوم وغداً وسميعه طروب له راض عنه، لا يحتاج أبداً إلى القاموس كي يدرك ما يقرأ ويقع في أذنيه. فكأنه وهو يصغي إلى هذا النفر من الشعراء في حضرة خطيب من أبناء القرن العشرين!
وعندنا أن السادة أعضاء المجمع اللغوي الزاهر لو استشاروا أذواقهم لوقعوا على غير هذه المتكأكآت المفرنقعات. ولكنهم حرصوا على الشاذ فرموا أنفسهم بكل شذوذ. وما ضرّهم لو نهجوا نهج الأقدمين في إثبات الكلمات الدخيلة الشائعة علىالألسن والأقلام. وإذا أبوا إثباتها كما هي فليدوروا حولها بما لا تبعد بينهم وبينها الآفاق. فان يروا من الحيف أن نقول (تلفون) و (فونوغراف) و (بيجاما) فما عليهم إلا أن يقاربوا بين هذه الكلمات وكلمات عربية مشتقة أو أن يخلقوا كلمات جديدة غير وحشية تدل عليها.
أنا لا أرى اللغة تضيق بكلمة (تلفون) وقد فتحت صدرها لمئات الكلمات الدخيلة من فارسية وعبرية وسريانية ويونانية. فكما أثبتت الإسطرلاب والشمعدان والقنديل والورد والدستور والخردق والمنجنيق وما أشبه، في استطاعتها إثبات (تلفون) لاسيما والكلمة شاعت وباتت ملء الأفواه والأسماع. وإذا طاب لأفراد المجمع المحترمين العدول عنها فهناك كلمتا (هاتف) و (ندى) وكلتاهما أفضل من الأرزيز. وليس للمجمع إلا أن يقر إحداهما لتجري عليها الألسن والأقلام في البلاد العربية جمعاء، وهي ترى في المجمع صاحب الكلمة الفاصلة في الموضوع إن يكن ثمة تقدير للصواب والمألوف.
أجل، لم يثبت المجمع اللغوي المصري وجوده. فكان أشبه بإخوانه المجامع التي قامت في سائر البلاد العربية وحاولت أن تخدم لغتها فسقط في يدها وخفت صوتها؛ وهذا من سوء الحظ. فانه ليؤسفنا أن يجول في الخواطر أن المجمع المصري لا يملك الكفاية في القيام بالواجب المفروض عليه، مع أن رجاله متضلعون من علم اللغة، ولكن ما ينفع العلم إذا ندّ عن الذوق؟. . .
هذه كلمات تجرح - ولا نكير - غير أني أجرؤ على التفوُّه بها فالموقف يقضي بإعلانها، خصوصاً ونحن إزاء حقائق لا تجوز فيها المصانعة ولا المحاباة.
لقد طلبنا من المجمع أن يلجأ إلى قاموس (لاروس) الفرنسي يترجمه إلى اللغة العربية، وكفى الله المؤمنين القتال؛ على أن يترجمه بكلمات غير ثقيلة على السمع ولا مهجورة، فلم ينزل المجمع على هذا الطلب الحق، وكان أن نفحنا بألفاظ مستغربة من مخترعاته يؤلمنا أن يتوكأ عليها في تشييد مكانته، وهي ألفاظ واهية كالدعامة الوشيكة الانهيار.
ولو أنصفت الحكومة المصرية في اختيار رجال المجمع لنظمت عقدة من فئة مختارة لا من علماء اللغة فحسب؛ بل من أساتذة كل فن. فاللغة مجموعة شاملة لا تقف عند سيبويه ولا عند الكسائي. لا تدين بصلف علماء الكوفة، ولا بعناد أئمة البصرة. فالعصر يدعوها إلى جمع العلوم كافة. ومجمعها اللغوي يجب أن يضم العلماء من أبناء الفنون دون ما استثناء. فيحشد في حلقته المهندسون والاشتراعيون والأطباء والصحفيون والتجار وأرباب الصناعات، ليتفق الجميع على الكلمات المطلوبة لكل فن ومهنة. وهذا ما غاب عن الحكومة المصرية وهي تنشئ صرح المجمع، فشاءت إصلاح اللغة وتهذيبها فكان أن قضت عليها بتقهقر آخر لسنا بحاجة إليه. فالمصيبة الأولى أهون من مصيبة اليوم في (نفثات) المجمع العاطرة.
ولكن المجال لا يزال رحيباً، والمجمع قائم البنيان، ومن السهل التبديل أو الإضافة؛ فيعمد المجمع إلى محو ما رسم، أو إلى خلق ألفاظ جديدة لا تعقد فيها. وبهذه الوسيلة وحدها تتعادل الكفتان، ويثق أبناء اللغة العربية بما يعلن رجال المجمع ويؤيدونه فيما قرّ رأيه عليه؛ وإلا إذا بقيت الحال كما نرى فما على المجمع إلا أن ينسج بيده كفنه، وليس فيما اخترع واشتق كلمة تتداولها الأقلام.
لي على المجمع الكريم اقتراح بسيط، فما َيضرُه لو أقرّ لفظه (مقصورة) لكلمة الفرنجية؟. . . فالكلمة تحوي معنى القصر وفخم لطيف يشبه القصر بعض الشبه. ثم إن كلمة (مقصورة) معناها حجرة، واللغة العربية أجازت تسمية الكل باسم الجزء، عدا أن الكلمة معروفة خفيفة الوقع على السمع، قريبة المتناول، مدعاة إلى التفاخر، غير مهجورة. فمن يقول: (هذه مقصورتي!. . .) كمن يقول: (هذا قصري. . .!) وفي ذلك ما يرضي ذوي المطامع وعشاق الأبهة
ولقد تفضل المجمع فأطلق كلمة (ظظر) على الفرنجية فما معنى (ظظر) أيها المجمع المحترم؟. . . وهب كان لها معنى فمن يتلفظ بها وهي ثقيلة كالرصاص، على حين أن كلمة (مقصورة) لطيفة شائعة، تسرع إلى اقتباسها الألسن والأقلام؟
وهناك كلمة فماذا يحول دون تسميتها بالغلالة، والغلالة شعار يلبس تحت الثوب، فهل ما يمنع أن تكون الغلالة
اقترح على المجمع إثبات هاتين الكلمتين في قاموسه، وإذا استزادنا زدناه، وإن أبى العمل باقتراحنا طلبنا إلى حملة الأقلام أن يتناولوا اللفظين فيما يكتبوه ويتحدثون به وليس فيهما شائبة
ولا يغضب المجمع أن يتصدى لانتقاده كاتب يغار على لغته ويريد لها النهوض والسير في ميدان العصر الفسيح والخروج من فقرها اللغوي في عهد المنطاد والسيارة والصاروخ. فهي لا تزال تعيش بذهن عتيق مثلها يوم كان البعير لديها أشبه بالطيارة، والسهم كالمدفع، والنار في رؤوس الجبال كالمذياع والمواج.
لقد عرف الشيخ إبراهيم البازجي كيف يحضر اللغة بما وفر لها من كلمات مستحدثة تماشي الذوق والعصر، أيخلو المجمع من مثيل للرجل العلامة وكلٌّ ينادي نفسه نعم الفتى؟. . .
نحن نخاطب من له أذنان وعينان. فليسمع المجمع اللغوي المصري الرفيع العماد!
بيروت
كرم ملحم كرم