مجلة الرسالة/العدد 165/من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
مجلة الرسالة/العدد 165/من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
- 4 -
لغة المرافعة لغة التماس
ويجب ألا يغرب عن الذهن أن المترافع ملتمس، فلغته يجب أن تكون لغة التماس يحوطها الاحترام الكلي للهيئة التي يترافع أمامها. قد يكون أغزر من سامعيه علماً وأظهر فضلاً، وقد يكون كلامه لهم تعليماً، ولكن عبارته يجب أن تكون عبارة إكبار وإعظام.
والاحترام والإكبار لا يقتضي التذلل ولا الضعة في توجيه الخطاب. وشد ما أكره عبارة (سيدي البيه) يوجهها بعض الزملاء إلى قاض ليس (بيكا) ولا هو بحاجة إلى رتبة تخلع عليه على سبيل التأدب الزائد وقد يحمل خلعها على أنه زلفى وتقرب.
وفي الوقت عينه لغة جرأة
على أنه إن كانت لغة المرافعة لغة تعظيم وتوقير فهي في الوقت عينه لغة عزة وجرأة. وقد روى التاريخ مواقف للمحامين رقوا فيها إلى درجة البطولة. أنظر إلى ديسيز وقد دعاه لويس السادس عشر إلى الدفاع عنه أمام الجمعية التأسيسية في وقت جمعت فيه هذه الهيئة في يدها جميع السلطات، وأصبح مجرد الإشارة إلى الملوكية جريمة. أنظر إليه وهو يواجه هيئة ضمنها أمثال روبسبيير ودانتون ومارات. أنظر إليه وهو يقرع أسماعهم وقلوبهم بهذا الخطاب الخالد.
(أيها المواطنون! سأخاطبكم بلسان الرجل الحر. إني أبحث بينكم عن قضاة فلا أجد غير متهمين.
أتريدون أن تجعلوا من أنفسكم قضاة (للويس) وأنتم خصومه؟ أتريدون أن تجلسوا للحكم في قضية لويس ولكم فيها رأي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها؟
أيكون لويس الفرنسوي الوحيد الذي لا يحميه قانون ولا يتبع في محاكمته إجراء واحد صحيح؟ أيجرد من امتيازاته كملك ومن حقوقه كمواطن؟
أيخذله القانون حاكما ومحكوماً؟
ياله من مصير عجيب لا يتصور!)
لقد ضربت أعناق كثيرة في عهد الثورة لكلام أقل خطورة من هذا بما لا يقاس. ولكن لأعمال الجرأة روعة تهاب وتحترم، فأن التاريخ الذي حفظ هذه المرافعة الخالدة بين صحفه الذهبية. هذا التاريخ عينه يحدثنا بأن شعرة من رأس ديسيز لم تمس بسبب هذا الكلام الجريء وأنه ترافع بعد ذلك أكثر من مرة في أشد أوقات الثورة حلوكة وسوادا.
الاعتدال في لغة المرافعات
وليس أزرى بالمرافعات ولا أضيع لبهجتها ولا أفل لسلاحها من سفه لغتها. إن عبارة قاذعة واحدة يرمى بها خصم كريم - أو غير كريم - لتكفي في تنفير القاضي.
وليس بعد النفرة تفويت للغرض الأصيل المقصود بالمرافعات.
وأقبح من رمى الخصم بما لا يحب جرح الزميل.
صحيح أن المرافعة دفع وجذب، ونادر هو المترافع الذي يملك زمام أعصابه فلا تجمح به حدة الدفاع؛ ولكن المسألة مسألة مران، وإنك لتدهش وقد عودت نفسك التزام حدود الاعتدال كيف يسمو موقفك، وتعلو حجتك ويمتاز بيانك.
المرافعات في مصر
بقيت كلمة كان يمكن أن تكون موضوع مقال خاص، فلسنا نملك الإطالة فيها هنا، وهي عن المرافعات في مصر.
لقد انقضى على إنشاء المحاكم المختلطة نيف وستون عاماً، وأقل منها قليلاً على قيام المحاكم الأهلية، وقد غلبت على الأولى اللغة الفرنسية، وكانت العربية لغة الثانية منذ الإنشاء وقبله.
وقد زهت اللغة في كلا القضاءين إلى حد يشهد لمصر بالتفوق البعيد.
حضرت الأستاذين كاتسفليس وبادوا (وكلاهما شرقي متمصر) يترافعان في قضية قناة السويس. وكان إلى جانبي الأستاذ جرانمولان الناظر الأسبق لمدرسة الحقوق، فهمس في أذني والأول مندفع في بيانه الساحر: (لا تطمع أن تسمع خيراً من هذه الفرنسية من خير المترافعين أمام محكمة السين).
وفي المحاكم الأهلية سابقت لغة المرافعات الزمن فسبقته.
لقد وجد مداره مقاويل - على حد تعبير رئيس محكمة النقض - قبل أن تخطو اللغة العربية خطواتها الأخيرة الواسعة.
وجد (حسين صقر)، و (اللقاني)، و (نقولا توما) وغيرهم من بناة المجد في زمن كانت المحاماة فيه مجرد اجتهاد.
وثمة نموذج من هذا المجد الغابر تجده إلى اليوم قائماً بيننا في شخص شيخ الجماعة وإمام الصناعة الأستاذ الأكبر إبراهيم الهلباوي بك.
من ذا يستطيع إلى اليوم تحدي بديهته الوثابة ولغته الفكهة اللاذعة وسخره القتال؟
ومن ذا الذي يستطيع أن ينسى سعد زغلول وأبا شادي من جبابرة ذلك العصر وكلاهما كان إلى الأمس القريب صداحاً بأروع الأدب.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة هي فخر المحاماة بمعناها الصحيح وفخر لغة العصر: أحمد لطفي بلغته السهلة الممتعة وعبد العزيز فهمي بقلمه ولسانه الجبارين يتصرفان في المعنى وفي المبنى بما يريد ويشتهي. ووهيب دوس صاحب المنطق الجزل والديباجة الرشيقة والبيات المتدفق في غير متعة ولا تزيد. ومرقس! مرقس الذي لا يلحق ولا يدانى، مرقس الجذاب الأخاذ، المتغلغل بسامعه إلى الأعماق، السامي به إلى السبع الطباق.
كل من هؤلاء يستحق أن يدرس دراسة خاصة، وأن يقدمه إلى الناس قلم غير هذا القلم، وأن تقف عليه جهود لا تستطيعها هذه العجالة.
وفي دراسة هؤلاء الفحول دراسة لناحية مجيدة من أدبنا القومي يجب ألا تهمل. وحسبك منا هنا الإشارة إلى آثارهم في مختلف ألوان فني الكلام القضائي مما لا يحصيه محص.
مرافعات النيابة
ومن الإجرام أن نغفل في صدد الكلام على المرافعات في مصر جهود القائمين بالدعوى العامة.
لقد ضربوا في فني الكلام القضائي بسهم ورقوا بالمرافعات الجنائية إلى عليين.
من نذكر على سبيل المثال؟
أثروت أم أبو السعود من المغيبين في جوار الله؟ الأبراشي أم لبيب عطية أم عمر عارف من الأحياء النابهين؟
كلهم يصح أن يحتذى.
اسمع ما يقول النائب العام الأسبق في قضية الورداني
(إن الوطنية التي يدعي الدفاع عنها بهذا السلاح المسموم لبراء من مثل هذا المنكر.
إن الوطنية الصحيحة لا تحل في قلب ملأته مبادئ تستحل اغتيال النفس. إن مثل هذه المبادئ مقوضة لكل اجتماع.
وماذا يكون حال أمة إذا كانت حياة أولي الأمر فيها رهينة حكم متهوس يبيت ليله فيضطرب نومه وتكثر هواجسه فيصبح صباحه ويحمل سلاحه يغشاهم في دار أعمالهم فيسقيهم كأس المنون؟
ثم إذا سئل في ذلك تبجح وقال إنما أخدم وطني لأني أعتقد أن مثلهم خائنون للبلاد ضارون بها: تباً لتلك المبادئ وسحقاً لها! كيف يقوم لنظام قائمة مع تلك المبادئ الفاسدة؟ إن مبادئ كل اجتماع ألا ينال إنسان جزاء على عمل مهما كان هذا الجزاء صغيراً إلا عن يد قضاة اشترطت فيهم ضمانات قوية وبعد أن يتمكن من الدفاع عن نفسه حتى ينتج الجزاء النتيجة الصالحة التي وضع لها من حماية الاجتماع.
فإذا كان هذا هو الشأن في أقل جزاء يلحق بالنفس أو بالمال فما بالك بجزاء هو إزهاق الروح والحرمان من الحياة؟
تلك مبادئ لا وجود لمجتمع إلا بها ولا سعادة له بدونها، فالطمأنينة على المال والنفس هي أساس العمران ومن الدعائم التي ادعم عليها في كل زمان ومكان، ولكن الورداني له مذهب آخر في الاجتماع، فهو يضع نفسه موضع الحكم على أعمال الرجال فما ارتضاه منها كان هو النافع، وما لم يرتضه كان هو الضار. ويريد أيضاً أن يكون القاضي الذي يقدر الجزاء ثم يقضي به من غير معقب ولا راد.
كل ذلك والأمر لم يتعد إرجاء صدره ولا يعلم ذلك المسكين الذي سينصب عليه هذا القضاء أنه على قيد شبر من الموت جزاء له على جناية لم يسأل عنها ولم يعلم من أمرها شيئاً.
إن مثل هذا الحق لا يمكن أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى المطلع على السرائر العليم بالنيات، ومع ذلك فأنه جل شأنه شرع الحساب قبل العقاب؛ ثم إن هذا الحق لم يتطلع إليه أحد من العالمين حتى الأنبياء أنفسهم، وقد أجمعت الشرائع على عصمتهم من الزلل والخطأ، ولكن الورادني يريد أن يضع نفسه فوق كل الدرجات المتصورة لحاكم وحكم وقتل.
إني لترتعد فرائصي إذا تصورت منظر البلاد وقد نشأ فيها البلاء الأكبر بفشو تلك المبادئ القاضية).
واسمع ما يقوله النائب العام السابق خاتماً به مرافعته الرائعة في قضية الفلال.
(لقد أبنت مبلغ نذالة الجريمة ومدى شرها إذا هي وقعت على كابر جليل المقام.
أبنت ذلك بقدر ما فسح لي موقف النائب العمومي وأجازته الأمانة التي في عنقي.
ولو أن المجال حر لقائل لسمعتهم كل ما يتطلبه حزمكم وترضاه عدالتكم، ولكنني كما أسلفت مؤمن بفطنتكم ولي فيها كل الغناء.
على أن هناك أمراً أجل شأناً وأعظم خطراً لا أستطيع حمل ضميري على كتمانه، ولا عقد لساني عن بينه. هذا الأمر الخطير هو ما أشرت إليه في صدر مرافعتي وألمحت به عند حديثي عن الباعث الذي دفع المتهم إلى جنايته، ذلك هو ولع التبطل وغواية الاستعظام، وما أجملت في جلسة الإحالة بأنه داء اجتماعي وبيل يهدد الحكومات في كيانها ويشل النظام من أساسه، وأنه إن لم يؤخذ بيد عسراء استفحل ضرره وعز اتقاء شره. نعم استفحل ضرره وعز اتقاء شره.
ارسموا لأنفسكم بواسع خبرتكم ونافذ بصيرتكم حال البلاد وقد أصبح كل عظيم فيها هدفاً لرأي شقي تربعت في نفسه الشريرة هذه الأفكار الخطرة! تلك حال أستعيذ بالله منها.
هي مضيعة للطمأنينة ومقتلة للنبوغ ومفسدة لنفس العاملين؛ بل هي حفرة يتردى فيها إخلاص المخلصين ونشاط المجدين وإيمان الصالحين.
أنتم قضاة الحق ولكنكم أيضاً مربو الخلق. وكلمة العدل التي بها تنطقون يتجاوب صداها في نفوس ناشئة ونفوس ثائرة ونفوس فزعة خائرة. فاجعلوا حكمكم رسالة عدل وبلاغ عبرة وبشرى سلام.
وإذا جنحتم إلى الرحمة فاشملوا بها النشء وقد أوشك أن يلتوي، والبلاد وقد دب فيها ذاك الداء الوخيم.
أنتم أطباء النفس كما أنتم قضاة العدل، والطبيب البصير لا يتردد ولا يني عند الضرورة الحاكمة، والقاضي الحازم يهذب بالزجر الحكيم وهو في زجره من الراحمين.
وازلوا بين روعة الرحمة، وقد حلت بالبلاد وبالنشء وبين ضآلتها إن هي حلت بهذا المجرم العتيد، ثم اقضوا قضاءكم والله معكم إنه نعم الهادي ونعم النصير).
تلك وايم الحق بلاغة ليس بعدها بلاغة. معنى حكيم في لفظ سليم، وفصيح عبارة في أوجز إشارة.
وتعال إن أردت تسريح الطرف في خير ما تقع عليه العين من أدب في قضية أدب إلى مرافعة عمر عارف في دعوى القذف التي سبقت الإشارة إليها. اسمع ما يمهد به هذا الأديب المتشح برداء النيابة لمرافعته القيمة:
(تعرض اليوم أمام القضاء قضية جنى فيها رجلان ينتسبان إلى الأدب على طهر الأدب عامة في شخص مصري له مكانه من العلم. ولو لم يكن إلا أنه محام نذر نفسه لنصرة الحق أمام شرف القضاء لكان ذلك من المنزلة في الثقافة العلمية والفضل المشكور حسبه).
(يتبع)
زكي عريبي
المحامي أمام محكمة النقض والإبرام