مجلة الرسالة/العدد 172/اليوم المشهود. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 172/اليوم المشهود. . .

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 10 - 1936


ذلك يوم الأوبة! وأوبة الزعيم العظيم عنوان من النور على فصل جليل الخطر بارز الأثر من تاريخنا الجديد: تجمعت في هذه الأوبة أشتات من المعاني والمنى، فكان يومها الأغر مظاهرة شعبية هاتفة، جلجل فيها صوت الحق، واستعلى بها شأن الأمة، واستعلن فيها مجد الوطن؛ وكأنما انبثقت في النفوس لأول مرة مشاعر المصرية والحمية والعزة، فكل امرئ يحس بوجوده المستقل، ويُزْهَى بسلطانه القادر، ويفخر بإرادته الحاكمة.

احتفل حَشْدُ الناس يوم الثلاثاء على حواشي الميناء وفوق متون الماء لاستقبال الرئيس الجليل على (كوثر)، وقد عاد إلى وطنه الشاكر الذاكر بتحقيق المسعى وتصديق الأمل؛ فكان هذا الاستقبال النادر مشرق الدلالة على معناه: نَمَّ بهزة السرور عن لذة النصر، وبهشاشة الوجوه عن جمال الشكر، وبحماسة الهتاف عن وجهة الرأي. وكانت الإسكندرية في ذلك اليوم صورة منسقة الألوان مهذبة الأطراف منمنمة الخطوط للقطر كله؛ تمثلت فيها من أعلى الجنوب إلى أسفل الشمال وجوه البلد، وأنماط الزي، ونوازع الهوى، ومرامي النظر؛ فالأندية والمقاهي والمطاعم والفنادق والطرقات والمركبات سيول متدافعة من فنون القول، ولكنها لا تخرج في عنصرها وجوهرها عن تفنيد المعارضة وتأييد المعاهدة وتمجيد الزعيم.

لا أكذِبُ الله، كانت الحجج كثيراً ما تسقط إعياء في حَلْبة الجدل، ولكن

تهافتها كان يرجع إلى ضعف المدافع لا إلى ضعف القضية؛ وكان

الغالب على منطق السواد من وفود البلاد الإيمان الثابت برأي الوفد،

أو الإذعان المريح لحكم الواقع. فهم بقولون مالنا ولجدال المحامين

بمواد القوانين وآراء العلماء ونصوص الكتب؟ إن الوفد لم نجرب عليه

تدليسا في رأي، ولا تفريطاً في حق، ولا توريطاً في باطل، وقد مضى

في ضمان الوحدة والخبرة ففاوض، واطمأن على سلامة الحق والعدالة

فعاهد؛ فإذا قال لنا هذا هو الاستقلال الذي استنفدتم إليه الجهود

والوسائل، وأرخصتم فيه الأموال والمهج، كنا أحرياء أن نقبل ع بالسمع، ونخلد إليه بالثقة. ثم تبلغ الثقة الراجحة حد اليقين المحض إذا

عارض هذا القول من نستريب بسياسته ونستوحش من ناحيته. كذلك

يقولون إذا أخرجهم نشاط الحديث. من التسليم الأعمى إلى التدليل

البصير: لا جدال في أن المعاهدة محت الاحتلال وأثبتت الاستقلال

وفتحت السودان، وحطت عن كاهلك امتياز الأجنبي، وأذهبت عن

ضميرك رجس الهون، وجعلتك مطلق السيادة حر الإرادة تحت سمائك

وفوق أرضك؛ فإذا توخينا وجوه الإصلاح الداخلي ونحن على هذه

الحال الجديدة من حرية الرأي والعزيمة والعمل، وبذلنا في سبيله ما

كنا نبذل في سبيل الاستقلال من نقود وجهود وتضحية وزمن، جرينا

من سُبل التقدم إلى أبعد الغايات في أيسر كلفة وأقصر مدة.

كان اسم النحاس ولفظ المعاهدة هتاف المظاهرات وموضوع الخطب وحديث الأندية في الاسكندرية، ذلك لأنهما كلمتان استوعبتا أحفل وأنبل العواطف وأجمل الذكريات من جهادنا المجيد. فالنحاس اسم يشمل الزعامة والوطنية والوفد، ويتضمن أسماء عرابي ومصطفى وسعد، ثم يستغرق كذلك أسماء مكرم والنقراشي وماهر؛ والمعاهدة لفظ يتناول مدلوله أهوال الثورة التي بذرتها، ودماء الشباب التي أسقتها، وأشلاء الضحايا التي غذتها، وجهود الإبطال التي تعهدتها ثم جنتها؛ ثم يشمل كذلك ما قر في أذهاننا من معاني الحرية، وشاع في نفوسنا من مشاعر المجد، وحصل في أيدينا من وسائل السيادة، وامتد في خيالنا من حدود الأمل.

ما أجمل الإسكندرية اليوم! لقد أصبحت خالصة المصرية حتى في الطبيعة والمظهر! الجو راكد الريح زاهق الأنفاس كأنه طلعة المختنق، والبحر راقد الموج مصقول الأديم كأنه صفحة المرآة؛ فلا العباب زاخر يبعث الروعة في القلب الشاعر، ولا النسيم نديٌّ ينضح بالنعيم الجسد المحرور؛ ومع ذلك نراها أقرب ما كانت إلى القلب، وأروع ما تكون في النفس! لقد ذوب هذا اليوم عنصرها الدخيل كما تذوب حبات الملح في لجج الفرات العذب. لم يبق إلا مواكب الأهلين تشدو بأهازيج النصر، ووفود الأعيان تناقل أحاديث الوطنية، وكتائب الوفدين تنشد أغاني الحماسة، وخطباء المحتفلين يرسلون على أمواج الأثير عواطف مصر الشابة إلى الجهات الأربع.

تجددت مظاهر النصر والشكر والتأييد والفرح في سُوح القاهرة، فكان يوم السبت في مدينة المعز أبهر جلالاً وأروع استقبالاً من يوم الثلاثاء في مدينة الإسكندر! ذكرنا به أيام سعد! وأيام سعد خوالد يتحدين النسيان ويعاجزن البلى، وقد كن لهذه الأيام السعيدة شروقاً وبكرة.

سننعم بأصائل هذه الأيام حيناً من الدهر يقصر أو يطول، ولكن شمسها ستدخل في ملكوت الخيال وعالم الذكرى، ثم لا يبقى في أيدينا من ثمارها غير المعاهدة. والمعاهدة وثيقة الاستقلال في القانون، ولكنها ورقة الامتحان في العمل. ولا ريب أن الذين عرفوا كيف يحررونها، سيعرفون كيف ينفذونها. ومن عمل واليد شلاء، وبلغ والطريق غفلاء، فهل تخشى عليه والسبيل واضحة، والغاية لائحة، والساعد حر والساق طليق؟

أحمد حسن الزيات