مجلة الرسالة/العدد 177/بغير عنوان. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 177/بغير عنوان. . .

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1936



(إن وجدتم في هذه الكلمة صراحة في الوصف، فلا تلوموا الطبيب فأنه يصف المرض، ليعين الدواء)

للأستاذ علي الطنطاوي

كان شاباً غُرَانِقاً جميلاً، صبوح الوجه، متأنثاً، قد أصيب بمرض التَّجمل. . . فلم يكن يجئ إلى المدرسة إلا متزيناً مستعداً استعداد عروس تزف إلى بعلها، قد صفف شعره ودهنه وعطره ولبده وعقربه على صدغيه، وحلى وجهه وصقله، وصنع به ما لست أدري. . . فبدا أبيض أحمر مشرقاً مجلواً صقيلاً، كأنه صفحة مرآة. . . وكشف عن أعالي صدره، وأحاط عنقه بهذه العقدة التي يفتن في عقدها واختيار لونها واتساقها مع الحُلة التي يلبسها افتناناً. . . ولا يزال أبداً يمد يده إليها يتلمّسها، ويصلحها ويطمئن عليها، ثم يحرك رأسه حركة غنجة يردّ بها عقارب صدغيه إلى مكانها!

وكان واضح الجبين، أزجّ الحاجبين حتى كأنهما قد خطا بقلم، أنجل العينين أشهلهما كأن لهما لون السماء وعمق البحر، وكأنهما تستجديان الحب. . . إذا نظر غض الطرف من الحياء، ودانى بين جفونه، وبرقت عيناه الناعستان فقالتا كلمة فلم تتم، فأنمها فمه القاني الصغير وشفتاه المضمومتان. . . وإذا تكلم تكلم بصوت لين حالم سكران، كأن ألفاظه تقول شيئاً، ولهجته ونبراته تقول شيئاً آخر، تقول: إن رجولة صاحبي رجولة مزورة! وإذا مشى تثنى وتخلع وتكسر، وماج جسمه موجاً، وذهب كل عضو منه في ناحية، كأن جسمه متفكك، قد تقطعت أوصاله وفصمت عراه وانحلت لوالبه. . . وإذا دعوته أقبل إلي يتهادى ويميل، فإذا وصل إلى حيث أكون، وجد أقرب متكأ فأستند عليه، كأنه بناء لا يقوم إلا إذا أسندته بدعامة، وإذا كلمته خجل كأنه فتاة في الخدر، وأجاب بصوت خافت يكاد يبتلعه الخجل، فكنت أزعق في وجهه من الغيض، ثم أطرده طرداً. . .

ولم يكن ينصرف إلى علم أو يقبل على درس، لأن عقله قد سال على جوانب جسمه خرقاً وثياباً، ولم يبق منه في داخل ما ينفع لعلم أو درس، فهو دائماً ينظر في عطفيه، ويتأمل ثيابه ويخرج من جيبه مشطه ومرآته، ولولا بقية من حياء لأخرج أبيضه وأحمره وقلم شفتيه وكنت أراه في باحة المدرسة فأراه غريباً عن هؤلاء الشباب لا يطيق حراكاً، ولا يحسن لعباً، ولا يدفع عن نفسه اعتداء، وما فيه من الرجولة إلا اسمه وبدلته.

وحاولت إصلاحه، وتعهدته بالنصح والإرشاد، فكنت كمن ينفخ في غير ضرم، فأيست من إصلاحه وكرهته وأبغضته، وجعلت أزوي بصري عنه، وأتناساه وأهمله، ثم افتقدته فلم أجده، ثم علمت أنه قد فارق المدرسة.

ومرت أسابيع، ثم رأيت في مكانه طالباً جديداً من الطلاب الذين يتدربون على الجندية، يلبس الثوب العسكري، وعلى وجهه طابع الرجولة: له شاربان كاملان، وأثر اللحية ظاهر على خديه، والقوة والصرامة بادية في عينيه وملامحه؛ وكان قوي النظرات، صعاقاً جهير الصوت، ذكياً مقبلاً على الدرس، فطناً ألمعياً؛ وكان سريع الحركة، جم النشاط، إذا دعوته أقبل يسير بخطى موزونة، يطأ الأرض وطأ شديداً، وقد نصب قامته ورفع رأسه، فإذا قام بين يدي قرع رجلاً برجل ثم رفع يده بالسلام لا كما يرفعها مثلي أو مثلك، بل كما يرفع يده الجند بالسيف يستله من قرابه، وإذا كلمته أجاب بجرأة وأدب؛ وكنت أراه في ساحة المدرسة، فأراه على اجتهاده وإقباله على العلم، قوياً نشيطاً يصارع الطلاب ويباطحهم، فإذا تمكن من منهم وعلا عليهم عفا عنهم وأبقى عليهم، فكنت أعجب من قوته ونبله، وعلمه وفضله، وأكبر فيه هذه الصفات.

ثم أنني أحببت أن أشجعه وأضرب منه للطلاب مثلاً، فتكلمت وأثنيت، وقلت: كم بين هذا وبين ذاك من فرق. . .!!

فصاح الطلاب: ومن هذا ومن ذاك؟ أنهما شخص واحد!

قلت: ويحكم! فأي معجزة هذه التي بدلته شخص آخر، وأنشأته إنشاء جديداً؟

قالوا: يا أستاذ. . . إنه تدرب أسابيع على الجندية. . . . . .

(بغداد)

علي الطنطاوي