مجلة الرسالة/العدد 161/البك والباشا
مجلة الرسالة/العدد 161/البك والباشا
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وحدثني صاحب سرّ (م) باشا رحمه الله قال: جاء يوماً إلى زيارة الباشا رجلٌ دخل عليَّ متهللاً مُشرقَ الوجه كأنه مُضَاءٌ من داخله بشمعة. . . ويترنح غِطفاه كأنما تهزُّه أسرار عظمته، ويمشي متخلِّعاً كالمرأة الجميلة التي أثقلها لحمُها وأثقلتها المعاني الكثيرة من أعين الناظرين إليها، وعلى شفتيه خيال من فكرة هؤلاء الكبراء المغرورين الذين لا يأمر أحدهم رجلاً صغيراً إلاّ ليُعلمه إنه هو كبير فيكون في الأمر شيئان: الأمر واللؤم. وأقبل عليّ في هيئة شامخة لو نطقت لقالت: سبِّح اسمَ ربك الأعلى. سبِّح اللهَ الذي خلق في الأسد شعرةً جبارة خرج منها الأسدُ كله. . . .
سبحان الله ولا إله إلا الله. هذا (فلان باشا) الذي قرأت في الصحف أمس إنهم أنعموا عليه برتبة الباشوية؛ خلقه الله من تراب وحوَّلت الرتبة هذا التراب الذي فيه إلى ذهب خالص. . . ينظر إليَّ ويرغمه أن تقف عيناه عليَّ وعلى الحائط؛ ولا تجد نفسه المزهوَّةُ سبيلاً إلى التعبير عن الرتبة إلا هذا الازدراء المنبعث من شخصه العظيم لمن لم يكن كشخصه. ما بين أمسِ واليوم زاد هذه الزيادة الآدمية، أو كأنما كانت صورته خطوطا فقط فوضعت فيها الألوان. . .
(باشا)! هذه الباء وهذه الألف وهذه الشين الممدودة ليست حروفا خارجة من الأبجدية العامة، فإن الأبجدية قد تجعل الباء في بليد مثلاً، والألف في أبله، والشين الممدودة في شاهد زور مثلاً مثلاً. . . . بل تلك حروف من حروف الدولة منتزعة من قوة قادرة على أن تجعل لحياة صاحبها من الشكل ما يسبغه الفن على الحجر من شكل تمثال ينصب للتعظيم
قال: وكنت أعرف هذا الرجل وهو رجل أميُّ لا يحسن إلا كتابة اسمه كما تكتب الدجاجة في الأرض. . . فكانت الرتبة عليه كإطلاق لفظ الحديقة على صخرة من الصخور الصَّلدة؛ وهذا مما يحتمله المجاز بعلاقة ما. ولكن الذي لا يسوغ في المجاز ولا في مبالغات الاستعارة ولا في خرافات المستحيل أن تزعم الصخرة للناس أن لفظ الحديقة الذي أطلق عليها قد أنبت فيها أشجار الحديقة قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل له الإذن وقال: هذا رجل أصبح كالورقة المبصومة بخاتم الدولة فلتكن ما هي كائنة فان لها اعتبارها. ثم تلقاه تلقي الهازل المتهكم وقال له: أهنئك بالنحوي. . . مباركون يا باشا. . . وأقبل عليه وبسط له وجهه
وكان في الباشا دعابة ظريفة يعرف بها، وهو كثير النوادر والمُلَح، وله خصيصة عجيبة فيكون بين يديه كدس من الأوراق التي تعرض عليه ينظرفيها ويقرؤها ويتدبرها، وهو في ذلك يستمع إلى محدثه ويراجعه ويرد عليه، فيصرف الناس والأوراق في وقت واحد، ويستعمل ناحيتين من فكره استعمالاً واحداً لا يخل بالإصابة في شيء من هذه ولا من تلك
ثم قال للباشا الحديث وعينه إلى ما بين يديه: هذه أوراق سرقة ثور عظيم فكم يساوي الثور العظيم الآن. . .؟
قال صاحبنا الذكي الفطن: إذا كان من الثيران التي تعرض في المعارض وتنال المداليات الذهبية فقد يبعد سعره ويغالي به
قال الباشا: نعم نعم. إن من الثيران ثيرانا ينعم عليها بالأوسمة، ولكن هذا الثور الذي سألتك عنه يا باشا هو ثور محراث لا ثور معرض. . .
قال الآخر: إذا كان ثور محراث فمثله كثير فلا يكون ثورا عظيما كما قلت وليست له إلا قيمة مثله
قال الباشا: أراني أخطأت ولعن الله العجلة؛ فهذه أوراق سرقة حمار. . .
قال صاحب السر: وانصرفتُ عنهما بأوراقي وقد رأيت يدَ الباشا مملوءة لصاحبنا بتحيات كلها صفعات. فلم يكن إلا يسير حتى خرج مبتهجاً يميد السرورُ بعطفيه. ثم دعاني الباشا ودفع إليَّ بطاقة بالحاجة التي جاء فيها الرجل ثم قال:
يا ليت لنا في ألقاب الدولة لقب (رحمه الله). . . ينعم به على مثل هذا. أتدري يا بني أن هذه الرتب وهذه الألقاب لم تكن في القديم إلا كوضع علامة الشر على أهل الشر ليهابهمُ الناس حتى كأنما يكتب على أحدهم من لقب بك أو باشا: مُلْحَق بالدولة. . .
وكان الشعب أمياً جاهلاً. لا يستطيع الإدراك ولا يحسن التمييز. فكانت الألقاب كالقوانين الشخصية الموضوعة في صيغة موجزة مفهومة متعينة الدلالة، وكان كل من يحمل لقباً من الحكومة يستطيع أن يقول للناس: لقد وضعت الحكومة كلمة الأمر في شفتّي. . . .
وكأن اللقب إعلام من الحكومة المستبدة لشعبها الجاهل: إن هذا البك والباشا ممن يحقُّ له أن يخشى فيجب له أن يحترم
من الهزل أن يشتري اسمُ النصر الحربيّ أو يوهب أو يُعار؛ وأقبح منه في باب الهزل أن ينعم على مثل هذا الأمي بلقب باشا. وأنا أعرف إنه قد بذل في سبيله ما بذل وأضاع ما أضاع فكأن الذين منحوه إياه لم يفعلوا شيئاً إلا وضع توقيعهم على أخذ الثمن. . .
ولقد أصبح الرجل تحت تأثير الكلمة العظيمة مخبولاً بسحرها الوهمي فحسٍبَ ذلك إدخالاً له في وظيفة كل حاكم وإشراكاً له في الحكم متى اقتضته مجاري أموره وأحواله أو حاجات أسبابه وأتباعه، وها هو ذا قد جاء يطلب حقه فان مثله لا يفهم من لقب (باشا) إلا إن الحكومة قد سوَّغت سلطَته الظهورَ والعمل فمدَّتْ باعه وقوَّت أمره ونوَّهت باسمه لمصالحها وعمالها؛ فهو عند نفسه قد التحم منذ اليوم بالنسب الحكومي: وفي كلمة واحدة هو قد وُلد من بطن الحكومة. . .
ألا ترى إن الشعب لو استردَّ سلطته الكاملة وان الناسَ لو أيقنوا إن هذه الألقاب ألفاظ فارغة من الأمر والنهي والوسيلة والشفاعة لما بقي من يعبأ بها ولكان حاملها هو أول من يسخر منها؟ فهي إذن شعبذة من الحكومة وتظليل في مثل هذا الرجل الأميّ، وهي ضرب من التهويل والمبالغة في سواه من الكبراء والعظماء؛ كأن الوزير الذي يلقب بالباشا يجعل فيه لقبه وزيرين، وكأن مثل هذا الأميّ المغفل يجعل فيه لقبه شخصاً آخر غير الأمي المغفل
أنا قلما رأيت رجلاً يحتاج إلى ألقاب يتعظم بها إلا وهو لا يستحقها؛ وقلما رأيت رجلاً يستحقها إلا وهو لا يحتاج إليها؛ فأين يكون موضع هذه الرتب والألقاب؟
(سيدي بشر بإسكندرية)
مصطفى صادق الرافعي