مجلة الرسالة/العدد 171/من دمشق. . . إلى بغداد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 171/من دمشق. . . إلى بغداد

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 10 - 1936



للأستاذ علي الطنطاوي

لما جاوزنا (أبا الشامات) وأصحَرنا، ونظرت بين يديّ وعن يميني وعن شمالي، فلم أجد إلا الصحراء الصامتة لرهيبة الموحشة، ووجدت دمشق التي أحببتها ولقيت فيها من يحبّني، وألفتها وتركت في كل بقعة منها قطعة من حياتي وطائفة من ذكرياتي قد اختفت وراء الأفق، وتضاءل (قاسِيُونها) وصغر حتى ما يبدو منه إلا خيال علويّ يلوح في السماء له وميض ولمعان، أحسست بلوعة الفراق فخفق قلبي خفقاناً شديداً:

كأن القلب ليلة قيل يُغدي ... بليلي العامريّة أو يُراح

قطاة غرّها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح

وخالطني حزن عميق وشعور مبهم، أعرفه من نفسي كلما سافرت سفراً بعيداً - على كثرة ما أسافر وأبتعد - شعور من يجد الموت ويبصره بعينه! ولم لا؟ وهل لحياة إلا أن تقيم في المكان الذي تألفه، وترى الناس الذين تحبّهم، وتصل ماضيك بحاضرك بصورة تراها، أو نغمة تسمعها، أو بقعة تحلّها؟ وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه، وبالذكريات والآمال؟ وهل الموت إلا أن ينبتر مما يحيط به، وينقطع عن كل ما يعرف، ويقدم على بلد مجهول وحياة غريبة عنه لا عهد له بها ولا نبأ عنده منها؟ أو ليس للإنسان حياة ظاهرة في قيامه وقعوده وطعامه وشرابه وجيئته وذهابه، وحياة باطنة في أفكاره وذكرياته وآماله وآلامه وميوله وعواطفه؟ أو ليست حياته الباطنة هي الأصل وهي الأساس، فلا يحيا إلا بها ولا يقوم إلا عليها، كما أن الشجرة لا تحيا إلا بجذورها الممتدة في جوف الأرض المختفية في بطن الثرى، فإذا انقطع المرء عن عادته، وابتعد عن أهله وصحابته، لم ينفعه أنه لا يزال يقوم ويقعد ويأكل ويشرب، كما أن الشجرة لا تنفعها أغصانها وفروعها، إذ هي بُتّت من أرضها، وقطعت من أصلها، وفصلت عن جذرها. وأحسب أن الله جلّ وعزّ ما قرن الموت بالإخراج من الديار، وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله، التاركين أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضرب من ضروب الموت ولون من ألوانه. . . فإن (تعدّدت الألوان فالموت واحد)!

وازدحمت في نفسي صور حياتي في دمشق، وحبّبت إليّ أضعاف ما كنت أحبّها، ومرّت أمامي صور أخوتي وأهلي وإخواني، وذكرت سهراتنا البيتية، ومجالسنا الأدبية، وهذه الحفلات الوداعية الكثيرة التي تفضلت فأقامتها أسرة التعليم، وجمعية التمدن الإسلامي، والمدرسة التجارية، تكريماً لي قبل أن أعمل شيئاً أستحق عليه التكريم، وأفيض فيها عليّ من النعوت ما ليس فيّ ولا أستحق الأقل منه. . . وذكرت من دمشق كلّ حبيب إليّ جميل في عيني، فازددت بها تعلقاً، ووددت لو أني أبيت فلم أذهب ولم أتغرّب.

وكانت الصحراء قد امتدت من حولنا، وأحدقت بنا، وصرنا في قبضتها لا شأن لنا ولا خطر، وآضت هذه السيارات الفخمة التي كانت تمل الشارع بطوله وعرضه، وكانت تعد وهي في دمشق شيئاً عظيماً، أهون على الصحراء من حبة رمل! وضاعت في أرجائها فلم تعدْ تعدّ شيئاً. وكان قد بلغ مني الحزن، وحزّت في نفسي لوعة الفراق، فأغمضت عينيّ ورجعت إلى نفسي، حتى إذا استروحت فتحتهما وجعلت أحدّق في هذه البادية، فأرى السيارة تعدو فيها تسرع حتى نحسّ كأنها تطوي الأرض طياً؛ وأراها تلهث من التعب، والبادية باقية على حالها، كأننا لم نقطع منها شبراً، وكأننا بعد في أماكننا. ولست غريباً عن البوادي، فقد عرفتها في رحلتنا تلك. . . إلى مكة. وبقيت فيها سبعة عشر يوماً. ما من ساعة منها إلا وهي أشد من عشرة أسفار إلى بغداد؛ ولكن هذه البادية (بادية الشام)، تختلف عن جزيرة العرب؛ ففي الجزيرة مناظر متباينة، وأراض مختلفة، فيها الجبل وفيها السهل، وفيها الوعر وفيها الرمل، وما في هذه إلا شيء واحد لا يكاد يختلف أو يتغير، أرض منبسطة ترابية قاحلة، تمتد إلى الأفق، كأنها بحر ليس فيه ماء! فكنا نقرأ ونتحدث لنقطع الصحراء بحديثنا، فتقطع الصحراء بصمتها وجلالها حديثنا، وكنا ننام ونفيق والصحراء هي هي. . . حتى قطعنا يوماً كاملاً، وكان صباح اليوم التالي، (وللصباح في البادية جمال وروعة، لا يكون مثلهما في المدن) وبدّدت الشمس ظلمة الليل، فتبدَّدت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن، وانزاحت عني نوبة المرض، (وما العاطفة الرقيقة المؤنّثة إلا مرض في الرجال. . .) فصحوت، ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم أفارق بلدي. وهل بغداد إلا داري وبلدي وفيها أهلي وأخوتي، إن لم تقرر هذه الأخوّة الأنظمةُ ولم تسجّل في الدساتير، فلقد قررها الله من فوق سبع سمواته وسجّلها في القرآن: (إنما المؤمِنون إخْوَة). وليس ينقض ما أبرم الله، وإن فرقت بيننا شارات على الأرض، وألوان على المصوّر، فلقد جمع بيننا الدين واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي، وأمل المستقبل وألم الحاضر، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة. فأنى ننكر هذه الأخوّة وشاهدها فينا، ودمها في عروقنا؟

وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مائة صورة، وفي ذاكرتي عنها مالا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار.

وبغداد عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأم الدنيا، ومنزل المنصور والرشيد والمأمون. . .

فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض (إلا) خطتي ودياريا

فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيّرت رحلي بينها وركابيا

فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا

ولا مثل أهليها أرقّ شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا

وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة، في سيارة متينة، ونمل من طولها نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلج، ونتعب ونحن مضطجعين على المقاعد الوثيرة، ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا أربع عشرة ساعة، لنستريح ونسترد الروح فأفكر في أجدادنا أي ناس كانوا؟. . . وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لجة الرمل الملتهب، يلتحفون أشعة الشمس المحرقة، يتبلّغون من الطعام بتمرة، ويكتفون من الماء بجرعة، ثم إذا وصلوا قابلوا جيوشاً أوفر منهم عَدداً وعُدداً، فحاربوها وانتصروا عليها، وفتحوا بلادها. . . فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا؛ هو الفرق بين الشاب منهم تصيبه ضربة في المعركة، فتقطع يده من كتفه وتلبث متعلقة به، فتؤذيه وتعيقه عن القتال، فيعمد إلى أصابع يده المقطوعة، فيدوس عليها، ثم يتمطى حتى يبترها، ثم يلقيها ويعود إلى جهاده، والشاب منا يزاحم المرأة على كل شيء هولها، فيخطر في الشارع كالعروس ليلة الزفاف، وإذا شاكته شوكة أو لفحته الشمس أوى إلى الفراش!

ولما كان ضحى الغد بدا لنا نخيل العراق، وأشرفنا منه على مثل الليل، فعرقت لماذا سمى العرب السواد سواداً، وذهبت أتذكر الفتوح وعهدي بمطالعتها قريب - فأحسّ بأني أسمو عن زماني وأعيش في أيام الصدر الأول - وأقدر بعد نظر المستعمرين وصحة رأيهم في تعطيلهم التاريخ الإسلامي في مدارسنا، وتنشئة أبنائنا على الجهل به والبعد عنه، لما لهذا التاريخ من العمل السحري على بث روح الشرف والنبل والقوة والعزة والفضيلة في نفوس شباب العرب، ولأنه شمس إذا طلعت كسفت هذه الأنوار الكهربائية التي أضاء بها الغربيون أرجاء تاريخهم فبدت تواريخهم سوداء مظلمة. . . وبدا وحده المشرق المنير.

وجعلت أتشوّق إلى بغداد - وأعرض في ذاكرتي صوراً منها حلوة، وأنتظر أن أرى مدينة المنصور بأسوارها المستديرة وأبوابها الفخمة - وألمح قبّتها الخضراء العالية المشمخرة، الذاهبة في السماء ثمانين ذراعاً طالعة علينا من عرض الفلاة، تضطرب صورتها في دجلة، ثم أذكر ليلة الثلاثاء لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة 329 وقد كانت ليلة مطر ورعد هائل وسيل شديد، فهوت هذه القبة التي كانت تاج بغداد - وعَلَم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى آخر أيام الواثق، فكان بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة.

وأرى دار الخلافة - وقد قدم رسل ملك الروم على المقتدر، فرسم أن يطاف بهم في الدار، وليس فيها من العسكر أحد ألبتة، وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان، سبعة آلاف خادم، وسبعمائة حاجب، وأربعة آلاف غلام - قد جعلوا على السطوح والعلالي وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما يفعل لخزائن العرائس، وقد علقت الستور، ونظم الجوهر وصف على درج غشيت بالديباج الأسود، وكان عدد ما علق في قصور المقتدر من الستور الديباج المذهبة المصوّرة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع. . ثمانية وثلاثين ألف متر، وعدد البسط في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط وعشرون ألف قطعة. وأدخل الرسل من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخليل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهباً وفضّة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يدي شاكري بالبزّة الجميلة؛ ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرّات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت من الحير قطعان تقرب من الناس، وتتشمم وتأكل من أيديهم؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشى، على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، فهال الرسل أمرها؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع، خمسون يمنة وخمسون يسرة، كل سبع في يد سبّاع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد؛ ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث، وهي دار بين بساتين في وسطه بركة رصاص، حواليها نهر رصاص أحسن من الفضّة المجلوّة، طول البركة ثلاثون ذراعاً، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مزيّنة بالديبقى المطرّز، وأغشيتها ديبقى مذهب، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيه نخل، عددها أربعمائة نخلة، طول كل واحد خمسة أذرع، قد لبّس جميعها ساجاً منقوشاً من أصلها إلى حد الجمارة بحلق من شبه مذهبة. . . ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدوّرة، فيها ماء صاف، والشجرة ثمانية عشرة غصناً، عليها الطيور والعصافير من كل نوع، مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها مذهب، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان، يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر. . . إلى أن دخلوا إلى الخليفة.

وملأ نفسي الشعور بعظمة بغداد، المدينة التي كانت وحدها دنيا، كان فيها ستّون ألف حمّام، فلو أن في كل حمّام خمسة نفر حمامي وقيم وزبّال ووقّاد وسقاء وذلك أقل ما يكون، لكان أصحاب الحمامات ثلاثمائة ألف رجل، وكان حيال كلّ حمام خمسة مساجد، فلو أن في كل مسجد خمسة أشخاص، لكان ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان. وأحصيت الزوارق التي في دجلة أيام الناصر فكانت ثلاثين ألفاً.

قال الخطيب: (لم يكن لبغداد في الدنيا نظير، في جلال قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميّز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها، وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها، ودروبها وشعوبها، ومحالها وأسواقها، وسككها وأزقتها، ومساجدها وحماماتها، وطرزها وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وزيادة ما حصر من عدّة سكانها).

وبعد فهاأنذا على (جسر بغداد) في نشوة من خمرة الذكرى أذكر ما لا سبيل إلى تلخيصه، وأحس ما لا طاقة على وصفه، وقد قال أبو الوليد: قال لي شعبة: أرأيت بغداد؟ قلت: لا.

قال: فكأنك لم تر الدنيا. أما أنا فقد رأيت جسر بغداد، ورأيت الدنيا؛ لا أقول إنه أعظم من جسر إسماعيل، أو أجمل من جسر الزمالك، ولكن لجسر بغداد سراً آخر، يعرفه كل من نظر في كتب الأدب والتاريخ وقرأ عن جسر بغداد. . . هذا الذي جازه القواد الفاتحون، والفقهاء والمحدثون، والشعراء والماجنون؛ هذا الذي وقف عليه الرشيد والمأمون، وأبو حنيفة والشافعي، والفضل وابن دينار، ومطيع وأبو نواس، وعبد الله بن طاهر ويزيد بن مزيد، وشهد جلال الخلافة، وعظمة العلم، وروعة الزهد، وضحك المجون، وقوة الجيش. . . . وجرى عليه نهر التاريخ. . . وتداعت على جوانبه القرون. . . . هذا الذي كان سرة الأرض!

أيا حبّذا جسر على متن دجلة ... بإتقان تأسيس وحسن ورونق

جمال وفخر للعراق ونزهة ... وسلوة من أضناه فرط التشوق

تراه إذا ما جئته متأملاً ... كسطر عبير خط في وسط مهرق

أو العاج فيه الآبنوس مرقش ... مثال فيول تحتها أرض زئبق

أما إنني إن أحببت مصر لأن منها أصلي، وأحببت الشام لأن فيها مولدي، فإني أحب العراق لأن فيها أجمل ذكر الماضي، وأحب الحجاز لأن إليها قبلتي، وأحب كل بلد يقول أهله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لأنه بلدي، وأهله أهلي.

(بغداد)

علي الطنطاوي