مجلة الرسالة/العدد 169/المجاهد
مجلة الرسالة/العدد 169/المجاهد
للأستاذ عبد الحليم عباس
هات لي عتادي.
فقد انتهت المعركة بيني وبين نفسي. هي تريدني أن أقرّ، وأريدها تحيا ساعةً من نهار في جحيم المعركة؛ وهي تريدني أن أعيش في الحياة، وأريدها أن تسعد مع الموت.
هاهو ذا الظلم مستعلياً أبداً، كشأنه في كل عصر؛ لا أزعم أني سأمحقه، فقصارى الجهد أن أضع من جمجمتي حجراً في الزاوية.
هات لي عتادي.
فما قيمة العمر يمضي، وصليل القيد يصك سمعي، ورؤية الظلم تُعشي نواظري وما الحياة إن خلت من جمال الحق وعظمة الحرية، إلا جبُ منتن أكبرنا فيه حشرة.
هات لي عتادي.
فلو عرف الناس لذة الحياة لقدَّسوا الموت، ولو ذاقوا حلاوة الإيمان بالحق لدلفوا طُعمةً للنار. . . وما خير عيشٍ يرين عليه الظلم، وما لذةُ حياةٍ كل ما فيها متعة للظالمين؟
هات لي عتادي.
فلست أرهب موتاً يتساوى فيه الشقيُّ مع السعيد، والراسف بالقيد مع الذي قيَّده، فرب جفنٍ ما رقأت دموعه، ورب قلبٍ ما التأمت كلومه، وجد له في الموت وفي ظل القبر برد الراحة وهناوة العزاء.
هات لي عتادي.
وتعالي انظري عزة الحق الأعزل، واستخذاء الباطل المسلح. . . هاهما يتلاحمان. . . فلمن الغلبة؟ أللباطل فقديماً غَلَب، أم للحق فتلك ومضات في حلوكة التاريخ؟
منذ ساعة فتحَّ الحق عيني، وأنار الإيمان قلبي، فرأيت مواكب الأحياء على حقيقتها سائرة تتململ ولا تشكو، وتجرع الغصة ولا تئن، ورأيت الحقَّ فيما بينها مهيض الجناح، مشنوءا حامله، فعلمت أن من يعرف الحق ويؤمن به كل عمره، مهما طال - ساعةً من نهار.
منذ ساعة فتحَّ الحق عيني، فرأيت الإنسانية، ترجع إلى الوراء فعلمت أنه إن لم يصدها الإيمان، وتلتقي بها القوة المؤمنة، فغير بعيدٍ ذلك اليوم الذي تحتفل به لأكل لحم البشر! وسار المجاهد، رافع الرأس، منتصب القامة، يتلألأ على وجهه نور اليقين، ويرف عليه روح من الحق، قال وكأنه يخاطب نفسه:
ليست حقيقة الحياة في الحياة، وإنما هي فيما وراءها؛ وليس الموت في سبيل الحق غير اتحاد بهذه الحقيقة التي هي (الله).
للفضيلة دربٌ مختصر، وهو أن تضع بدل كلمة (أنا) (نحن)، والحجة القاطعة على أنك وضعت هذه بدل تلك أن تكتبها بدمك، لتقيمها على حجارة رمسك.
ليس العمر مجموعة أيام، وإنما هو سجل أعمال؛ فرب كهل لم يعش غير أيام، ورب فتىً لا تحصر عمره الأعوام؛ فإذا لم يك من الموت بد، فلم لا تزد بعمرك ساعة جهاد، لتطاول الحقب ولتدرج مع الأجيال؟
يقولون إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة، أتدري لماذا؟ لأن من يستعلي على الظلم ساعة في ساحة الموت، يشارك الحكمة الأزلية في عملها، وهي الجهاد لتثبيت الحق، في هذه الأرض. فمحالٌ أن ترضى الحكمة الخالدة في غير نزوله في كنفها. . . . . في الجنة.
وطويت الأرض تحت قدمي المجاهد، فسار يلفُّ السهل بالحزن، ويطوي البيد، حتى شارف المعركة، فوقف يتأملها برهة، وقد فاضت عليه قدسية الجهاد، والتمعت عيناه ببريق جميل، هو بريق عظمة الموت، فأخذ يتمتم:
إيه يا وطني! سماؤك وأرضك، جبالك الشم ووهادك الفيح، كلٌّ لها في القلب موطن حرمةٍ وجلال. تمنيت أن لي ألف نفسٍ أفديك بها، ولكنها نفسٌ واحدة، فدونكها جهد المُقل.
إيه يا وطني! مهبط الذكريات، ومغدى الأمل، غذتني تربتك، وبعثت فيَّ الحياة نسماتك؛ ليس الظلم المخيم على ربوعك إلا جزءاً من الظلم المنيخ على العالم بكلكله، وفي هذا بعض العزاء.
إيه يا وطني! هانحن أولاء تسارعنا لنجدتك، لا نطلب خلوداً، فإننا نعرف التاريخ لا يتسع صدره لذكر أمثالنا. ليس التاريخ إلا سير العظماء، وهيهات أن تعرف الدنيا إلا ضرباً واحداً منهم، أقواهم وأقدرهم على الفتك والظلم الذي زحفنا لصدامه، ولسنا نطلب جاهاً أو متاعاً من متاع الفانية فإننا نعرف أن التكالب على الجاه في ظل العبودية، قتالٌ على الجيفة، تقوم به طائفة نسميها الكلاب.
ولكننا آثرنا الموت على الحياة، لتزهو الحياة في يوم، وليسعد فيها هذا البشر اللاغب المتعب. . وثرنا لأننا علمنا أن الموت في سبيل الحق حياةٌ رائعةٌ مديدة. . . ودوت قنبلة أعقبتها طلقات، فانتفض المجاهد وانحدر يهدر كالسيل الأتيّ. . . إلى المعركة، إلى الموت! وما هي إلا ساعة حتى استشهد، فقد كن يقاتل كالمجنون!
أين المجاهد؟!
أما جسمه (فكم مقلةٍ في منقار طائر، وكم خد عتيق، وجبين رقيق، قد فلق بعمد الحديد).
أم روحه فقد مشت كالنسيم، توقظ الرمم، وتدفع الأمم إلى الموت في سبيل الحرية. . .
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس