مجلة الرسالة/العدد 169/وجع القلب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 169/وجع القلب

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

وجدت بالتجربة أني لا أستطيع أن أحب كما تريد المرأة من الرجل - ولست أعني أني عاجز عن الحب، فما أعرف لي في هذه الدنيا عملاً غير ذلك. فأنا أحب الطعام الجيد والشراب اللذيذ والنوم الهنيء والراحة التامة؛ وأحب الكتب والصديق الموافق الذي لا ينغص الحياة على صاحبه بطول المخالفة وكثرة المكابرة ودوام الشذوذ؛ وأحب أشياء كثيرة لا أستطيع أن أحصيها. ولكني أحب نفسي وهذا هو البلاء الأكبر. وليس هو ببلاء، إذا أردت الحق، ولكن المرأة تراه كذلك. وعندها أنك تبيع نفسك حين تحبها. ولا بأس بأن يبيع المرء نفسه أحياناً، ولكن بيعها لا يستلزم أن تترك حبها وتكف عنه. وهل يعقل أن تفيض حبك على الناس والأشياء ولا تختص نفسك ببعض هذا (الفيضان؟) غير أن غير المعقول عندك هو المعقول عندها والذي لا يجوز خلافه ولا صبر لها على سواه، فهي من أجل ذلك تسود عيشك وتريك النجوم في الظهر الأحمر. على أن الرجل يستطيع أن يخفي حبه لنفسه أو يموهه ويستره بما يحجبه، ولا أظن أن في هذا عسراً فأنه يفعل هذا كل ساعة ولا يزال يعزو أعماله إلى بواعث أخرى يظنها أشرف وأسمى من حب النفس، فهو مثلاً يأكل لا لأنه يشتهي الطعام بل لأن من واجبه أن يحرص على أن يظل قوياً قادراً على خدمة النوع الإنساني، وعلى نفس هذا فقس! غير أن هناك ما لا سبيل إلى ستره وكتمانه وتمويهه، إذ من الواضح مثلاً أن من العبث أن تنظر إلى اليمين وأن تروح تزعم أنك إنما كنت تنظر إلى الشمال، فإن اتجاه العين لا يخفى ولفتة الوجه لا مغالطة فيها. فإذا كانت النظرة إلى امرأة وأنت مع أخرى فالويل لك ولستُ مسئولاً عنك. . . . قالت لي مرة إحداهن وأنا معها وقد رأت عيني تدور: (بص هنا) وجذبتني من ذراعي، فقلت وأنا مستغرب: (ولماذا لا أبص هناك؟) قالت: (كده) بهذا الإيجاز الذي لا يفيد شيئاً؛ فقلت: (كده يعني ماذا؟ قالت: (كده) ولم تزد. فضاق صدري فقد عجزت أن أفهم سر هذا الأمر المتعب أو حكمته وقلت: (يا ستي. . إن الله خلق عيني متحركة غير ثابتة فكيف ألزمها الثبات؟ ثم هبيني استطعت ذلك فلماذا أتكلفه؟).

فقالت: (عيب!).

فصحت (عيب؟؟ يا خبر اسود!!).

فقالت: (لا يليق أن تنظر إلى الفتيات في الطريق).

ففهمت ولكني لم أقتنع وقلت: (إن لي على هذا رداً طويلاً فهل تسمحين بأن تسمعيه؟).

قالت بتهكم: (نعم يا سيدي. . .).

فتجاوزت عن لهجة السخرية إذ حسبي موضوع واحد للخلاف وقلت: (أولاً - لماذا تظهر الفتيات لنا معاشر الرجال في الطريق إذا كن لا يردن أن ينظر إليهن أحد؟ ثانياً - وهذا أهم - لماذا يظهرن في حفل من الزينة إذا كان لا يرضيهن أن يدير الرجال فيهن عيونهم؟ ثالثا - وهذا هو الأهم - بأي وجه ألقى الله يوم القيامة إذا كنت أغمض عيني وأتكلف العمى ولا أنظر إلى مخلوقاته التي أبدعها؟؟ وقد خلق لي عينين فلا عذر لي، ورزقني غير ذلك وسائل القدرة على إدراك معاني الجمال في خلقه سبحانه. . أليس من الواضح أن مما يخجلني يوم القيامة أنه تعالى خلقني بصيراً فآثرت العمى، ومحساً مدركاً ففضلت الجهل والبلادة؟؟ وأخيراً - لا آخراً - ما الضرر على كل حال من النظر إلى الناس؟؟ ماذا خسرت الفتاة التي نظرت إليها؟. . هل أنا أكلتها بعيني؟؟ هل نقصت شيئاً؟؟ إني أراها على العكس قد زادت. . . نعم زادت. . . لماذا تنظرين إلي هكذا؟؟ هل نطقت كفراً؟؟ أقول لك زادت لأنها استفادت إحساساً جديداً مؤيداً لإحساسها بجمالها، ولو كنت لم أنظر إليها لكانت خليقة أن يساورها الشك فيما تحس من نفسها أو تعتقد، فأنا قد أفدتها راحة البال واطمئنان الخاطر، وإني لجدير بالشكر على هذا لا اللوم).

فصاحت بي بعد طول الصمت: (طيب اسكت بقى).

فقلت وأنا ضجر: (هكذا أنتن يا نساء!! إذا أعوزتكن الحجة قلتن: طيب أسكت بقى. . ولكني لا أنوي أن أسكت (بقى) فقد مرن لساني على الدوران وأنا أحس اليوم أني أوشك أن أقول كلاماً بديعاً).

فصاحت بي: (أنا معك فكيف تنظر إلى غيري؟).

فقلت: - وقد فهمت - (آه. . . . هذه هي المسألة. . . قولي هذا من الصبح يا ستي. . . نعم أنت معي. . . وإنك لحسبي من عالم الجمال والفتنة، ولو وسعني غير هذا لما كنت حسبي. . . ولكني قانع غير متذمر. . . غير أنك مع الأسف لست كل النساء. . وأنت تغنين عن جنسك أحياناً ولكنك لا تستطيعين أن تغني عن هذا الجنس في كل حين؛ وليس ذنبي أنك قاصرة).

فقاطعتني صائحة: (قاصرة؟؟ أشكرك).

قلت: (نعم قاصرة عن اختزال جنسك كله في شخصك الواحد).

فأبت أن تسمع مني بعد ذلك فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. . الأمر لله. . . سكتنا يا ستي. . فلعلك تكونين مسرورة).

ولكنها لم تكن مسرورة ولم تغفرها لي قط. . . وأنا أقول تغفرها بغير تعيين أو تبيين لأني والله لا أدري إلى هذه الساعة أي شيء أغضبها وأثار نقمتها علي.

وحدث مرة أخرى أن كلفتني أن أشتري لها فاكهة وكنت أعرفها تحب الجوافة حباً جماً فانتقيت حبات طيبة الرائحة ذكية العبق واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام؛ وذهبت بحملي إليها، ودخلت به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها: (قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العين. لقد حضر سيدك، ونور عينك اليمنى - واليسرى أيضاً في الحقيقة - ومعه حمل بعير من الجوافة بل من أبدع أنواعها).

فذهبت الخادمة وأبلغتها الرسالة فأطلت تلك من باب غرفتها - بوجهها فقط - وصاحت وهي فرحة - صحيح؟؟ جوافة؟؟ حلوة؟؟).

ففتحت الكيس وأخرجت واحدة ورفعتها لها بين أصابعي وأدرتها أمام عينها فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: (حالاً. حالاً. . . دقيقة واحدة) ودخلت.

وبقيت أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما علق به من التراب. . ومسحت الحذاء أيضاً. . مسحته مرتين حتى صار جلده كالمرآة، وحتى حدثتني نفسي أن أخلعه أنظر إلى وجهي فيه، ولكني خفت أن تدخل علي وأنا أفعل ذلك. . وتأملت الحرير الذي كسيت به الكراسي، ورفعت طرف السجادة وجسستها وفركت وبرها بأصابعي، ثم لم أجد شيئاً آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططت على كرسي كبير وثير واضطجعت وفي مأمولي إذا نمت ألا توقظني حين تدخل، ولكني لم أنم لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه مفتوحاً، فتسور إلى أنفي أريجها وملأ صدري وأدار رأسي، فأحسست بالجوع ولكني ضبطت نفسي وشددت على اللجام وقلت: (اللهم أخزك يا شيطان!) غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة فجعل يقول لي: (وما حبة واحدة تأكلها فتنيم بها هذه الثعالب التي تمزق أحشاءك؟) فقلت: (والله لقد صدق اللعين. . فلآكل حبة واحدة من الجوافة اللذيذة. . ثم إن هذا عدل. . أفأحملها وأحرمها؟؟ وأكون كالعير التي يقولون إنها يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب؟ أو كالحمار الذي يحمل أسفاراً؟؟.).

ومددت يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناولت منه من غير أن أنظر إليه: وطابت الجوافة في فمي، فأقبلت عليها آكل وآكل - ولكن بغير احتفال والله - وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهلة مرحبة باسطة يديها للسلام، ثم إذا بها تقف في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جداً عليّ، فلم أستغرب، فقد كان فمي محشواً وأسناني تعمل دائبة كالليل والنهار. وتنبهت إلى واجني حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعت ما بقي في فمي بسرعة، ومططت عنقي ليسهل الانزلاق - أعني البلع - وانحنيت على الكيس لأتناوله وأقدمه إليها وأسرها به - أعني بالجوافة التي فيه - وإذا به ينطبق بين يدي لأنه فارغ!!

الحق أقول إني بهت، فما كان يخطر لي في بال أن آكل كل هذه الجوافة. ولو أن إنساناً راهنني أن أفعل لفزعت وأشفقت على نفسي، ولكن هذا الذي لم أكن أحسب أن لي قدرة عليه وقع اتفاقاً. . وقد سرني هذا في الحقيقة لأنه كان من بواعث الاطمئنان لي على صحتي، وكان جديراً بها أن تهنئني وتقرح لي، فإن الجوافة كثيرة وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه تافه لا يستحق الذكر. . . ولكنها وجمت يا أخي لا أدري لماذا؟ ووقفت جامدة لا تتحرك كأنما سمرت إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخفت أن يكون قد أصابها شيء لا قدر الله، وأقبلت عليها أسألها عما جرى لها؛ فلما أفاقت أشارت بيدها - دون أن تتكلم - أن اذهب. . اذهب ولا ترني وجهك! فاستغربت أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبشر الذي كان يفيض به وجهها وهي مطلة به من بين مصراعي الباب، وتمنيت لو أنها تبقى أبداً ووجهها بين المصراعين ليبقى لي بشرها وحلاوة ابتسامتها!!

الحق أني لا أفهم النساء. . . . وهل تستطيع أنت أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة بين رجل وامرأة من أجل أقة من الجوافة ثمنها قرش ونصف قرش؟ إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.

إبراهيم عبد القادر المازني