مجلة الرسالة/العدد 16/حي بن يقظان
مجلة الرسالة/العدد 16/حي بن يقظان
لمحة عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي توحيها مطالعة الكتاب
لكتاب حي بن يقظان مقام جليل في تاريخ الفلسفة العربية، سجل
لصاحبه شهرة واسعة في القرون الماضية لاسيما في بدء نهضة
الإفرنج. ولا نزال نذكر إلى الآن مؤلفه ابن الطفيل كلما طالعنا كتاب
(روبنسن كروزو) لديفو الإنجليزي، فنحن وإن كنا بغير حاجة في هذا
العصر إلى ما في هذه القصة من نظريات عقلية أو مذاهب عملية
نرتب عليها أعمالنا في الحياة، لا نزال نحفظ لمؤلفها فضل الأسبقية
في مثل هذا الفن القصي الفلسفي ونريد أن نذكرها كلما أتينا على ذكر
ديفو وبطل قصته روبنسن كروزو. ولست أريد من ذلك أن قصة
روبنسن هي ككتاب حي بن يقظان قلباً وقالباً ولكن أريد أن أشير إلى
شبه في الفكرة ومجانسة في الفن القصصي.
ولننتقل بعد هذه الكلمة إلى ما نحن بصدده من استخراج النظريات والمذاهب الفلسفية من قصة حي بن يقظان لنتبين قيمة هذا التراث الفلسفي الخيالي في أدبنا العربي. لا نريد أن نقول (قبل أن نأتي على تلخيص القصة) أن ابن الطفيل قد ضمنها زبدة التعاليم الفلسفية العربية، والمذاهب العملية وصاغها في قالب خيالي جذاب تستشف من وراءه شخصية الفيلسوف الوادعة، وفكرته الخاصة التي تنهتك سراعاً للخبير، فكان بذلك سابقاً لديفو وإضرابه من الإفرنج القصصيين: فأول ما يستلفت نظرك أيها القارئ الكريم من هذا الكتاب هو عنوانه الرمزي الغريب: حي بن يقظان. فمن هو هذا (حي)؟ وابن من؟ ابن يقظان. . . هذا الاسم رمزي في مدلوله وهو في عرفهم ابن من لا ينام أي الله عزّ وجل. وتفتح الكتاب فإذا هناك مقدمة وجيزة في نقد الفلاسفة الإسلاميين، ونظرة سريعة في الحكمة المشرقية سيشرحها لك مفصلا عند الحديث على بطله حي.
كل الكتاب نظريات وثبت للمذاهب الفلسفية، فأول ما تفاجأ به أيها القارئ هي هذه النظرية، نظرية التوليد من غير أم وأب، فيدهشك هذا القول من فيلسوف إسلامي ويغضبك خصوصا إذا كنت من أصحاب الإيمان الحار، ويأخذ بك ابن الطفيل في منعرج هذا المذهب الوعر الذي يصعب علينا حله واتباعه، ويستطرد في كيفية تخمر الطينة تحت أشعة الشمس وعلوق الروح بها، فيلذك الاستطراد ولا يعجبك الأِعتقاد، والحق يقال أن هذا المذهب الطبيعي الذي يبني مبدأ الخلق والتكوين على الصدف والتصادف والذي يعتنقه الكثيرون في عصرنا (وما أكثر المذاهب والآراء في هذا العصر) غير مبني على أساس متين ولا براهين جلية بحيث تقتلع من صدرك الإيمان بصحته. فالمذاهب الفلسفية، الأقوال فيها كثيرة ومختلفة، وليس هناك دستور واحد في البحث تتمشى عليه، وحقيقة واحدة تتفق عليها. ففي المسألة الواحدة تجد قولين أو ثلاثة أو أربعة والإنسان عندما يكون مترددا في مسألة ما، تكثر تعاليله وحدسياته. فابن الطفيل مثلا لا يجزم بصحة هذا المبدأ الطبيعي كما هي عادته، فيأتيك بقول آخر أعم وأشهر، ولكنه ليس بنظرية بل تعليل ثانوي لكيفية وجود حي بن يقظان في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، فقد اختلفوا في وجود هذا الشخص في هذه الجزيرة المنقطعة عن السكان المقفرة من بنى الإنسان. فيقولون أن حياً كان إبناً غير شرعي وأن أمه أخت ملك قد وضعته في صندوق وقذفت به في اليم، فقاده المجرى المائي إلى هذه الجزيرة (الاستوائية) وهذا القول أقرب وأخف وطأة على القارئ من الأول، إذ يعرف أن موسى أيضاً قد قذف به في اليم، ولديه على ذلك نص وهو القرآن.
قد فرغنا من استخراج هذه النظرية وسللناها من طيات هذا السفر الجميل. فاتبعني أيها القارئ الكريم لنستطلع بعد ذلك خبر ما آلت إليه حال هذا الطفل البائس الذي سيكون له فيما بعد شأن يذكر. رمت به الأمواج إلى شاطئ جزيرة تحت خط الأستواء، وكم يكون جزعك على هذا الطفل عندما تعلم أن هذه الجزيرة خالية من السكان. ترى من يغذي هذا الطفل، ومن يشفق عليه ويشمله بحنانه، إذ لا إنسان يعطف عليه ويحسن رعايته ويوفر له أسباب الحياة؛ ولكن كم يكون فرحك عظيماً عندما ترى أن ظبية من بنى الحيوان قد رامت به، ووجدت فيه تسلية وعوضا عن ابنها المفقود، فغدت تغذيه بلبانها وتشمله بحنانها، حتى درج وأصبح قادرا على المشي والعدو مع أمه في البرية، وما أن صار على رأس أسبوع من عمره أي سبع سنين، حتى صار يرافق أمه في غزواتها، يناشدها بأنغامها وتناشده، فإذا سمع تغريدة عندليب حاول تقليده، وإذا سمع فحيح أفعى أو زئير أسد لم يحاول الابتعاد ولم يوجس خيفة، وتكررت هذه الأصوات على سمعه فوعاها، وغدا يرددها فيجيدها. وهنا أيها القارئ الكريم تعرض لنا نظرية غامضة ولكنها جميلة ومشوقة، فلنتئد في درسها وتحليلها قليلا. النظرية هي نظرية النطق والكلام. أخلق الإنسان متكلماً لغة أجاد فهمها منذ البدء أم علمه الله إياها؟ وإذا كان ذلك فلماذا لم تتفق البشر عليها؟ وما تعليل كثرة اللغات واللهجات التي نسمعها وما هو علة هذا الاختلاف؟ كل ذلك، أظن، جدير باسترعاء خاطرك وانتباهك، وهو يوقظ في نفسك حب الاطلاع والتعليل، وتريد أن تفكر وأن تجد تحليلا فلا تجد، فيؤول بك التفكير إلى حدس بحدس. وتخمين بتخمين لا طائل تحتهما ولا جدوى. فابن الطفيل لا يبدي لنا إلا قولا واحدا في كيفية نشوء اللغة عند الإنسان وهو ليس من أرباب الوحي والإلهام الذين يقولون أن الله خلق الكلام وخلق في الإنسان المقدرة والقوة على نطقه. كلا ليس ابن الطفيل في شيء من هذا، وهو على مذهب البعض من المحدثين في القرن التاسع عشر؛ فهؤلاء يعللون نشوء اللغة أي النطق بأن الإنسان في طوره الهمجي طور الغريزة الحيواني يتلقى أصوات الحيوان ويقلدها في جرسها ونغمتها، ويضعون لذلك مقاطع طبيعية دارت على ألسنة البشر أجمع في طور وحشيتهم، توجد في جميع اللغات الحية وهي إد، آر، آد. . . وما أشبه ذلك، على أن الاختلاف الذي نراه ناتج عن سنن التباعد والتقارب في أخلاق البشر وأميالهم الطبيعية.
فأنت ترى أن ابن الطفيل من هذا الرأي وأن (حيا) قلّد الحيوانات في أصواتها ولم يجد التكلم في بدء أمره بدليل أن ابن الطفيل يتيح لبطله حي مصادقة أسال فيعلمه الكلام وأمور الدين. فحياة حي هي إذن نفس حياة البشر في طور وحشيتهم وهمجيتهم. ولكن ابن الطفيل لا يقف عند هذا الحد، ولا يريد أن يسرح بطله مع الحيوانات بل يرقى به إلى مستوى فكري سام تقصر عنه المدارك، ويريه أشياء لم تقع على سمع أحد (ولا خطرت على قلب بشر). فأنه بعد أن يعلمه الأصوات يريد أنبعلمه الطب كما تعلمه كلية الطب في بيروت لتلامذتها، وأن يطلعه على علم التشريح وما فيه من سر دفين. وماتت الظبية أمه، وقعد للبكاء عليها ولزم الحزن أياما يناديها فلا تعي ولا تجيب، ويندبها فلا تأبه لتحرقه وبكائه وأراد ان يعرف موطن الآفة في جسد أمه محاولا إنقاذها مما هي فيه، وبطريق النظر والاستدلال يفتح جوفها ويتوصل إلى القلب المركز الرئيسي لجميع الأعضاء، ومنه إلى الدماغ فلم يجد بها آفة حتى إذا ما انتهى من البحث والاستقصاء أتى على علم التشريح بكامله، وتحصل له من ذلك: إن ما يحرك الجسد إنما هو بخار يتولد فيالتجويفات القلبية فيصعد منها إلى الدماغ، وهذا بدوره يحرك الأعضاء. وهذا ما قال به ديكارت معبرا عن هذا البخار بالأرواح الحيوانية. قد يدهشك مثل هذا البحث المنظم الذي يقوده حي بن يقظان، وهذا الاستدلال الثاقب، ويضؤل في نفسك شخص ابن الطفيل القصصي ليتجسم لك في شخص حي الطبيب الحاذق والمشرح اللبق؛ والحق يقال أن ابن الطفيل بعد أن يرتفع بخياله يكبو به جواد هذا الخيال ليحطه إلى الأرض. لذلك كان الفيلسوف الطبيب، ولم يكن الفنانالقصصي بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. فمن الغريب أن يكون حي قداستكشف مثل هذه النظريات والتطبيقات العملية في مثل هذه المدةالوجيزة، فإننا نرى فكرا ساميا يتوصل بمحض فكره إلى الحقيقة، لا فكراً وحشياً غريزياً يليقبمثل حي؛ ولكن هي قصة أقرب إلى: (الاوتوبيا) منها إلى الحقيقة الملموسة. ولا نجزم بأنها نظرية، ولا نريد أن نناقشها بل نترك ابن الطفيل وتلميذه يعلمه ما يشاء وكيف يشاء، على أننا نستشف من خلال البحث عن كيفية تعلم حي بن يقظان علىنظرية النشوء والارتقاء في العناصر الطبيعية وفي مدارك البشر، وكيف أنها تنتقل من الملموس إلى المحسوس إلى المعقول، وكيف أن الحواس تتصل بالأشياء الخارجية فتؤثر هذه فيها وتنفعل عنها فتحولها (أي الحواس) إلى دائرة التفكير والتفهم فتصوغ ما أحست بقالب السبب والقانون.
ويفقد حي أمه ويخرج إلى معترك الحياة وحيداً طريداً فكل شيء في قطر وجوده يستلفت نظره ويسترعي انتباهه، فهو كآلة واعية (إذا كانت آلة تعي) وضعت في مكان ما تلتقط كل ما أوحي لها من حيث ألقي أو أوحي. فتسجل حركات الأشياء وتنفعل عنها، وهل الإنسان (كما عرفه بعض علماء النفس) الا مجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية تجمعت فشكلت هذه النفس التي تعي وهذه النفس التي تفهم وتتذكر؟
ويستكشف (حي) النظريات ويستدل بمحض فكره السامي وثاقب ذهنه على وجود (واجب الوجود) وهذه النظرية هي محور القصة بكاملها وهي التي شغلت جميع فلاسفة الإسلام.
ويستكشف (حي) مبدأين: المادة والصورة؛ بواسطتها يتوصل إلى اكتشاف وجود الله، فاعتبر: (أن كل حادث لابد له من محدث) فتلمس هذا المحدث في المحسوسات فلم يعثرعليه، وانتقلت فكرته إلى الإجرام السماوية ورسخ في ذهنه أنها تعقل ذواتها، وأنها صادرة عن فلك واحد وهو الأعلى. وهنا يجب علينا أن نقف قليلا ونشير إلى هذه النظرية التي كانت شائعة عند اليونان والتي اقتبسها العرب ولا سيما ابن سينا، ووسعوا دائرتها. فانهم اعتقدوا أن الإجرام السماوية تعقل وتحيا وفيها العقل الفعال الصادر عن الله عز وجل، وأن الله يعلم ما في الكون بواسطتها وهي أشرف الموجودات. وقديما دعوها أنصاف آلهة. ونتجاوز عن تفنيد هذه النظرية الخرافية التي تعد (إلى جنب المباحث الفلكية العصرية) خرافة من خرافات القدماء.
ولما عرف (حي) حقيقة نفسه وأنها غير جسمانية وبها عرف (الموجود الواجب الوجود) حدث له شوق حثيث إلى معرفة الخالق عساه يراه، فشرع في تفحص الأعمالالتي تقربه إلى الله عز وجل، فوجد أن الطريقة المثلى هي: في ترك المادة وتثقيف الروح التي هي مبدأ روحاني صادر عن الله تعالى، ولما كان يعلم أن الإجرام السماوية تعرف الله، التمس لنفسه الصلاح بالتأسي بها ليتوصل إليه. وهنا يعتنق حيي مذهب الاتصال وترويض النفس والعزوف عن الأشياء المادية كما كان يفعل متصوفة المشرق، الا أن هناك فرقاً كبيراً بين المذهبين يجب أن تنتبه إليه أيها القارئ ألا وهو: أن المتصوفين يصلون إلى الله عز وجل عن طريق العاطفة الدينية والعلم الإلهي؛ أما حي المتصوف النظري فيتصل بالله عز وجل عن طريقالبحث والنظر، ويجهل تماما طرق الصوفية الدينية، وعلى هذا المذهب مذهب التصوف النظري سار فلاسفة الأندلس فولدوا بذلك نزعة جديدة ضد التصوف الديني الشرقي. على أن ابن الطفيل إن اختلف مذهبا لم يختلف عنهم نتيجة بل أدى به هذا المذهب إلى القول بالفناء والحلول، ولكنه حلول معتدل مغشى بستار القصة الخيالي. فانه عندما يفنى حي في الذات الإلهية ويوشك أن يعتقد أن ذاته لا تغاير ذات الله، وأنه هو الله. يبادر ابن الطفيل ليبدد هذا الاعتقاد، ويقول على لسان بطله (حي): إن هذه الهواجس التي عرضت له وأقنعته أنه ذات الحق، لم تكن الا من بقايا المادة والأشياء الدنيوية. وهذه النظرية هي ما ندعوها بنظرية الشمول ` نريد أننبحث في مثل هذه النظريات الإلهية بل نترك الخوض فيها إلى أولياء الله العارفين، تعالى الله عما يصفون.
فأبن الطفيل إذا يفضل الوصول إلى الله عن طريق البحث العلمي النظري، ويمثل لنا هذه النظرية ويدافع عنها في شخص (حي) وأنه استطاع بنظره وفكره السامي اكتشاف الحق تعالى، بدليل أن ابن الطفيل يدخل في القصة شخص آخر (أسال) وهو العقل المهتدي إلى الله عن طريق الدين والاجتهاد، فيعجزه عن الوصول إلى المقام الذي توصل إليه حي (وطلب حي مقامه الجليل فبلغه واقتدى به أسال حتى اقترب منه أو كاد) فلا ريب بعد ذلك في أن فيلسوف الأندلس يفضل الطريق النظرية على الطريق الدينية؛ وأنه ما استطاع أن ينجو من ورطة هذا القول الذي كثيراً ما جر على آخرين التعذيب والتنكيل، الا بواسطة هذا الوشاح القصصي الذي يلقيه على النظريات والمذاهب الفلسفية في رسالته النفيسة.
على أن ابن الطفيل لم يخل من اللوم، وأرباب الدين يؤاخذونه على أربعة:
1 - بإهماله أمر النعمة وسقوط الطبيعة البشرية. 2 - بتفضيله المعرفة بالعقل على المعرفة بالإيمان. 3 - باعتقاده ان الإنسان قادر على رؤية الله عز وجل في الدنيا. 4 - بأقواله المنتجة مذهب تأليه الكل أو البانتيسم الشمولي.
وما كان أحد ليخلو من عتب أهل الدين ولومهم. ومدار القصة بكاملها هي أن معرفة الله الفلسفية أسمى من المعرفة الدينية , وهذا ما لاقى في سبيله ابن رشد وإضرابه من التعذيب والاضطهاد ما لاقى. هذه لمحة (ربما تكون سطحية في قصة حي بن يقظان) عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي تضمنتها، وربما عدنا إلى الموضوع في بحث آخر نفصل فيه العناصر الأجنبية في فلسفة ابن الطفيل وتعاليمه، ونختم الآن هذا الفصل في أن: فيلسوف الأندلس قد أجاد كل الإجادة في سبك قصته الفلسفية وأسلوبه فيها جميل وسهل وجذاب يقرب إلى ذهن القارئ الأقوال الفلسفية، ومع أن إنشائها سهل وبسيط رائق لم تخل أحيانا من التعقيد والغموض. ونتيجة القول أن هذا الكتيب النفيس مشحون بالتعاليم الفلسفية الإسلامية ترفرف عليه روح الافلاطونية الحديثة. ومن يطلع على هذه القصة يوافق الإفرنج على حكمهم: (إنها آية من آيات القصص العربية الحكيمة ومختصر فلسفة العرب).
طرطوس. سوريا. أحمد المحمود