مجلة الرسالة/العدد 17/صور من الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 17/صور من الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1933


سيبويه المصري

للأستاذ احمد أمين

شخصية غريبة كانت في مصر في عهد الدولة الإخشيدية قبل بناء القاهرة، وكان يدوي اسمها في الفسطاط والقطائع وما بينهما قبيل مجيء الفاطميين، كانت شخصية ترهب وتحب، ويضحك منها، ويعتبر بها، إن شئت علما فعالم. أو شعراً فشاعر، أو أدباً فأديب، أو وعظاً فواعظ، أو فكاهة ففكه، أو نقداً مقذعا فناقد، أو جنوناً فمجنون.

ولد بمصر سنة 284هـ وعاش أربعا وسبعين سنة وأتقن النحو حتى لقب بسيبويه

ألطف ما فيه لوثة (لحسة) كانت بعقله، هي سر عظمته فقد جرأ على ما لم يجرؤ عليه أحد في عصره، كان معتزلياً يقف في المسجد وفي الشارع فيصرح بآرائه في الاعتزال، ويصيح بأن القرآن مخلوق فيقولون مجنون. ويتركونه يقول ما شاء حيث لا يقول أحد شيئا من ذلك الا همساً أو من وراء حجاب، ويتعرض للناس بالقول اللاذع سواء في ذلك كافور الإخشيد أو وزيره، أو العلماء أو التجار، فيتضاحكون منه ويتقون لسانه ببره والإهداء اليه، سراً وجهراً.

كانت نوادره كثيرة، تتلقفها الألسن، ويتناقلها الرواة، فتشيع في الناس وتكون سلوتهم ومثار ضحكهم.

وقديماً عرف المصريون بالفكاهة الحلوة والنادرة اللطيفة كما عرفوا بالإعجاب بها والجد في طلبها والإمعان في الضحك منها.

من أجل هذا ألف ابن زولاق المصري كتابه اللطيف في نوادر سيبويه، لم يذكر فيه الا قليلا عن علمه ولم يذكر شيئاً عن نحوه ولا عن جده، وانما ملأه كله بفكاهته ولوثته. حذا ابن زولاق هذا حذو مؤلفي العراق في تدوين حوادث ظرفاء الممرورين. وابن زولاق نفسه يقول (لو كان سيبويه بالعراق لجمع كلامه، ونقلت ألفاظه، ولو عرف المصريون قدره لجمعوا عنه أكثر مما حفظوه).

عرف منذ شب بهذه اللوثة، تظهر في حركاته ورمش عينه، وزادت بترديه في بئر أمام بيته، وتهيج أحيانا فيطرح ثيابه ويمشي عريان في الطريق على عورته خرقة، وعلى أكتافه خرقة، وبيده عصا ومصحف ويروح إلى الجامع وهو على هذا الشكل يعظ ويتزهد، وأحياناً تهدأ ثائرته فينادم الأمراء والوزراء ويعجبون بلطفه وظرفه، وتقول زوجه انه انما كان يهيج إذا لم يأكل اللحم والدسم فإذا أكلهما هدأ.

قلت لن لوثته سر عظمته، فإذا هو هدأ سكت ولكنه إذا هاج أتى بالنوادر الطريفة والكلم السيار، ولذلك قالوا فيه أنه (إذا لم يكن له من يهيجه لم يخرج علمه).

سب مرة خازن الإخشيد أو وزير ماليته فأخذه وعذبه ثم أطلقه وأجرى عليه الرزق فكان الصبيان أحيانا إذا رأوه يتصايحون (يا خازن اخرج عليه) فيهيج ما به وينطق بالقول اللطيف.

كان يقول القول عل سجيته لا يرهب أحداً، قد أدخل مرة مستشفى المجاذيب ثم أخرجه كافور الإخشيد، فلما مثل بين يديه قال له سيبويه (ما مثلك يصطنع بعشرين ألف دينار ولا بثلاثين ألفاً إذا كنت عادلا، فأما إذا كنت جائرا فأسود بعشرة دنانير يقوم مقامك)

وكان أكثر قوله سجعاً، ومن ثم كان أكثر دورانا على الألسنة وأسهل حفظاً.

لقى المحتسب وبين يديه أجراسه فقال: (ما هذه الأجراس يا أنجاس، والله ما ثَم حق أقمتوه، ولا سعراً أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أجراس تسمع، لباطل يوضع، وإقفاء تصفع، وبراطيل تقطع، لا حفظ الله من جعلك محتسباً، ولا رحم لك ولا له أماً ولا أباً).

وكان مخشي اللسان يهرب الوجهاء والأعيان إذا سمعوا صوته من بعيد، حتى لا يقذفهم بقذيفة من لذعاته تسير في الناس، وكان كافور يعجب كيف يسكت المصريون على سبه ويقول: (سبحان من سلط سيبويه عليكم ينتقم منكم وما تقدرون على الانتصار).

وما السبب في هذا الا أنه كان يعمد إلى الرؤساء فيصب عليهم كلماته القارسة تصيب منهم مقتلا، ويسر الشعب من هذا لأنه يعبر عما في نفوسهم، وينتقم من خصومهم ويجرؤ بجنونه على ما لم يجرؤ عليه عقلاؤهم، وكان يستطيع بلسانه أن يصل إلى ما يتحرج من ذكره المتدينون. لقد كان يوماً يؤاكل ابن المادراني الوزير، وعنده هارون العباسي فقدمت هريسة فقال هارون: أكثر منها ياسيبويه فانها تذهب بالوسواس من رأسك، فكف سيبويه عن الطعام وأخذ يفكر، فقالوا فيم تفكر؟ قال أفكر في امتناع إبليس من السجود لآدم، والآن ظهر عذره: علم ابليس أن هذا في صلب آدم فلم يسجد له، ولو عرض على كلاب اليهود أن تسجد لنسمةٍ هذا في ظهرها ما فعلت.

ونحو هذا من أنواع الهجاء القاسي.

وهو مع هذا أديب ظريف له نظرات في الأدب جميلة يقول: إن أفضل الكلام ما اعتدلت مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسن ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه.

وقد هجا بعض الناس شيخا من شيوخه فقال سيبويه:

ما يضر البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه صبي بحجر

وسمع بيت المتنبي:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد

فقال هذا كلام فاسد، لأن الصداقة ضد العداوة ولو قال:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من مداراته بد. . لكان أحسن وأجود

وبلغ المتنبي هذا النقد فذهب إلى سيبويه وسمعه منه فتبسم وانصرف، فصاح سيبويه: انبكم!

ومع هذا فلما سمع قول المتنبي:

ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الأنام تسير. . الخ

صاح سيبويه لبيك لبيك! أنا عبد هذه الأبيات.

مما يدل على ذوق حسن ونقد صحيح وتقدير للأدب. ولقد كان عالي النفس، دقيق الحس، يرى الناس كلهم دونه، فلا يذل لعظيم، ولا يهين لكبير، طلبة أنوجور بن الإخشيد أمير مصر لينادمه، فقال على شرط أن أنزل حيث تنزل، وأركب حيث تركب، وأجلس متكئا، فأجابه إلى شرطه.

وكان سيبويه يحدث عظيما فجاء خادم يسر حديثا إلى هذا الجليس فسمع له وقطع الاستماع لسيبويه. فقام سيبويه مغضبا، فسأله إلى أين؟ قال لا تجالس من لا يرى مجالستك رفعة، ولا تحدثن من لا يرى حديثك متعة، ولا تسألن من لا تأمن منعه، ولا تأمرن من لا تأمن طوعه.

ولما ماتت أم سيبويه حضر في جنازتها كل كبير في مصر الا ابن المادراني الوزير، وعاد والناس حوله، فأخذ سيبويه يطلق لسانه في هجاء أبن المادراني، وما نجاه من لسانه إلا أن لقيه في الطريق يأتي مسرعا ليدرك الجنازة.

على الجملة كان سيبويه طرفة مصر في عصره، علماً وأدباً وفكاهة وجنوناً - كان يقوم فيهم مقام العالم والواعظ والأديب، ومقام الجريدة السيارة الناقدة اللإذاعة، وكان منظره بديعاً، يدور في الأسواق على حماره أو حمار غيره، وما أكثر من كان يتقي لسانه بتقديم حماره!

فبحق قال (جوهر الصقلي) لما دخل مصر وذكرت له أخباره (لو أدركته لأهديته إلى مولانا المعز في جملة الهدية) وبحق لما سمع به (فاتك) ممدوح المتنبي قال: ذكروني به فلعلي أستدعيه فانه نزهة.