مجلة الرسالة/العدد 173/صور سياحة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 173/صور سياحة

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1936


4 - ليالي باريس

مونمارتر ومونبارناس

المسارح والمنتديات الليلية

بقلم سائح متجول

للمدن العظيمة في الليل حياة أخرى غير حياة النهار، ولهذه الحياة الليلية متاعها وسحرها، ولها أحياناً خطرها وألوانها القاتمة؛ ففي تلك المقاهي والمنتديات الساطعة، وفي تلك المسارح الأنيقة، وفي تلك الأبهاء والحانات الليلية التي تزينها أسراب من الحسان ينفثن السحر من عيونهن ومن عطرهن، وفي تلك الأحياء الشهيرة التي غدت أسماؤها أعلاماً في القصة والأدب؛ هنالك في تلك الربوع والمنتديات ينسى الإنسان مدى لحظة متاعب الحياة الدنيا، ويستطيع أن يتذوق شيئاً من متاع الحياة الليلية الضاحكة واللهو المريء.

وباريس مدينة عظيمة، وفيها حياة ليلية مضطرمة، قوامها تلك المنتديات والمسارح والحانات الشهيرة التي كثيراً ما تقرأ عنها في القصص وتشاهدها في السينما، فيخيل إليك أنها عالم بأسره من الفتنة والجمال والسحر.

وسنعرض في هذا الفصل صوراً من تلك الحياة الليلية الباريزية الشهيرة مما رأينا وشهدنا.

تقع مراكز الحياة الليلية الباريزية في أحياء معينة اشتهرت بأسمائها كما اشتهرت بماضيها وتقاليدها، وأضحت علماً على حياة الليل في باريس.

وأشهر هذه الأحياء وأهمها من هذه الناحية هي بلا ريب أحياء: مونمارتر ومونبارناس وبيجال وكليشي وما إليها من مسالك ودروب.

ولقد كان حي مونمارتر يستأثر فيما مضى بأكبر قسط من الشهرة الليلية، بيد أنه على ما يظهر يفقد اليوم شيئاً من هذه الشهرة التي غدا ينافسه في أسبابها وبواعثها حي مونبارناس؛ وكان مونمارتر وما زال أعظم الأحياء الباريزية الشعبية شهرة، وأكثرها جاذبية لشباب الطبقات المتوسطة والدنيا، ومازال رغم تقلبات الزمن وفقدان الكثير من سحره السابق، يجذب إليه طوائف الشباب المثقف والناشئين من الكتاب والأدباء وذوي المهن، يجدون ملاذاً سهلاً في فنادقه ومطاعمه ومقاهيه الرخيصة؛ ويستمرئون فيه ما استطاعوا من مسرات الحياة الليلية، حيثما يتفتح الحب السهل بين شباب كثير التواضع والطموح.

ويقع حي مونمارتر في قلب باريس، ومازال يحتفظ بكثير من معالمه القديمة؛ دروب ضيقة ملتوية، وأبنية عتيقة لم تنلها يد التجديد، وفنادق ومطاعم ومقاه لم تعرف شيئاً من الأناقة الحديثة؛ ومع ذلك فربما كانت هذه المطاعم والمقاهي المتواضعة في مظاهرها أفضل من كثير من المحال الأنيقة المحدثة، لأنها مازالت تحتفظ بشيء من التقاليد الحسنة من حيث تقديم الألوان والمشروبات الجيدة بأثمان معتدلة، وعدم التورط في تلك المظاهر الخلابة التي تؤذي الجيب دون مبرر.

هذا إلى أن مونمارتر مازالت تزخر بالمسارح والأبهاء والأندية الليلية، من حانات ومراقص شهيرة؛ وقد كانت مونمارتر ومازالت تستمد شهرتها من تلك الأندية الليلية ومما يعرض فيها من أصناف اللهو والمرح التي تقوم في معظمها على السحر النسوي؛ وأشهر تلك المنتديات بلا ريب هو مسرح (الفولي برجير) يقع في منعطف من شارع (فوبور مونمارتر)؛ ومسرح (الكازار) الذي يقع في هذا الشارع نفسه على مقربة من اتصاله (ببولفار الإيطاليين)، والذي تقوم بالتمثيل فيه سيبيل سوريل العجوز الحسناء وفرقتها الشهيرة؛ ومسرح (معرض العراء) الذي يقع أيضاً في نفس الشارع؛ هذا في (فوبور مونمارتر)، وأما في حي مونمارتر ذاته، وهو على مقربة من (الفوبور) فتقع حانات ومراقص لا حصر لها.

وتغص دروب بيجال وكليشي وهما على مقربة من مونمارتر بالحانات والمقاهي المريبة التي تؤمها الغانيات من طبقات متواضعة، ويؤمها طلاب اللهو من جميع الطبقات والجنسيات. ويمتاز شارع بيجال بالأخص بما يعرض فيه من الألعاب الصبيانية المختلفة مما يعرض عادة في (لونبارك)

وفيما بين بيجال وكليشي توجد عدة من المسارح والمراقص الممتازة؛ وهنالك يقع (كازينو دي باري) الشهير الذي تعرض فيه مناظر العراء المطلق من الممثلة الأمريكية الحسناء (جوان وارنر) وفرقتها؛ ويقع مرقص (الكليزيوم) في شارع روشوار، وهو من أشهر مراقص باريس، وفيه سرب من الفتيات الحسان لأجيرات أو كما يسمون، يرتدين أثواباً مشقوقة من أحد الجانبين تسفر عن ساق عارية؛ وهؤلاء يرقصن مع الطالبين بتذاكر خاصة يصرفها المحل للراغبين وقيمة التذكرة التي تعطى عن رقصة واحدة فرنكان؛ هذا إلى عدة حانات ليلية للرقص والغناء تفتح أبوابها حتى الصباح.

وقد ذاعت مناظر الرقص العاري في باريس وأصبحت أشهر دعاية تذيعها المسارح والمراقص الأنيقة؛ ففي الفولي بريجر، والكازينو دي باري، والكازار، تعرض المناظر والرقصات العارية بانتظام؛ ويمتاز الكازينو دي باري بعرض أشهر هذه المناظر وأجملها، ويشترك في المنظر الواحد نحو عشرين فتاة عارية لا يسترن سوى ملمس العفة بغلالة صغيرة على شكل (فينوس) ويسدلن على ظهورهن شعوراً طويلة مستعارة لتستر الألية بعض الشيء؛ وبطلة الرقص العاري أو ملكته هي مس جوان وارنر التي ترأس فرقة العراء في (الكازينو)؛ وقد كان لها منذ عامين أو ثلاثة قصة مع القضاء، حيث عرضت بعض رقصاتها العارية الأولى، فاعتبرها البوليس عملاً فاضحاً، وحُقق معها، وقدمت إلى محكمة الجنح، ولكنها دافعت عن نفسها بأنها تقوم بمناظر فنية محضة، وأخذ القضاء بنظريتها وقضى ببراءتها. ومن ذلك الحين ذاع الرقص العاري في باريس، ونظم في أشهر المسارح، وسميت مس وارنر (ملكة العراء المطلق) والواقع أن مس وارنر تتمتع بجسم باهر التكوين والتقاسيم كأنه تمثال روماني رائع.

وقد شهدنا هذه المناظر الباريزية العارية في (الفولي برجير) وفي (الكازينو) وفي (الكازار)، وشهدنا عدة أخرى من المنتديات والحانات الليلية في مونمارتر وكليشي ومونبارناس، فماذا رأينا وماذا شعرنا؟ رأينا مناظر كثيرة الألوان والضوء، ولكن قليلة السحر حقاً. وإن منظر هذه الأجسام العارية قد يثير الغرائز الوضيعة، ولكنه قلما يثير السحر الرفيع، وأي سحر في مناظر تسودها مسحة البغاء أكثر مما تسودها مسحة الفن والجمال؟ والظاهر أن هذه المسارح الباريزية الليلية إنما تعتمد على الأجسام النسوية العارية كعامل أساسي في اجتذاب النظارة، وإنك لتقرأ الإعلانات الخلابة في الصحف عن مناظر العراء فيخيل إليك أنك سترى مناظر من الجنة ; ; ; ; 24 وأمثالها من العبارات الرنانة تقرأها دائماً في برامج هذه المسارح؛ ولقد كانت أسماء (الفولي برجير) و (الكازينو دي باري) و (الكازار) تثير فينا قبل رؤيتها سحراً لا يقاوم، فلما أتيح لنا أن نراها آنسنا خيبة أمل مرة، لأننا لم نر فيها من المناظر الرفيعة الرائعة ما يتفق مع تلك الدعاية الرنانة التي تثار حول أسمائها في الصحف وفي السينما؛ وهي دعاية يفهمها الفرنسي، ولذلك فهو قليل الاقبال على هذه المسارح والمنائر التي ترتب لاجتذاب الأجانب وتقتضي من روادها أجوراً فاحشة حتى إن الكرسي المتواضع (في نهاية البارتير أو في الجاليري) في الفولي بريجير أو الكازينو لا يكلف أقل من ثلاثين أو أربعين فرنكاً (40 - 52 قرشاً).

ومونبارناس؟ إن اسم مونبارناس كمونمارتر يغمر الأدب الباريسي، ولكن مونبارناس أحدث عهداً في الأخذ بناصية الحياة الليلية الباريزية؛ ومونبارناس شارع مديد شاسع في جنوب باريس على مقربة من اللكسمبور وسان ميشيل، وهو أكثر رحابة وأقل صخباً من مونمارتر، وبه على مقربة من محطة (مونبارناس) عدة مقاه حسنة أشهرها وأجملها (لاكوبول) وهو مقهى أنيق وبه مرقص ليلي؛ وهنالك في الجانب الآخر أشهر حانة ليلية في الحي وهي حانة (جوكي)، وهي غنائية راقصة وينحصر الجانب الساهر المنير من مونبارناس بين (لاكوبول) والمحطة؛ وهنالك تلمح تحت أنوار الشارع والمقاهي كثيراً من الغواني وأنصاف الحرائر.

وقد اشتهرت مونبارناس بأنها مهبط الأدباء والفنانين الناشئين؛ والواقع أنك حين تتجول في مقاهي الحي ومطاعمه ترى كثيراً من الفنانين الذين أطلقوا لحاهم والذين تدل عليهم مظاهرهم يؤمون أندية الحي ويتجولون في دروبه؛ والمعروف أن رواد مونبارناس هم غالباً من الطبقة المثقفة، وهي بذلك تمتاز عن مونمارتر التي عرفت بأنها مهبط الطبقات الدنيا أيضاً؛ وقد أخذت مونبارناس في العهد الأخير تنافس مونمارتر في الأخذ بزمام الحياة الليلية، ونجحت في ذلك إلى حد ما؛ بيد أنها مازالت تضيق بأنديتها القليلة عن أن تضم كثيراً من تلك الجماهير الغفيرة التي تهرع إلى مونمارتر بالليل، هذا إلى أنها لا تحتوي كثيراً من تلك المنتديات الشعبية التي تغص بها مونمارتر والتي تموج بروادها دائماً.

والظاهر أن مونبارناس تقف في منافستها لمونمارتر عند ناحية خاصة، فهي بموقعها وشوارعها الشاسعة الفخمة أقدر على اجتذاب الخاصة من مونمارتر؛ وقد سمعت من بعض الباريزيين الخبيرين بشؤون الحياة الاجتماعية أن المستقبل لمونبارناس في تحول تيار الحياة الليلية إليها؛ وأن مدى هذا التحول يتوقف على مدى قيام المقاهي والمنتديات الجديدة في حي مونبارناس.

هذه صورة موجزة مما استطعنا أن نقف عليه من نواحي الحياة الليلية في باريس؛ ولا ريب أن توجد ثمة نواح أخرى يعرفها أولئك الذين أقاموا في العاصمة الفرنسية أكثر مما أقمنا وعرفوها أكثر مما عرفنا. بيد أنا نعتقد أن ما أتيح لنا أن نشهده من المنتديات والمناظر المختلفة التي وصفناها هو عنوان الحياة الليلية الباريزية يعبر عنها تعبيراً حقيقياً؛ وقد حرصنا على تعرف هذه الحياة ما استطعنا، ولم نبخل بأنفاق ليال عديدة برمتها في التجوال والمشاهدة، ولم نضن بما اقتضاه التجوال من نفقات فاحشة في غالب الأحيان؛ ولم نر في كل ما شهدنا، في تلك الأحياء الشهيرة، وفي تلك المنتديات والمسارح الليلية ذات المظاهر الأنيقة والأنوار الساطعة والبرامج الخلابة، من المتاع والفتنة ما يتفق مع تلك الدعاية المغرقة التي يبثها في مصر عن باريس وعن منتدياتها ولياليها أولئك الذين لم يعرفوا غير باريس، والذين يقدمون إلينا عنها في كتبهم ومقالاتهم أجمل الصور وأروعها.

(يتلى)