مجلة الرسالة/العدد 17/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 17/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1933



عودة الروح بين العامية والعربية

- 1 -

أشهد أن الأستاذ توفيق الحكيم مؤلف متعب وكاتب ليس بالسهل ولا باليسير، وما عليك أن لم تلحق غباره أو تلم بجميع نواحيه، ويخيل إلي أنه كقمة افرست الشامخة ترسل إليها البعثات من آن لآن، ويرتادها الرواد من شتى جنباتها يحاولون الوصول إلى ذلك السمو وارتقاء ذلك الارتفاع الشاهق، ويهيئون لذلك الوسيلة ويأخذون للأمر أهبته وعدته، ثم يعودون ليكتبوا عنها المجلدات الضخمة ويضعون في وصفها الأسفار المسهبة. وما يزال أكثرها مجهولا في طي الخفاء، بعيدا عن الثابت من اليقين الذي لا يقبل الشك، وتضيع كل الجهود أمام ذروة هذه القمة هباء

أثارت (أهل الكهف) للأستاذ المؤلف ما أثارت، وأوسع لها النقد الرحاب وهتف لها اكبر الكتاب وأئمة النقاد في البلد، وارتفع توفيق الحكيم كالطود الشامخ في مثل لمح من البرق خاطف، وأصبح اسمه ملء الأسماع والأبصار، ولما يقدم الا رواية واحدة أو قل كتابا واحدا من مجموعة ضخمة يخايل بها الناس ويضن عليهم بها.

ثم نشر قصته (عودة الروح) فدلت على ناحية جديدة من نواحي كفاية هذا الشاب المؤلف، وعلى معين جديد يغرف منه توفيق الحكيم في حكمة ومهارة. ودقة واستنباط، لست تدري كيف تصفها ولا كيف تصورها، صورتها الحق من الجمال والفن

و (أهل الكهف) و (عودة الروح) كتابان جد مختلفين، فالأول قصة قديمة، أو قل أقصوصة دينية صاغها المؤلف في حذق ومهارة وأتى فيها بكل طريف مبتكر مما قدره النقد وجعله يرفع الكاتب لأول وهلة إلى عليين. لأنه لم يكن بد مما ليس منه بد. والثاني شد ما يختلف عن الأول كل الاختلاف ويفترق عنه في جوهره ولبابه، وإن شابهه في تفصيله وحبكه، فعودة الروح قصة مصرية، عريقة في مصريتها، كتبها توفيق الحكيم عن الأشخاص الذين تراهم كل يوم أو تسمع بهم مطلع كل شمس، فقدمهم اليك في صورتهم الحقة التي تعرفها، أو تحسها ولا تكاد تنكرها، بل ما تراها حتى تتعرف إليها وترى فيها الصورة الصادقة التي تتخيلها، وهي ليست الا أشخاصا من صميم المجتمع المصري أدار المؤلف قصته حولهم، وقدمهم اليك في لباقة ومهارة ونفث فيهم من روحه القوي المؤاتي. كما نفث في أهل الكهف من قبل، وإذا بهم أحياء يسعون ويتحركون، يتعاطون من ألوان الحياة ويعانون من ضروبها ما يمر بالكائن الحي كل ساعة وكل يوم، فإذا هم ليسوا تصوير المخيلة ولا هم القريحة بل أناس من لحم ودم، محببين اليك، مقربين منك، لأنك لا تجهلهم ولست بالغريب عنهم، بل لطالما رأيتهم وتحدثت إليهم وسمعت من أنبائهم وأخبارهم الكثير، وكل ما هناك أن المؤلف انتزعهم من اللحم والدم وضمنهم كتابا من أسطر وكلمات، ولكن ما نزع منهم الروح ولا حرمهم الحياة، فانهم ليحيون حياة موفورة ناضجة، بل انهم استمتعوا بدنياهم مرتين، مرة في الحياة الحقة ومرة بين جلدتي كتاب. وما ندري أي الحياتين كانت عليهم أجدى ولذكرهم أخلد وأبعد أثرا.

على أن (عودة الروح) أثارت لغطا وأثارت نقدا هجاها ونال أو حاول النيل منها. أو قل على الأصح أن لغة (عودة الروح) هي التي أثارت هذا اللغط وأثارت هذا النقد، فما قرأنا حتى اليوم كلمة هجاء أو قدح في الرواية ذاتها، ولعلها فوق أن يتناولها الناقد بالذات، أو أنها تسمو في صميمها عن اللغط، فما كان بد لمن أراد ذلك أن يتناول المظهر ويترك الأصل والجوهر، فلا يطرق بابا يعلم انه لا يستطيع ان يلجه في سهولة ولا في عسر، مهما جهد أو وسعت له الحيلة.

على أن هذا اللغط الذي أثارته القصة كان خليقا أن يثير مناحي من التفكير ليست في الحق جديدة، وليست مما لم يتناوله الكتاب بأقلامهم قبل اليوم، ولكنها تعاد اليوم في صورة رحبة فسيحة الجنبات، وتنتهز لها فرصة هي ولا شك أفشل الفرص وأقربها إلى خيبة المسعى، وأدناها إلى قطع الرجاء. وعندي ان أنصار العامية (وما أعرف موقفي منهم على وجه الدقة) ما كانوا يرحبون بفرصة عارضة كهذه الفرصة السعيدة، تثار فيها قضية العامية والعربية من جديد ويكون مثار النزاع ومركز الشجار حول (عودة الروح)

قرأت هذه القصة منذ شهرين فما طلعت شمس يوم الا وفي نيتي ان أكتب عنها، وما دخل ليل الا وقد هيأت الورق والقلم، ولكن تمر الأيام والليالي وأنا متهيب أو كالمتهيب أن آخذ في حديث عن هذا الكنز فأغفل عن درة من درره، أو تفوتني جوهرة من جواهره، أو كأني وقد شغلني حديث (أبطال القصة) محسن وسنية وسليم وعبده وحنفي وزنوبة ومبروك طوال هذا الزمن. استطبت الحياة مع هؤلاء الأصدقاء الجدد. واستعذبت حديثهم واسترحت إلى ما يعرضون عليّ من قصتهم وحوادثهم، وألوان شخصياتهم الطريفة البديعة، فنسيت معهم كل شي. أو حرصت على هذا النسيان ولم أشأ لنفسي ان أحرمها هذا الحلم الجميل، فطال وطال حتى لم يكن بد من يقظة ولو مؤخرة.

وكان لزاما عليّ أن أحدث القراء حديث هؤلاء الأبطال وما وقع لهم بالتمام والكمال. . . ولكن هذا اللغط الذي أثار حول لغة الرواية لم يكن ليمر دون أن يثير، كما قلنا، كثيرا من التأمل وكثيرا من التفكير، وكان أولى أن يتقدم فيه القول قبل ان ندلي برأي او كلمة في القصة نفسها، وإني لأسأل على دهش مني وعجب ليس بالقليل: أيهما أحق بالالتفات والنقد. . . المظهر أم الجوهر؟ الثوب أم لابسه؟ القصة أم لغتها؟

أفهم أن يتناول كاتب قصة، ينقدها ما شاء له النقد، ويمدحها أو يهجوها ما ساء له المدح او الهجاء. وما شاء له ذوقه الشخصي وكفاياته وإطلاعه ومقاييسه الأدبية، أفهم هذا وأستسيغه، وإذا ما انتهى الناقد من القصة ذاتها وشاء ان ينقد لغتها وأسلوبها من حيث اللغة نفسها فلا جناح عليه، بل لعله المقصر إن لم يفعل إن كان من الخبيرين بهذه الناحية المشهود لهم بالإحسان فيها، أما أن أدع القصة جانبا فلا أتناولها بخير ولا بشر، ولا أقول فيها كلمة لينة أو عسيرة، ثم أقفز قفزة، يالها من قفزة، فآخذ بتلابيب المؤلف لأنه كتب بالعامية ولم يكتب بالعربية، فهذا الذي لا يفهم ولا يستساغ ولا يكاد الإنسان يلوكه في فمه ويجد له طعما أو مذاقا

أيهما الأصل؟ القصة أم لغتها؟ وأعني اللغة التي كتبت بها القصة كائن حي خارج عن دائرة اللغة لانها أي (القصة) موجودة لها كيانها وذاتيتها كتبت ام لم تكتب، وهذه الحياة التي أحياها أنا وأنت وغيرنا من خلق الله لا يستطيع إنسان (على ما أظن) أن ينكرها، وليست هذه الحياة الا قصة من مئات الملايين من القصص، لا ينقص وجودها ولا يقل من ذاتيتها كتابتها باللغة العامية أو العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو أية لغة من لغات العالم ولا أستثني الهيروغليفية، فقصة (عودة الروح) ليست الا احدى قصص هذه الحياة التي تزخر بالملايين من شبيهاتها فهل نمحوها من الوجود وننكر الاعتراف بوجودها لأنها لم تلبس لنا ثوب اللغة الفصيحة.

وما قيمة هذه الحياة (هذه الحياة التي تتمثل في أقصوصة) إذا كنا لا نتعرف إليها ولا نعترف بها الا في اسموكنج أو الفراك؟! فإذا طالعتنا في زيها الحق، في ذلك الجلباب الفضفاض والسروال العريض أنكرناها ومررنا بها سراعا غير آبهين أو ملقين النظر؟ ان في حوانيت الحائكين آلافا من هذه البذلات الأنيقة الموشاة بالحرير والدمقس ولكن يعيينا أن تلمس في طياتها حياة أو في أردانها قصة؟! وما علينا بالله لو عنينا بالقصة في ذاتها فهي ليست مما يستطيعه كل إنسان وتركنا هذه البذلة وهي مما في مقدور كل حائك؟!

ما الأصل. . . القصة أم لغتها؟ وندور لنعود إلى سؤالنا الأول. القصة هي الموهبة وهي الخلق، أعني انها نتاج الموهبة وهي الثمرة أي الخلق الذي ينتهي اليه الفنان الموهوب، واللغة اكتساب وتحصيل وأنت واصل بالدرس والمران إلى هذه اللغة ولو طالت الشقة، ولكنك لن توجد من العدم موهبة ولن تخلق من العظام الرميم حياة ولن تهشم رأس إنسان لترفع عقلا سقيما وتضع مكانه عقلا خالقا ولو جهدت ولو استعديت كل قوى البشر، أفما كان الأجدر بك والأمر كما ترى أن تنظر إلى الموهبة لتقدرها قدرها أولاً ثم تنظر بعد ذلك في الاكتساب والتحصيل؟! وهل تحرم على هذا العامي الجاهل يأتيك من عرض الطريق بمحض الفطرة والعقل الخالق بما لا يستطيعه العالم الجهبذ بعد الجهد والإعياء؟! نقول هل تحرم على الأول الخلق لمجرد انه جاءك في ثوبه الطبيعي ولم يحاول أن ينمقه بيد الصناعة؟! وهل تأخذ عليه انه ينبيك الخبر كما وقع ويحدثك بالأمر على لسان أهله كما تحدثوا به؟

لست أتحدث هنا عن مذاهب الفن المتعددة فيما نحن بصدده، وقد أعلم أن الأستاذ توفيق الحكيم قد يحتج بانه ينقل الحياة كما هي ويرد عليه بان الفن ليس في نقل الصور نقلا فوتغرافيا وان يكن لهذا جماله ووقعه، وقد يحتج الأستاذ المؤلف بان أشخاص قصته لم يكن لهم ليتحدثوا غير هذه اللغة التي أراد الحوار عليها لأنها لغتهم الطبيعية، بل ولأن هذه هي اللغة التي تحدثوا بها بالفعل لا أكثر ولا أقل، ويكون من العسير أن تناقش المؤلف في هذا القول، لندع كل هذا الآن ولنحصر الجدل في قضية واحدة فإننا إذا تفرعنا بالقول هنا وهناك ذهب الاصل، واشتبكنا في فروع وفروع للفروع لا نهاية ولا آخر لها، وضعنا وضاع الحق بيننا. وهذه الدائرة التي نريد أن نحصر فيها القول يجمعها هذا السؤال ولنكرره للمرة الثالثة ولو أعدناه للمرة الثالثة بعد المليون ما ضجرنا.

أيهما الأصل. . . القصة؟ أم لغتها؟ إن كانت القصة هي الأصل وهي الجوهر وهي مدار الحديث وجب أن تكون عناية النقد موجهة إليها، وان كانت القصة القشور واللغة الجوهر فهذه مسألة أخرى.

ولنفرض يا سيدي ان لغة (عودة الروح) كانت هي الإنجليزية أو الفرنسية أو الفارسية، فماذا؟ ماذا بالله يا أبا الأسود الدؤلي؟ هل أخذت (احتكارا) باللغة العربية فما يكتب إنسان إلا بها ولا يدور حوار ما بين القطبين الا على أوزانها وضروبها ونحوها وصرفها؟ ولنفرض أن العامية من العربية كالفرنسية أو الإنجليزية منها أفلو أن توفيق الحكيم كتب (عودة الروح) بأية لغة من لغات العالم كنا نرفضها ونأبى ان نعترف لكاتبها بجهد أو فضل لمجرد انه كتب قصته بهذه اللغة أو بتلك؟ أفلا نقرأ القصص في لغات العالم فنعجب بها وهي ليست باللغة العربي؟ لست اسأل هازلا أو متندرا بل إني لجاد كل الجد، فإذا كنا نفعل ذلك فما بالنا نقف من قصة بالعامية هذا الموقف؟ ولنفرض يا سيدي أن توفيق الحكيم لا يعرف اللغة العربية أفنكسر هذا القلم الذهبي ونخرس هذا اللسان الحكيم ونقبر هذا العقل الخلاق لمثل هذا السبب؟ بل ولألف سبب مثل هذا السبب؟! وأي أديب سلمت لغته من الشوائب وها هو أحد أئمة النقد يصف أسلوب أحد أئمة الكتاب بانه لا يسلم من الابتذال وكاتب آخر ينال من كاتب معروف ويقول فيه ما لم يقل عشر معشاره في توفيق الحكيم؟!

وأيهما أجدى على الدنيا وأجدى على الأدب، كاتب ذخيرته ألفاظ وكلمات ام كاتب ملء أهابه الحياة وملء جعبته الدنيا يخرج لنا منها عقله الموهوب زادا دسما وطعاما لنا فيه شبع وري؟ لو اجتمع الكاتبان لكانا أمل الدنيا وأنشودة العالم فإذا لم تشأ حكمة أزلية الا أن تفرق بينهما فأيهما نأخذ وأيهما ندع؟

ان الأدب غاية، واللغة وسيلة، وحرام ان نهدم الغاية من أجل الوسيلة، ونغالي من قدر هذه الوسيلة حتى ليتعذر علينا بلوغ هذه الغاية

محمد علي حماد

(الرسالة): - كلام الأستاذ أشبه شيء بالدعابة، فان أكثره لا يجري على قواعد الأدب ولا أصول الفن، ولعمري كيف نستطيع أن نفصل المعنى عن اللفظ أو القصة عن اللغة أو الموضوع عن الشكل وليس لأحد منهما وجود فني في ذاته؟ فالقصة قبل أن تلبس اللغة لا تسمى قصة، والألفاظ قبل أن تؤدي المعاني لا تسمى لغة.