مجلة الرسالة/العدد 162/القصص
مجلة الرسالة/العدد 162/القصص
أعصاب
للقصصي الروسي تشيكوف
بقلم محمود البدوي
عاد المهندس المعماري ديمتري اسيبوفتش فاكسن من المدينة إلى كوخه الذي يقضي فيه عطلته وهو متأثر غاية التأثر مما سمعه في جلسة استحضار الأرواح التي تشرف بحضورها!
وعندما خلع ملابسه، ومشى إلى فراشه المنعزل، ولا أنيس معه فيه - فقد بارحت مدام فاكسن المنزل إلى عمل يستغرق طيلة الليل - لم يستطع أن يطرد عن ذهنه تصور كل ما سمعه ورآه في هذه الليلة التي لم يكن الحديث فيها ممتعاً على الإطلاق! فلقد مضوا الليل كله في حديث مروع بدأته سيدة في رونق صباها - على ذكر لا شيء - بالكلام عن التفكير عند القراءة، ومن هنا تشقق بهم الحديث دون أدراك إلى الأرواح، ومن الأرواح انتقلوا إلى الأشباح، ومن الأشباح تشعبت بهم سبل الكلام إلى أناس يدفنون أحياء. . .! وقرأ سيد قصة مرعبة عن جثة تسير وهي مدرجة في الكفن. . . وطلب فاكسن نفسه فنجانة وأخذ يشرح للسيدات الصبايا الطريقة المثلى لمخاطبة الأرواح! وأحضر من بين الموتى روح عمه كلافدي ميرونتش وسأله:
(ألم يحن الوقت بعد لنقل ملكية منزلنا إلى زوجي؟)
فأجابته روح عمه: (كل الأشياء حسنة في حينها)
وفكر فاكسن وهو مضطجع على سريره وقال لنفسه:
(في الطبيعة أشياء كثيرة. . . سرية. . . ومفزعة. . . فالمجهولات لا الأموات هي المروعة حقا)
ولما دقت الساعة واحدة انقلب فاكسن على جنبه الآخر، وأخذ يرمق من تحت غطائه نور المصباح الأزرق المحترق أمام الصورة المقدسة، وقد ارتعش لهبه، وألقى نوره الخابي على قاعدة الصورة، وظهرت أمام سريره صورة عمه كلافدي الكبيرة المعلقة على الحائط وومض هذا الخاطر في ذهنه: (وماذا. . . إذا ظهر في هذه اللحظة شبح عمي كلافدي ولكن بطبيعة الحال. . . هذا محال)
ومع أن الأشباح - كما نعرف جميعاً - خرافات من ذرية الذكاء المحدود. . . فقد ضم فاكسن غطاءه عليه حتى غطى رأسه وأغمض عينيه تماماً! على أن الجثة التي سارت وهي ملفوفة في كفنها عادت إلى ذهنه بعد برهة قليلة، ورفعت أمام مخيلته صور المرحومة حماته، وزميل له شنق نفسه، وفتاة أغرقت نفسها أيضاً. . . وحاول فاكسن أن يطرد عن ذهنه هذه الصور السوداء ولكنه كان كلما أمعن في الطرد أمعنت هذه الصور في الثبات، وأحاطت به خيالات مخوفة، وأخذ يحس بالرعب المتمكن والجزع الشديد
وقال لنفسه:
(إلى المشنقة بهذه الخواطر جميعاً. . . هأنذا خائفاً في هذا الظلام كطفل. . . معتوه. وسمع الساعة تدق في الغرفة المجاورة: (تك. . تك. . تك)
ورن ناقوس الكنيسة في فنائها القريب مبيناً الوقت. . دق الناقوس في بطء وانقباض وحزن. . وسرت رعشة شديدة في عنق فاكسن امتدت إلى عموده الفقري، وخيل إليه أنه يسمع إنساناً يتنفس فوق رأسه بثقل! كأن العم كلافدي قد رأى أن يبرح إطار صورته وينحني فوق ابن أخيه. . . وشعر فاكسن بالرعب الذي لا يحتمل، فصرَّ بأسنانه، وعلق أنفاسه في هول
ولما قفزت حشرة من الحشرات الطائرة إلى النافذة المفتوحة وانقلبت تطن فوق فراشه لم يستطع الاحتمال أكثر مما احتمل فجذب زر الجرس بعنف
وسمع بعد هنيهة صوت الحاضنة الألمانية واقفة على بابه تقول بالألمانية:
(ما الذي تريده يا ديمتري اسيبفتش؟)
فصاح فاكسن فرحاً (آه. . أأنت يا. . . روزاليا كارلوفنا لماذا تتعبين نفسك؟. . أين جافريلا؟ لا بد أن. . .)
(بعثت أنت بنفسك جافريلا إلى المدينة. . . وجافريلا مضت تقضي الليل في بعض الجهات. . . وليس في المنزل أحد سواي. . . فما الذي تريده من فضلك؟)
(حسنا. . . الذي أريده. . . هو. . . ولكن من فضلك ادخلي. . . لا داعي للقلق. . أنه. .
ظلام. . .)
ودخلت روزاليا كارلوفنا وهي امرأة بادنة حمراء الخدين!! ووقفت على الباب وقفة المنتظر
(اجلسي من فضلك. . . أنت ترين. . . أن الأمر هكذا. . .)
وعجب وقال لنفسه: أي شيء أسألها فيه وعنه. .؟ وسارق صورة عمه النظر وشعر بروحه تعود تدريجياً إلى الهدوء
(الذي أوده منك في الحقيقة هو. . . آه. . . لما ينطلق الخادم إلى المدينة لا تنسى أن تخبريه بأن أ. . . أ. . . يجيء ببعض أوراق السجاير. . . ولكن من فضلك اجلسي)
(ورق سجاير. . . حسناً. . . وما الذي تريده أيضاً؟؟)
(الذي أريده. . . لا شيء أرغب فيه ولكن. . أجلسي. . سأفكر في شيء آخر بعد دقيقة)
(العذراء. . . تخاف البقاء وحيدة في غرفة رجل يا سيد فاكسن. . . فهمت! إن حاجتك إلى ورق سجاير. . . كانت في الواقع لا تستدعي إيقاظ أحد. . . فهمتك)
وانقلبت روزاليا كرلوفنا على عقبيها وغادرت الغرفة، وسكن روع فاكسن لما تحدث معها وخجل من جبنه للغاية، وغطى رأسه، وأغمض عينيه، وشعر مدة عشر دقائق كاملة بالراحة التامة، وبعد هذا زحفت إلى ذهنه نفس الخزعبلات الماضية. . . فتحسس الثقاب وأشعل شمعة وهو مغمض العينين! وأصبح النور بعد الهلع الذي هيمن على كيانه عديم الجدوى، فقد صور له خياله المضطرب أشباحاً طلعت من الأركان وبدت عيون عمه تتحرك. . .!!
فقرر قاطعاً:
(سأدق لها الجرس مرة أخرى. . . لعنة الله على المرأة. . . سأخبرها بأني أشعر بالتعب وفي حاجة إلى بعض أقراص من الحلوى)
وشد فاكس الجرس فما جاوبه أحد. ودق ثانية فسمع جرس الكنيسة يدق كأنما يجاوب على دقاته بمثلها. واستولى عليه الرعب وشاع في جسمه البرد فقفز من فوق سريره وغادر مخدعه يعدو راسماً علامة الصليب، وأخذ يلعن نفسه لجبنه وخوره وجرى حافي القدمين في قميصه الليلي حتى بلغ غرفة الحاضنة وقال راجف الصوت وهو يطرق بابها:
(روزاليا كرلوفنا. . . أنمت؟ أشعر. . . باني ر. . . ر. . . تعب. . . أود قليلاً من أقراص الحلوى)
فما جاوبه أحد وخيمي الصمت
(أرجوك! أفهمت. . . أرجوك. . . لماذا هذا القرف؟. . لا أستطيع أن أفهم. . . خصوصاً إذا كان الرجل. . . مريضاً. . . أي عبث. . . أنت في الحق. . . وفي مثل سنك) فقالت له:
(سأخبر زوجك. . . أنك لا تدع عذراء شريفة في أمان. . . لما كنت عند البارون انزيج. . . جاء إليَّ سعادته يطلب أعواداً من الثقاب. . . ففهمت في الحال معنى هذه الأعواد من الثقاب.!! وأخبرت البارونة. . . فأنا عذراء شريفة) فقال لها:
(إلى المشنقة بشرفك هذا. . . أنا مريض. . . قلت لك هذا. . . واطلب منك بعض أقراص من الحلوى. . . أتفهمين. . إني مريض) فأجابته:
(زوجك امرأة شريفة وطيبة. . . ومن الواجب عليك حبها. . . أجل. . . إنها نبيلة طيبة. . . ولن أكون لها عدوة)
فقال لها: (إنك غبية. . . غبية. . . أتفهمين. . . غبية)
اعتمد فاكسن على سارية الباب، طاوياً ذراعيه، ومنتظراً أن يذهب عنه هلعه الشديدة، فإن رجوعه إلى غرفته حيث يرتعش المصباح ويحملق فيه عمه. . . أمر لا يجرؤ على مواجهته، وأن وقوفه على باب الحاضنة وليس عليه سوى قميص نومه أمر غير لائق من جميع الوجوه!! فما الذي يعمله؟؟
ودقت الساعة الثانية وما بارحه جزعه؛ وكان الممر مظلماً فبدأ له خيال أسود طلع من كل ركن واستدار ليواجه عقب الباب. على أنه تصور في هذه اللحظة إنساناً جذب قميص نومه من الخلف ولمس كتفه
فأعول ثم صاح:
(عذاب الجحيم. . . روزاليا كارلوفنا)
ولما لم يسمع صوتاً فتح فاكسن الباب متردداً ودخل؛ وكانت الألمانية الفاضلة غارقة في سبات لذيذ، وقد أظهر ضوء المصباح الخافت ما على وجهها من بشاشة، ثم انساب إلى داخل الغرفة ووقف بجانب حقيبة عند الباب، وشعر بارتياح تام وهو في حضرة مخلوق حي، حتى ولو كان هذا المخلوق نائماً
ثم قال في نفسه:
(خل الألمانية البلهاء غارقة في نومها. . . سأجلس هنا. . . وحينما يبزغ النور أرجع إلى مكاني. . فالصبح يبكر في هذه الأيام. . .)
استلقى فاكسن على الحقيبة ووضع ذراعه تحت رأسه مترقباً طلوع الفجر
وتأمل!!
(أي شيء. . . لما يكون المرء عصبياً. . . ورجل متعلم ذكى. . . لنشنق جميعاً. . . إنه عار شنيع)
وعندما تسمع إلى تنفس روزاليا كرلوفنا الرقيق عادت إليه نفسه وثاب حسه وهدأ تماماً
وفي الساعة السادسة عادت زوجه فاكسن من عملها الذي استغرق طول الليل ولما لم تجد زوجها في مخدعه دلفت إلى الحاضنة تسألها عن (فكة) للحوذي
ولما دخلت الغرفة رأت منظراً غريباً!!! بصرت على السرير بروزاليا كارلوفنا غارقة في النوم. . . وعلى قيد ذراعين منها ينكمش زوجها على الحقيبة وينام نوم العادل!! ويغط غطيطاً عالياً
أما الذي قالته لزوجها وكيف كان حاله عند ما استيقظ فسأدع لغيري تصويره فهو فوق طاقتي
محمود البدوي