مجلة الرسالة/العدد 170/صور سياحة
مجلة الرسالة/العدد 170/صور سياحة
2 - صروح باريس وطرف من معالمها وآثارها
بقلم سائح متجول
دار الحديث على ظهر السفينة بيني وبين صديق ممن درسوا في باريس وعرفوا كثيراً من معالمها وأحوالها، فقال لي حين أعربت له عن آرائي في باريس ومجتمعاتها وخواص حياتها الاجتماعية: (خذ باريس وحده، واترك من فيها).
وهي تفرقة في موضعها؛ ففرق بين باريس العاصمة التالدة التي تزخر بالربوع والمعاهد الأثرية والعلمية الجليلة، وبين المجتمع الباريزي وخلاله ومظاهر حياته.
وسنخص باريس بالحديث في هذا الفصل، ونحاول أن نعرض لمحة من معالمها ومعاهدها وآثارها العظيمة.
باريس عاصمة القرون والأجيال المتعاقبة؛ وإنك لتلمح في ربوعها ومعاهدها هذا التعاقب في القرون والأجيال، فمن آثار رومانية وقوطية، إلى آثار العصور الوسطى، ثم عصور الملكية الزاهرة وآثار الثورة ثم الإمبراطورية والعصر الحديث؛ وهذه الأجيال المتعاقبة هي فخر العاصمة الفرنسية، وتراثها من أجل ما عرفت الأمم والعواصم التالدة.
وهذا التعاقب في العصور ظاهر الأثر في باريس وفي أحيائها، فباريس مدينة عظيمة شاسعة الأرجاء ولكنها تبدو كأنها عدة مدن متباينة شيدت في عصور وظروف مختلفة؛ فمن أحياء قديمة تغص بالشوارع الضيقة والمباني العتيقة وتحمل أسماء تاريخية لا شك في قدمها، ومن أحياء جديدة تلمح أثر التجديد في شوارعها وميادينها الشاسعة، ومن أحياء مزجت بين القديم والجديد؛ وهذا التباين في تخطيط العاصمة الفرنسية وفي أحيائها يجعل منها مدينة قليلة التجانس والتناسق، بيد أن مسحة من الجلال والعظمة تطبع هذه المجموعة الضخمة المتباينة من المعالم والربوع.
وفي باريس من المشاهد التاريخية الجليلة ومن المواطن والأحياء العظيمة ما يقتضي وصفه فصولاً بأسرها؛ ولقد خصت هذه المواطن ببعض الكتب الساحرة من قلم المؤرخ لينوتر وغيره؛ وسنحاول أن نمر مسرعين بطائفة من هذه المشاهد والمواطن التي كتب عنها الكثيرون من قبل.
ن أروع المشاهد التاريخية الباريزية في نظرنا هو قصر اللوفر وذخائره الفنية الجليلة؛ فهذا القصر القديم الذي يجثم كالخلود على ضفاف السين، يمثل أجيالاً من عظمة فرنسا وعظمة الملوكية الفرنسية، وفي أبهاء اللوفر وقاعاته الرائعة تذكر عصور آل فالوا وآل بوربون: عصور فرانسوا الأول وكاترين دي مديتشي، وهنري الرابع، ولويس الرابع عشر، بكل ما فيها من روعة ودسائس ومنافسات، ومآس دموية، وأيام زاهرة.
وتضم أجنحة اللوفر اليوم عدة من المجموعات الفنية الجليلة، ولا ريب أن متحف التصوير الذي يشغل عدة أبهاء شاسعة من اللوفر هو أعظم هذه المجموعات وأغناها؛ فهنالك تمثل أقدم مدارس التصوير منذ بدء عهد الأحياء إلى أحدثها، وهنالك مجموعات حافلة لأعظم أساتذة التصوير الإيطاليين مثل ليوناردو دافنشي، ولي تسيان، ورافائيل سانزيو، وبورجينو وغيرهم، وأعظم الأساتذة الأسبانيين مثل موريليو وفيلاسكيز، وهنالك أيضاً مجموعات حافلة لأعظم المصورين المحدثين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ وربما كانت مجموعات عصر الأحياء التي يحتويها اللوفر أعظم وأغنى مجموعات من نوعها بعد مجموعات قصر الفاتيكان، بل يلوح لنا أن في اللوفر مجموعات لبعض الأساتذة أغنى من نظائرها في الفاتيكان: وفي اللوفر أيضاً مجموعات فاخرة من التحف والحلي الملوكية التي تبهر الأبصار بجمالها وروعتها؛ وبه أجنحة ومجموعات فنية أخرى تقتضي عدة زيارات لاستعراضها وتأملها.
وما زال قصر اللوفر يحتفظ بروعته الملوكية سواء في أبهائه وغرفه الداخلية أو في واجهاته الخارجية، وما زالت ساحاته الشاسعة وأبراجه القاتمة تحتفظ بجلالها القديم؛ ومما يبعث إلى الأسف أن ساحة اللوفر الكبرى مفتوحة من جانبيها لمرور السيارات الضخمة (الأومنبوس) ذهاباً وإياباً، وفي ذلك تشويه للساحة وللقصر ذاته، وإن كان فيه تسهيل للمرور، واختصار للطريق.
وفي قلب باريس عدة قصور تاريخية شهيرة أخرى نذكر منها قصر اللكسمبور الذي يقع في حديقة اللكسمبور الشهيرة، ويشغله الآن مجلس الشيوخ (السينا)، وقصر بوربون الذي يشغله الآن مجلس النواب؛ والقصر الملكي (الباليه رويال) الذي بناه الكردينال ريشليو لإقامته، وتركه بعد وفاته للملك، وسمي الباليه رويال؛ وقصر التويلري الذي بدأته كاترين دي مديتشي، وأتمه هنري الرابع؛ ولهذه القصور التاريخية كلها سير وذكريات شهيرة تملأ صحفاً حافلة من الأدب الفرنسي؛ وهنالك أيضاً قصر (الأليزيه) الذي يرجع إلى القرن الثامن عشر، والذي جعل مقراً لرآسة الجمهورية في العصر الأخير.
وثمة أثران يحوطهما جلال مؤثر، ويبثان إلى المتأمل شجناً خاصاً، هما (دار الانفاليد) و (البانتيون)؛ وتحتوي (دار الانفاليد) أو دار العجزة، التي تقع في شمال غربي باريس في ميدان شاسع جداً، فضلاً عن المستشفى الذي يخلد اسمها وصفتها، على (قبر الإمبراطور) أو قبر نابليون. ويقع القبر في طرفها الشمالي، وهو عبارة عن حظيرة مستديرة تغطيها قبة عظيمة، وقد نصبت في وسطها منصة رخامية عالية، ووضع فوقها تابوت فاخر من المرمر الأحمر القاتم يحوي رفات الإمبراطور؛ ونصبت حول المنصة مجموعة من الأعلام التاريخية التي غنمها الإمبراطور في مختلف المواقع الشهيرة؛ مارنجو، فاجرام، أوسترلتز، إيلو، يينا وغيرها؛ ومن بين هذه الأعلام علم كتب عليه (موقعة الأهرام)، ولكن ليست عليه كتابة عربية تدل على أصله؛ والحق ن منظر قبر الإمبراطور يبعث إليك كثيراً من الروع والإجلال لذكرى ذلك الذي ملأت حياته وأعماله العسكرية الباهرة مرحلة كاملة من تاريخ أوربا بأسرها.
وأما البانتيون، فهو كما تعلم مقبرة الخالدين؛ وقد كان في الأصل كنيسة تسمى (سانت جنفياف)، حولت أيام الثورة إلى مقبرة قومية للعظماء؛ ويقع البانتيون في شارع سوفلو في الحي الجامعي على مقربة من الكليات؛ وما زال البانتيون على وضعه الأول كنيسة فخمة تزين جدرانها طائفة من الصور الدينية البديعة؛ ولكن جلال البانتيون في أقبيته السفلى؛ ففي تلك الأقبية التي قسمت إلى أروقة وحظائر مختلفة يرقد عدة من أبناء فرنسا الخالدين من القواد والكتاب والمفكرين؛ وربما كانت أسماء فولتير، وروسو، وديدرو، وزولا، وجوريس، هي أعظم الأسماء رنيناً في أقبية البانتيون؛ بيد أن هنالك أسماء كثيرة من القادة والزعماء السياسيين أيام الإمبراطور الأولى والإمبراطور الثانية: هذا تابوت المارشال ناي، وهذا إناء يحتوي قلب ليون جامبتا. . . وهذا تابوت جان جوريس الذي اعتبر يوم مقتله في سنة 1914 خائناً للوطن، واعتبر بعد ذلك بعشرة أعوام من أبطال الوطن ونقلت رفاته إلى البانتيون؛ وهذا تابوت فولتير؛ ولكن هل عثر الخلف حقاً برفات فولتير؟ لقد ثار حول ذلك جدل منذ أعوام، وقرأنا في بعض الصحف الفرنسية الكبرى أنه قد عثر على هيكل عظمى في بعض أقبية كنيسة في روان، يظن من شكل جمجمته وفكيه أنه هيكل فولتير، خصوصاً وأنه يروي أن الذي تولى دفنه هو عمه راعي هذه الكنيسة، وأنه دفنه في بعض أقبيتها، ولكن دليل البانتيون يرفض أن يستمع إلى هذه الرواية ويؤكد بكل قواه أن رفات فولتير ترقد في التابوت المرقوم باسمه!
وكما أن باريس غنية بالقصور الملوكية القديمة، فهي غنية أيضاً بالكنائس الأثرية؛ ومن أقدم وأشهر كنائس باريس كنيسة (نوتردام) التي يرجع بناؤها إلى القرن الثاني عشر، والتي يقترن اسمها وسيرتها بكثير من الحوادث التاريخية؛ وكنيسة (سانت شابيل) التي تقع في (الباليه دي جستيس) (دار العدل)، والتي بناها لويس التاسع في القرن الثالث عشر؛ وهذه الكنيسة الصغيرة هي حلية ساطعة بين الآثار الباريزية، وقد بنيت على الطراز القوطي بافتنان بارع، وزينت بنقوش ذهبية رائعة، وجعلت من طبقتين؛ وكنيسة المادلين الفخمة التي تقع في الميدان الشهير المسمى باسمها، والتي ترجع إلى القرن الثامن عشر؛ وكنيسة سان سلبيس التي تقع في نهاية حي سان جرمان على مقربة من الوكسمبور، وقد أقيمت أمامها في الميدان المسمى باسمها نافورة أثرية تحوطها تماثيل أربعة لبوسويه وفنيلون وفلشييه وماسيون؛ وهنالك غير ذلك من الكنائس الأثرية مما يضيق المقام عن ذكره.
وهنالك، على مقربة من (سانت شابيل)، في الناحية الأخرى من دار العدل يوجد صرح يثير اسمه وذكرياته في النفس شجناً وأسى: ذلك هو سجن (الكونسير جيري) الشهير الذي كان أيام الثورة مسرحاً لطائفة من المآسي المؤثرة. كم شهدت تلك الأبراج والغرف الحجرية الضيقة من محن وآلام، وكم سكبت بين تلك الجدران القاتمة من دموع؟ أجل هذا هو سجن (الكونسير جيري) الرائع الذي نقلت إليه ماري انتوانيت لتمضي أيامها الأخيرة قبل المحاكمة؛ لقد كانت هذه الكهوف المظلمة تغص أيام الثورة بالمحكوم عليهم، ومنها ينقلون إلى العالم الآخر. هذه غرفة ماري انتوانيت، وهذا هو الأثاث الحقير الذي استعملته ملكة فرنسا زهاء شهرين، وهذا هو مخدع الزينة الأخيرة الذي قص فيه شعرها وأعدت لتنفيذ حكم الإعدام: وهذه هي بعض مراسلات ووثائق رسمية تتعلق بالمحاكمة. . . . أجل هذه هي الآثار المادية لمأساة من أروع وأشنع مآسي التاريخ! وإن القلب لينكمش أسى حينما يتأمل هذه الآثار المحزنة ويذكر ذلك العهد الدموي - عهد الإرهاب - بكل محنه وجرائمه وفظائعه.
وماذا نذكر أيضاً من صروح باريس العظيمة؟ هنالك الأوتيل دي فيل، أو (دار البلدية) بماضيها الحافل؛ ولقد كانت (الأوتيل دي فيل) في مستهل الثورة مستودعاً للسلاح، فاقتحمها الثوار يوم 14 يوليه، وأخذوا منها السلاح الذي هاجموا به الباستيل: غير أن الدار التي تقوم اليوم ليست هي الدار القديمة، وإنما هي دار جديدة أنشئت في مكانها وباسمها؛ وهنالك دار الأوبرا، وهي محدثة ترجع إلى نحو سبعين عاماً فقط؛ ولكن توجد ثمة طائفة أخرى من المسارح القديمة أشهرها مسرح (الاوديون) الذي أنشئ في أواخر القرن الثامن عشر، والذي ما زال يحتفظ بطابعه القديم، ويشرف بحناياه وأعمدته القصيرة القاتمة على الميدان الذي سمي باسمه من ناحية، وعلى اللوكسمبور من الناحية الأخرى.
وأما ميادين باريس فهي من أعظم وأروع ما تزدان به العواصم الجليلة:؛ وربما كان أعظمها وأبدعها ميدان (الشانزليزيه) الذي لا تكاد تلم العين بجنباته الشاسعة، والذي تنساب من إحدى ضفتيه حدائق الشانزليزيه الرائعة؛ وميدان (الأتوال) المستدير الشاسع الذي يقوم في وسطه قوس النصر، وتنساب من أطرافه عدة شوارع هامة سميت بأسماء قادة فرنسا، مثل لازار هوش، وكليبر، وفوش؛ وقوس النصر من أعلام الآثار الباريزية يثوي تحت ظلاله (الجندي المجهول)، ويحج إليه الزائرون أفراداً وجماعات في خشوع وإجلال؛ وميدان الشان دي مارس حيث يقوم برج إيفل الشهير، وميدان الكونكورد حيث تقوم مسلتنا المصرية، وميدان فندوم الذي يقع بجواره ويزينه عمود من أعمدة الحرية، وميدان المادلين الذي تتفرع منه أهم الشوارع التجارية؛ وميدان الباستيل الذي كان يشغله سجن الباستيل قبل الثورة، ويدل الآن عليه عمود الحرية القائم مكانه.
وتزدان باريس بعدة من الحدائق والبساتين الشهيرة، وفي مقدمتها حديقة اللوكسمبور الشاسعة، التي تزينها بعض البحيرات الصغيرة وتماثيل لملوك فرنسا وملكاتها؛ وبستان مونصو؛ وحدائق الاليزيه وغيرها؛ وأروع من ذلك كله غابة بولونيا التي تقع في غربي باريس، وهي بسيط شاسع من الأحراج النضرة تتخللها طرق نظمت أبدع تنظيم، بعضها للسيارات، وبعضها للفرسان، وبعضها للسائرين؛ وتقدم هذه الغابة الشهيرة بطرقها ومتنزهاتها منظراً يأخذ باللب، ويذكي الخيال، وينعش المشاعر؛ ولقد كانت غابة بولونيا وما زالت متنزه الأرستوقراطية، وملتقى المحبين، يؤمون طرقاتها وأحراجها الساكنة في أمن وطمأنينة؛ ولم نر فيما رأينا من متنزهات أوربا وأحراجها النضرة، أبدع منظراً من هذه الغابة الساحرة التي تحمل طابع العناية الشاملة في سائر أنحائها.
هذه لمحة سريعة عن صروح باريس ومواطنها الأثرية العظيمة، ولسنا ندعي أنها لمحة شاملة، وكل ما هنالك أننا ذكرنا أهم ما يسترعي عناية السائح المتجول؛ أما الحديث عن الصروح والمعاهد العلمية فقد رأينا أن نستبقيه إلى فصل خاص.
(يتلى)
(? ? ?)