مجلة الرسالة/العدد 162/ساكنو الثياب. . .
مجلة الرسالة/العدد 162/ساكنو الثياب. . .
للأستاذ مصطفى الرافعي
قال صاحب سرّ (م) باشا رحمة الله: وجاءني يوما اثنان من شيوخ الدين من ذوى هيئاتهم وأصحاب المنزلة فيهم، كلاهما هامَةٌ وقامة، وجُبَّة وعمامة، ودرجة من الإمامة؛ ولهما نسيم ينفُحُ عِطْرا حسبتُه من ترويح أجنحة الملائكة، وعليهما من الوقار كظل الشجرة الخضراء في لهب الشمس تفيء به يمنةً ويَسْرةً. فتوجَّهتُ إليهما بنظري، وأقبلتُ عليهما بنفسي، ووضعت حواسي كلها في خدمتهما؛ وقلت هؤلاء هم رجالُ القانون الذي مادتُه الأولى القلب
ما أسخف الحياةَ لولا أنها تدل على شرفها وقدرها ببعض الأحياء الذين نراهم في عالم التراب كأن مادتهم من السُّحُب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلوُّ والجمال. يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناسُ في تركيب طباعهم إلا الإخلاصَ وإن كان حرماً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألماً، وإلا الجِد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقراً
هؤلاء قوم يؤلَّفون بيد القدرة، فهم كالكتب قد انطوت على حقائقها وخُتمت كما وضعتْ لا تستطيع أن تخرج للناس من حقيقةٍ نصفَ حقيقة ولا شبه حقيقة ولا تزويراً على حقيقة
وما أعجبَ أمرَ هذه الحياة الإنسانية القائمة على النواميس الاقتصادية! فالسماءُ نفسها تحتاج فيها إلى سماسرة لعرض الجنة على الناس بالثمن الذي يملكه كل إنسان وهو العملُ الطيب
قال: ونظرت إلى الشيخين على اعتبار أنهما من بقية النبوَّة العاملة فيها شريعةُ نفسها، تلك الشريعة التي لا تتغير ولا تتبدل كيلا يتغير الناس ولا يتبدلوا. ثم سألتهما عن حاجتهما فإذا أحدهما قد عمل أبياتا من الشعر جاء يمدح بها الباشا ليزدلفَ إليه؛ فقلت في نفسي: ما أشبهَ خَجلَ الجبال بألوان صخرها! هذا عالِمُ دنيا يحدها من الشرق الرغيفُ، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان
ثم نشر ورقةً في يده وأخذ يسرد علي القصيدة، وهي على رَويّ الهاء تنتهي أبياتها ها. ها. ها. فكان يقرؤها شعرا أو كما يسميه هو شعرا، وكنت أسمعها أنا قهقهة من الشيطان الذ ركب أكتافَ هذا العالم الديني ها. ها. ها. ها. . . .
قال صاحب السر: وأدخلتهما على الباشا فوقف المدَّاح يمدح بقصيدته، وأخذت لحيته الوافرة تهتز في إنشاده كأنها مِنفضة ينفض بها المَلل عن عواطف الباشا. وكان للآخر صِمتٌ عاملٌ في نفسه كصمت الطبيعة حين تنفطر البذرةُ في داخلها، إذ كانت الحاجة حاجتَه هو، وإنما جاء بصاحبه رافداً وظهيراً يحمل الشمس والقمر والليث والغيث لتتقلب الأشياء حول الممدوح فيأخذه السحر، فيكون جواب الشمس على هذه اللغة أن تضيء يوم الشيخ، وجواب القمر أن يملأ ظلامه، وجواب الليث أن يفترس عدوَّه، وجواب الغيث أن يهطل على أرضه
والباشا لا يدع ظرفه ودعابته، وكان قد لمح في أشداق العالم المتشاعر أسناناً صناعية، فلما فرغ من نظمه الركيك قال له: يا أستاذ احسبني لا أكون إلا كاذباً إذا قلت لك لا فُضَّ فوك. . .
ثم ذكر الآخر حاجته وهى رجاؤه أن يكون عمدة القرية من ذوي قرابته لا من ذوي عداوته. فقال الباشا: ولقريتكم أيضاً أبو جهل. . . .؟
ولما انصرفا قال لي الباشا: لأمر ما جعل هؤلاء القوم لأنفسهم زياً خاصاً يتميزون به في الناس، كأن الدين بابٌ من التحرف والتصرف، بعض آلته في ثيابه؛ فهؤلاء يسكنون الجبب والقفاطين وكأنها دواوينُهم لا ثيابٌهم. . .
قد أفهم لهذا معنى صحيحاً إذا كان كلُّ رجل منهم محصوراً في واجبات عمله كالجندي في معاني سلاحه، فيكون التعظيم والتوقير لثوب العالم الديني كأداء التحية للثوب العسكري، معناه أن في هذا الثوب عملاً سامياً أوله بيع الروح وبذل النفس وترك الدنيا في سبيل المجتمع؛ هذا الثوب الموت يُفْرَض على الحياة أن تعظّمه وتجله، وثوب الدفاع تجب له الطاعة والانقياد، وثوب القوة ليس له إلا المهابة والإعزاز في الوطن
ولكن ماذا تصنع الجبة اليوم؟ تُطعم صاحبها. . .
أثر الجيش معروف في دفاع الأمم العدوة عن البلاد، فأين أثر جيش العلماء في دفاع المعاني العدوَّة عن أهل البلاد وقد احتلت هذه المعاني وضَربت وتملكت وتركت هذا العالم الديني في ثوبه كالجندي المنهزم يحمل من هزيمته فضيحة ومن ثوبه فضيحة أخرى؟ أنت يا بني قد رأيت الشيخ محمد عبده وعرفته؛ فرحم الله هذا الرجل ما كان أَعجبَ شأنَه! لكأنه والله سحابة مطوية على صاعقة. ولو قلتُ إنه قد كان بين قلبه ورأسه طريقٌ لبعض الملائكة لأشبه أن يكون هذا قولاً
كان يزورني أحياناً فأراني مرغماً على أن أقدم له مجلسين أحدهما قلبي. وكان له وجه يأمر أمراً إذ لا تراه إلا شعرت به يرفعك إلى حقيقة سامية
رجل نَبتَ على أعراقٍ فيها إبداعُ المبدع العظيم الذي هيأه لرسالته، فعواطفه كالعطر في شجرة العطر الشَّذِيَّة، وشمائله كجمال السماء في زرقة السماء الصافية، وعظمته كروعة البحر في منظر البحر الصاخب. وكثيراً ما كان يتعجب من هذا أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني فيسأله مندهشاً: بالله قل لي: ابن أي ملك أنت؟
لم يكن ابن ملك ولا ابن أمير، ولكنه ابن القوات الروحية العاملة في هذا الكون؛ فهي أعدته، وهى ألهمته، وهى أنطقته، وهى أخرجته في قومه إعلاناً غير كتمان، ومُصَارحةً غير مخادعة، وهى جعلت فيه أسدية الأسد، وهى ألقت في كلامه تلك الشهوة الروحية التي تذاق وتُحَب كالحلاوة في الحلوى
هذا هو العالم الديني؛ لابد أن يكون ابن القوات الروحية لا ابن الكتب وحدها، ولابد أن يخرج بعمله إلى الدنيا لا أن يدخل الدنيا تحت سقف الجامع
وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب الأصل. يبحثون في سنن النبي ﷺ كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ويمشي ويتحدث، كأنهم من الدنيا في قانون المائدة وآداب الولائم ورسوم المجتمعات. أما تلك الحقيقة الكبرى وهى كيف كان النبي ﷺ يقاتل ويحارب لهداية الخلق، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها، وكيف كان بطباعة القوية الصريحة تعديلاً فعالاً في هذه الإنسانية للنواميس الجائرة، وكيف كان يحمل الفقر ليكسر به شِرَّةَ النواميس الاقتصادية التي تقضى بجعل الأخلاق أثراً من آثار السعة والضيق فتخرج من الغنيّ متعفّفاً ومن الفقير لصاً، وكيف استطاع صلى الله علي وسلم بفقره السامي أن يحول معنى الغنى في نفوس أصحابه فيجعله ما استغنى عنه الإنسان من شهوات الدنيا ما لا نال منها؛ أما هذا ونحوه من حقائق النبوة العاملة في تنظيم الحياة فقد أهملوه، إذ هو لا يوجد في الكتب وشروحها وحواشيها ولكن في الحياة وأثقالها وأكدارها. وبذلك أصبح شيوخنا من الأمة في مواضع لم يضعهم فيها الدين ولكن وضعتهم فيها الوظيفة
ألا ليتهم يكتبون على أبواب الأزهر هذه الحكمة: سئل بعض العرب: بم ساد فلان فيكم؟ قالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دنيانا
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي