مجلة الرسالة/العدد 167/في الأدب الإنكليزي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 167/في الأدب الإنكليزي

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1936


4 - هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟

للسيد جريس القسوس

- 7 -

تشاترتن والانتحال

لم يكن أحد من معاصري تشاترتن يشك في صحة ادعائه أن هذه الأشعار منسوبة إلى الكاهن رولي، بل كلهم يوقنون أن تشاترتن إنما عثر على هذه المنظومات في مخطوطات الكنيسة وسجلاتها، فنقحها ونشرها في مختلف الصحف، معلناً أنها اكتشافات أدبية جديدة.

لهذا كان في برستل أدبيان كبيران من هواة الأدب الرولي، هما جورج كتكوت وهنري برْجمْ هذان حفزهما الولع بهذا النوع من الأدب إلى جمع كلّ ما يعزى إلى ذلك الكاهن الخيالي؛ من ذلك مخطوطة أدبية وضعها تشاترتن، ونسبها إلى رولي، فابتاعها برْجمْ منه بخمسة شلنات، ظاناً أنها بقلم الكاهن رولي.

ولقد بلغ بتشاترتن طموحه الأدبي إلى مراسلة الصحف، سنة 1761، حين بلغ السابعة عشر من العمر، أن أعلن اكتشافه لقصائد شهيرة (من نظم كاهن من كهنة برستل، اسمه رولي، عاصر هنري السادس، وإدوارد السابع)، لكنه لم يتلقّ جواباً مرضياً شافياً؛ لهذا بعث إلى الأديب النبيل هوراس ولبول مؤلف قصة (قلعة أوترانتو) ينبئه باكتشافاته الأبية. فردّ عليه الأديب ولبول رداً حسناً، يستزيد فيه معرفة عن ناظم هذه الأشعار، وعن مقدارها، واعداً أن ينشرها على نفقته الخاصة.

وما كان من تشاترتن إلا أن عاد فبعث إليه بكتاب رقيق، يشرح فيه بؤسه وفقره، ويتوسّل إليه في إيجاد عمل له، يستطيع به أن يسد عوزه؛ وأرفق ذلك الكتاب ببعض الأشعار الرولية الممتعة. غير أنه ما كاد ولبول يتسلم هذه الأشعار، حتى سرّ بها سروراً دفعه إلى إطلاع أصدقائه عليها؛ من هؤلاء الشاعران الكبيران طوماس جري وميسن فأدهشهما الأسلوب الرائع، والفن البديع، والنفَس الشعري العالي إدهاشاً خالطت معه أفكارهما الريبة في أمر انتسابها إلى كاهن قديم العهد. فكن ذلك بدء المشكلة الرولية في عالم الإنكليزي.

لكن المشكلة لم تتطور وتتعقد إلا بعد وفاة تشاترتن، فقد جمعت هذه الأشعار ونشرت في مجلد خاص، كما بينا، سنة 1803؛ فأحدث نشرها ضجة صاخبة في عالم الأدب لم تخمد حتى يومنا الحاضر.

عندئذ بادر علماء اللغة إلى دراسة لغة هذه الأشعار دراسة وافية دقيقة، استطاعوا بها أن يكشفوا بعض الكشف عن حقيقة الأمر. فقد توصلوا في بحثهم إلى الاعتقاد الجازم بأن لغة هذه الأشعار لا يمكن أن تنسب إلى الشاعر رولي، إذ كيف يصح ذلك وكثير من مفرداتها لم تتسرب إلى اللغة الإنكليزية إلا بعد القرن الذي عاش فيها الكاهن رولي؟

وأخيراً استدلوا من بحثهم العميق على أن تشاترتن كان يعتمد في كتابة أشعاره على قاموسين في الاشتقاق للعالمين اللغويين بيلي وكَرْسي فقد كان دأبه في بدء الأمر جمع كل ما تقع عليه يده من المعاني والمفردات القديمة البالية؛ ثم كان ينحت ما يستطيع نحته منها، إذا رأى أن الوزن والقافية لا يستقيمان بغير ذلك.

ولقد أدرك علماء اللغة، وخاصة العلامة اللغوي الشهير ولتر سكيت أنه كان يكتب أولاً بلغة عصره، وبعد ذلك يحوله بمضاعفة حروف المفردات وغير ذلك من السبل الحاذقة إلى أسلوبه ولهجته الخاصة، بطريقة يحافظ فيها على جمال الأسلوب الشعري وروعته الفنية.

ولقد عثر علماء اللغة في شعر تشاترتن المنسوب إلى رولي على اقتباسات من شعر سبنسر وشكسبير، ودرايدن وبوب، وقري، لكنها موضوعة بطريقة لا يشتم منها سرقة أدبية، وإنما تدل على ذاكرة حادة، وعتْ هذه الأشعار، وأرسلتها في شتى المناسبات، بطريقة يتعذر معها على القارئ التمييز بين ما هو لتشاترتن، وما هو لغيره. وذلك مما يدل كل الدلالة على أن هذه الأشعار من نظم تشاترتن، لا الشاعر الخيالي رولي. إذ كيف يصح ذلك، ورولي - في رأي تشاترتن - عاش في عصر متقدم على هؤلاء الشعراء جميعاً؟

ومما زادهم ريبة وشكاً في أمر هذه الأشعار الرولية، إدراكهم - على ممر الأيام - حذق تشاترتن ومهارته في تقليد أساليب الكتاب والشعراء المعاصرين تقليداً يتعذر معه على القارئ التمييز بين أدب تشاترتن وأدب غيره. فكان مثلاً ينشر في مجلة & ومجلة مقالات رائعة، حاكى فيها أسلوب جونيس محاكاة مدهشة؛ ليس هذا فحسب، بل دفعه حذقه في فنون الكتابة وأساليبها الشعرية والنثرية إلى تقليد صمُلِتْ وتشارتشل ومكْفرسن في أوشان وبوب في أسلوبه الكلاسيكي، وقري وكولنز

وقد طرق - فرق ذلك - معظم أبواب الأدب فخلّف آثاراً قيّمة في الرسائل السياسية، وأناشيد الرعاة والشعر الغنائي والهجائي، والرواية الملحّنة ومن أشهر آثاره في هذا الباب أوبرا (الثأر)

والحاصل أن دراسة تطور اللغة، واشتقاق مفرداتها؛ وعثور العلماء على معان في شعر تشاترتن مقتبسة من شعراء متأخرين، وإدراكهم حذقه في محاكاة الأساليب والفنون النثرية والشعرية، ونفي المؤرخين زعم تشاترتن بوجود كاهن اسمه رولي عاش في القرن الخامس عشر وعرفه الناس واستمعوا إليه - جميع هذه أظهرت بجلاء واضح بطلان زعم تشاترتن، ودلّت دلالة صريحة أن هذه الأشعار لم تكن في الحقيقة إلا من نفثات براعة ذلك الشاعر الشاب، وأنه إنما اخترع الكاهن رولي اختراعاً لتمثيل فكرة أو نحو خاص في حياته، أو ليلهي به الناس، وليُرضي به حاجة أدبية أو خلقية في نفسه.

عندئذ سما تشاترتن في أعين الأدباء وكبر، وأصبح ديوانه خير ما يمثل عبقرية الشباب في ميدان هذا الفنّ الجميل.

الكرك - شرق الأردن

جريس القسوس