مجلة الرسالة/العدد 174/نظرية النبوة عند الفارابي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 174/نظرية النبوة عند الفارابي

مجلة الرسالة - العدد 174
نظرية النبوة عند الفارابي
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 11 - 1936



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

- 2 -

أثيرت مشكلة الوحي في العالم العربي منذ بدأ النبي دعوته. فكفار فقريش ما كانوا يريدون أن يقبلوا أن محمد بن عبد الله ينزل عليه وحي سماوي، وكثيراً ما رددوا جملتهم التهكمية المشهورة: هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء. واستبعدوا عليه كل البعد أن يتصل بالعالم الإلهي وهو بشر مثلهم يأكل ويشرب ويتردد إلى الحوانيت والأسواق: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق؛ لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها) بيد أن معجزاته بهرتهم وفصاحته أفحمتهم وهم أهل القول واللسن، وزعماء البلاغة والبيان. فأخذوا يتهمونه تارة بالسحر والشعوذة، وأخرى بالكهانة والتنجيم؛ وعزوا إليه قوى خفية لا حصر لها. ولم يكن له من جواب على هذه الدعاوى الباطلة والاتهامات القاسية إلا أن يقول: (ما أنا إلا بشر مثلكم يوحى إلي). فهو لا يجيء بشيء من عنده، ولا يفتري عليهم الكذب، وإنما يبلغ رسالة الله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين). ونظرية الإسلام في الوحي وطرائقه سهلة واضحة. فهناك ملك خاص هو جبريل عليه السلام، قادر على التشكل بأشكال مختلفة شان الملائكة الآخرين؛ وكل وظيفته تتلخص في أنه واسطة بين الله وأنبيائه. وعنه تلقى محمد كل الأوامر الدينية، اللهم إلا في ليلة المعراج فقد اتصل بربه مباشرة واستمع ما فرض عليه وعلى أمته. ويجب أن نشير كذلك إلى أن الأحلام وسيلة من وسائل الكشف والإلهام، فإن النفوس الطاهرة تصعد أثناء النوم إلى عالم الملكوت حيث تقف على الأمور الخفية والحقائق الغامضة. وقد رأى النبي قبل أن يبدأ دعوته أحلاماً آذنت بمهمته، وكانت إرهاصا لنبوته وبشيراً برسالته: والرؤيا الصادقة جزء من أربعين جزءاً من جزاء النبوة. وفي القران الكريم سورة كاملة تشرح الأحلام وأثرها في التنبؤ بالغيب، ونعنى بها سورة يوسف.

لم يتردد رجال الإسلام في الصدر الأول مطلقاً في التسليم بهذه الوسائل الخاصة بالوح والإلهام. ولم يحاول واحد منهم أن يسأل عن النبوة في سرها وأساسها، ولا عن المعجزات في عللها وأسبابها. وآمنوا إيماناً صادقاً بكل ما جاء من عند الله دون بحث أو تعليل. وقد عنوا من الفجر الأول للإسلام بالرؤيا وتعبيرها ووضعوا في ذلك أبحاثا مستقلة لم تلبث أن كونت علماً خاصاً. وإنا لنجد بين التابعين تلك الشخصية الجليلة المعروفة بين رواة الحديث، وهي شخصية ابن سيرين التي كانت تعد حجة في تأويل الأحلام وتفسيرها. وعل هذا في الغالب هو السر في أن المتأخرين نسبوا إليها في هذا الباب كتباً ليست من صنعها.

بيد أن هذا التسليم الهادئ لم يطل أمده، وهذا الإذعان الفطري لم يبق في مأمن من الشكوك والأوهام. فقد اختلط المسلمون بعناصر أجنبية مختلفة نفثت فيهم كثيراً من سمومها، لم ترع أصلاً من أصول دينهم إلا وضعته موضع النقد والتشكيك والتضليل. ولا غرو فقد كانت هذه العناصر موتورة من الدين الذي ألغى أديانها ومن الحضارة الجديدة التي سلبتها مجدها وعزها. لذا تألبت في كل جموعها، وأخذت تحارب الإسلام بشتى الوسائل لتثأر لنفسها ودينها وتسترد نفوذها وسلطانها، ولكنها عبثاً حاولت وباءت بالخيبة والفشل: (إنا نحن نزَّ لنا الذكر وإنا له لحافظون). فالمزدكية والمانوية من الفرس، وأنصارهم من زنادقة سادة العرب، بدأوا في القرن الثاني للهجرة ينشرون دعوة التثنية ويهدمون فكرة التوحيد التي قام عليها الإسلام. وكلنا يعلم خبر بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس الثنويين اللذين كانت لهم مجالس خاصة تذاع فيها الآراء المزدكية والمانوية السمنية وغيرهم من براهمة الهند أخذوا في ذلك العهد نفسه ينادون بتناسخ الأرواح، وينكرون النبوة والأنبياء، ولا يرون حاجة البشر إليهم. وصاحب الأغاني يقص علينا حديث جرير بن حازم الأزدي السمني وما كان بينه وبين عمر بن عبيد في البصرة من حوار ونقاش. وملأ اليهود كتب الحديث والتفسير باسرائيلياتهم، وقالوا بالرجعة والتشبيه وخلق القران كما قالوا بخلق التوراة من قبل. وأرسل آباء الكنيسة على المسلمين شواظاً من أسئلتهم واعتراضاتهم المتعلقة بمشكلة الجبر والاختيار فزادوها تعقيداً، وشغلوا الناس بها فوق عرفهم ومألوفهم، وذهبوا إلى إنكار أبدية عذاب النار فقال الجهم بن صفوان معهم إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما واجترأ الدهرية على أن ينكروا البارئ جل شأنه والعقاب والمسؤولية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.

وقد سل المعتزلة وغيرهم من مفكري الإسلام لهؤلاء وهؤلاء سيف الحجة والرهان وجادلوهم جدالاً قد لا نجد له نظيراً في تاريخ الأديان الأخرى. فأبلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بلاء حسناً في معارضة بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس. وناظر أبو الهذيل العلاف الثنوية في البصرة وهدى بعضهم إلى الإسلام. وكان للنظام، وهو أحذق الجدليين في الشرق، قدم صادقة في مناقشة الزنادقة والدهرية والديصانية. ثم جاء من بعده تلميذه الجاحظ فسار على سنته، وبذل في هذا النضال همة طائلة ومهارة فائقة، واستعان عليه باطلاعه الواسع وأسلوبه العذب وقلمه السيال. وفي كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط المعتزلي الذي طبع في مصر أخيراً تفاصيل كثيرة عن هذه الملاحم الكلامية والمعارك الجدلية. وكثر الحوار بين المسلمين والنصارى من جانب وبين المسلمين واليهود من جانب آخر. وأخذت طائفة من الإسماعيلية على عاتقها رد شبه مفكري النبوة والأنبياء ومعجزاتهم. وفي اختصار كان القرنان الثالث والرابع للهجرة - أو التاسع والعاشر للميلاد - ميداناً فسيحاً لجدال عنيف شمل معظم أصول الإسلام ومبادئه.

وليس هناك شك في أن التسليم بالوحي والمعجزة ألزم هذه الأصول وأوجبها؛ فإن منكري النبوة ينقضون الدين من أساسه ويهدمون الحضارة الإسلامية كلها. وعلى الرغم مما في هذه الدعوى من جرأة وفي هذا الموقف من تهجم، فإنا نجد بين المسلمين من وقفوه. ودون أن نعرض لكل من خاضوا غمار هذا الموضوع في القرنين الثالث والرابع للهجرة نشير إلى رجلين: هما أحمد بن اسحق الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب. فأما الأول فشخصية غريبة للغاية، ولا يعرف بالدقة تاريخ مولده ولا وفاته، ويغلب على الظن أنه مات في أخريات القرن الثالث. وهو من أصل يهودي نشاً في راوند قرب أصبهان، ثم سكن بغداد واتصل بالمعتزلة، وكان من حذاقهم، وعده المرتضى بين طبقتهم الثامنة. إلا أنه لم يلبث أن خرج عليهم لأسباب لم يجلها التاريخ بعد، وحمل عليهم، بل وعلى الإسلام وتعاليمه المختلفة، حملة عنيفة. ولازم الملحدين واتصل بهم اتصالاً وثيقاً. ويظهر أنه أضحى دسيسة ضد المسلمين يدبر لهم المكائد ويُستأجر للطعن عليهم وينشر فيهم عناصر الزيغ والإلحاد. ولم يخف أمره على بعض اليهود المخلصين الذين حذروا المسلمين منه وقالوا لهم: ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا. وقد كتب كتباً كثيرة كلها انتقاص للإسلام ورجاله؛ منها كتاب فضيحة المعتزلة في الرد على كتاب فضيلة المعتزلة، الذي وضعه الجاحظ من قبل، وكتاب الدامغ يعارض به القران، وكتاب الفرند في الطعن على النبي ، وكتاب الزمردة في إنكار الرسل وإبطال رسالتهم. والكتاب الأخير يعنينا بوجه خاص فإنه يعطينا فكرة عن مسألة النبوة، وكيف كانت تثار في ذلك العهد. وقد بقي هذا الكتاب مجهولاً إلى زمن قريب؛ ويرجع الفضل في التعريف عنه إلى صديقنا المسيو كراوس الذي اهتدى إليه في مخطوطة من المخطوطات الإسماعيلية الموجودة في الهند، وهذه المخطوطة ليست إلا جزءاً من المجالس المؤيدية المنسوبة إلى المؤيد في الدين هبة الله بن أبي عمران الشيرازي داعي الدعاة الإسماعيلي أيام الخليفة الفاطمي المنتصر بالله وتشتمل المجالس المؤيدية في جملتها على 800 محاضرة ألقيت في (دار العلم) بالقاهرة في منتصف القرن الخامس الهجري، ودرست فيها المشاكل الإسلامية على اختلافها. وفي المجلس السابع عشر من المائة الخامسة إلى المجلس الثاني والعشرين يعرض المحاضر لأقوال الراوندي في الطعن على النبوة ويعقب عليها بالنقض والرد. وهذه المجالس الستة هي التي نشرها المسيو كراوس وترجمها إلى الألمانية وعلق عليها تعليقاً ضافياً يدل على اطلاعه الواسع وبحثه العميق في مجلة الرفستا الإيطالية سنة 1934. فهي لا تحوي كتاب الزمردة في مجموعه، بل فقرات منه تولى الإسماعيلية مناقشتها وإظهار ما فيها من خطأ ومغالطة. وقد صيغت هذه المناقشة في قالب مشوق جذاب، وإن تكن مسجعة سجعاً ثقيلاً أحياناً، وفيها دفاع وردود عقلية هي أثر من آثار الثقافة الإسماعيلية المترامية الأطراف. ولا يتسع المقام لعرض هذه المناقشة في تفصيلها؛ وسنكتفي بأن نستخلص دعاوى ابن الراوندي واعتراضاته.

قد يكون أول شيء يلحظه المطلع على هذا الحوار هو ما في ابن الراوندي من حذق ومهارة ومكر ودهاء. يقف موقفاً بعيداً عن التحيز - ولو في الطاهر على الأقل - كي يجتذب إليه كل القراء، فهو لا يتعرض للنبوة بالنفي والإنكار فقط، بل يناقش موضوعها مناقشة حرة طليقة يأتي فيها على أقوال المثبتين والمنكرين. وكم نأسف لأن صاحب المجالس المؤيدية أهمل جانب الإثبات في هذه القضية. ولو وافانا به لاستطعنا أن نحكم في وضوح ما إذا كان واضع كتاب الزمردة يكيل بكيلين. على أن هناك ظاهرة أخرى تؤيد أن ابن الراوندي يمعن في الدهاء والمكر؛ فهو يعلن في أول بحثه أنه لا يعمل شيئاً سوى أنه يردد أقوالاً جرت على ألسنة البراهمة. في رد النبوات. وسواء أكانت هذه الأقوال من آثار الفكر الهندي أم من اختراع ابن الراوندي فهي تتلخص فيما يلي: إنكار للنبوات عامة ونبوة محمد خاصة، نقد لبعض تعاليم الإسلام وعباداته، ثم رفض في شيء من التهكم للمعجزات في جملتها. فأما الرسل فلا حاجة إليهم لأن الله قد منح خلقه عقولاً يميزون بها الخير من الشر ويفصلون الحق عن الباطل، وفي هدي العقل ما يغني عن كل رسالة. يقول ابن الراوندي: (إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعد خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب. فإن كان الرسول يأتي مؤكداً لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته؛ إذ قد غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته). وسيراً في هذا الطريق العقلي المزعوم يرى ابن الراوندي أن بعض تعاليم الدين منافٍ لمبادئ العقل، كالصلاة والغسل والطواف ورمي الحجارة والسعي بين الصفا والمروة اللذين هما حجران لا ينفعان ولا يضران. على أنهما لا يختلفان عن أبي قبيس وحراء في شيء، فلم امتازا على غيرهما؟ وزيادة على هذا أليس الطواف بالكعبة كالطواف بغيرها من البيوت؟ والمعجزات أخيراً غير مقبولة في جملتها ولا في تفاصيلها؛ ومن الجائز أن يكون رواتها، وهم شرذمة قليلة، قد تواطأوا على الكذب فيها. فمن ذا الذي يسلم أن الحصى يسبح أو أن الذئب يتكلم؛ ومن هم هؤلاء الملائكة الذي أنزلهم الله يوم بدر لنصرة نبيه؟ يظهر أنهم كانوا مفلولي الشوكة قليلي البطش، فانهم على كثرتهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم لم يقتلوا أكثر من سبعين رجلاً. وأين كانت الملائكة يوم أحد حين توارى النبي بين القتلى ولم ينصره أحد؟ وبلاغة القران على تسليمها ليست بالأمر الخارق للعادة، فإنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها، ويكون في هذه القبيلة طائفة أفصح من البقية، ويكون في هذه الطائفة واحد هو أفصحها. وهب أن محمداً غالب العرب في فصاحتهم وغلبهم، فما حكمه على العجم الذي لا يعرفون هذا اللسان وما حجته عليهم؟

لسنا في حاجة مطلقاً لأن نرد على هذه الشبه الواهية والدعاوى الباطلة، وسيدرك القارئ بنفسه ما فيها من تضليل ومغالطة. ولا نظننا في حاجة كذلك إلى سرد الدفاع المجيد الذي دبجه يراع الإسماعيلية ضدها، وفي مقدور كل باحث أن يرد عليها بآرائه الخاصة وأفكاره المستقلة؛ وكل ما نريد أن نلاحظه هو أن ابن الراوندي يردد نغمة ألفناها لدى المعتزلة من قبل. فهو ينادي بالحسن والقبح العلقيين، ويذكرنا بذلك السؤال الذي وضعته مدرسة المعتزلة لأول مرة وهو: هل الإيمان واجب بالشرع أو بالعقل؟ بيد أن المعتزلة المخلصين لم يستخدموا العقل هذا الاستخدام السيئ، وبذلوا جهدهم في أن يوفقوا بينه وبين الدين، وأن يردوا على شبه الزنادقة والملحدين بكل ما أوتوا من حجة بينة وبرهان قاطع. ومسألة العقل والنقل هي عقدة العقد ومشكلة المشاكل في ذلك العهد! وسنعرف فيما يلي كيف استطاع الباحثون الآخرون حلها.

(يتبع)

إبراهيم مدكور