مجلة الرسالة/العدد 159/هنري روبير
مجلة الرسالة/العدد 159/هنري روبير
عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
إلى المحاماة، في شخص المحامي الأول، والنقيب الأول،
إبراهيم الهلباوي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولكن ما الذي يقوله هنري روبير في تلك القضايا التي سلخ المحقق في تحقيقها عاماً كاملاً، أو التي اسودت فيها آلاف الصحف؟ للجواب على ذلك نقول إن هنري روبير كان يجيد عدم الكلام بقدر ما كان يجيد الكلام، فهو يعمد أولاً إلى المسالة التي تحكم القضية - إذا صح هذا التعبير في لغتنا العربية - فيظهرها على طريقته بقوة وبسرعة وإيجاز، ثم يسقط من كلامه اكثر ما في القضية من حواش تنأى به عن الجوهر؛ فهو يدرك كل الإدراك إن الخير للمحامي ليس عرض كل ما في الإضبارة، بل الفن الحقيقي هو ترك ما يجب أن يترك فيها؛ وقديماً علمنا أساتذتنا أن فن الحذف يساوي تماماً فن الكلام. . . ولذلك كنت تجده مسرعا، ممتعاً، مقنعاً؛ كل ذلك في وقت واحد
كان يقول إنه درس (لاشو) دراسة عميقة؛ لكنك لا تجد فيه مشابه من أستاذه؛ فمرافعات روبير كانت مرافعاتٍ موضوعية مجردة، لا تتخللها الجلجلة ولا الصوت الداوي، ولا الصور التاريخية، ولا العبارات البيانية الخلابة التي يتشابه فيها لاشو مع أستاذ ذلك العصر (فكتور هوجو). والحق أن تلاميذ لاشو لم يكن منهم نقيبنا الذي يتحدث عنه، بل أن لاشو قد خلف من بعده باربو نابغة الفن التقليدي في الدفاع، ولابوري، المهيب الذي يُرعب بقدر ما يستطيع الإقناع؛ أما هنري روبير فلم يكن يهمه رسم الصور، ولا طلاء اللفظ، ولا طلاوة الأسلوب، ولا تفخيم المعاني؛ فإذا جاءت صورة من الصور أو حكمة من الحكم في معرض الدفاع وجدتها منتزعة من صميم الواقع لا من آفاق الخيال، ووجدتها من لباب القضية لا مترددة بين الحواشي لتثير الإعجاب
رحمه الله! ألا فليقل لنا إن كان حقاً قد تتلمذ لأستاذ القرن الماضي - بعد برييه - هل كان يرى أن يقول للمحلفين تلك الكلمة المسرحية أو الخطابية التي قالها لاشو في سنة 1855 وهو يترافع عن رودلف المتهم بدس السم إلى عشيقته (ميمي): (ها إن السماء تدوي لكأنها تكاد تنقض؛ إنكم تسمعون هزيم الرعد وعصف العاصفة!. . . إن السماء تزمجر سخطاً على ما على الأرض من إعنات. . . أنها تحتج معي على تلك الإجراءات!!). أو تلك الكلمة الهائلة التي صوبها إلى القضاة في مرافعته ضد الجنرال (تروش) بعد حرب السبعين، وكان تروش قد تهاون في قضية الإمبراطور، وكان الإمبراطور قد خلع، وكان الإمبراطور صديقاً شخصياً للاشو، قال: (. . . إنكم ستحكمون في قضية الجنرال تروش. . . ولكن التاريخ سيصدر حكمه على حكمكم!. . وسيقرأ التاريخ كل ما دار في هذه الجلسات. . فحذار أن تضحوا كل شيء مرة واحدة. . فيقول بنو الأجيال المقبلة: إن كل شيء في هذه الأمة قد ضاع (حتى العدالة نفسها!) لم يكن روبير ينحو ذلك النحو البلاغي في الدفاع، لان وظيفة المحامي عنده كما قال: (أن يقنع لا أن يلمع)، ولان الدنيا تغيرت، والمحاكم ضاقت، وصدور القضاة والحضارة نفسها أصبحت معجلة كأنها تريد أن تصل بالدنيا إلى آخر الدنيا. . .
إنما تلاميذ لاشو ولداته هم أولئك الذين يقولون مثلما قال باربو عن دلسبس: (. . . ذلك الإنسان الذي أضاف بعض الـ (رتوش) إلى صورة الخليقة كما أبدعتها يد الخالق. . .) أو مثل فكتور هوجو وهو يترافع عن ولده شارل ضد عقوبة الإعدام (. . هذه العقوبة التي إذا وقعت على مجرم جعلته يشك في وجود الإنسانية، فإذا وقعت على بريء جعلته يشك في وجود الله!. .)
أو مثل فكتور هوجو أيضاً وهو يترافع في هذه القضية، وإذا شئت فقل مثل النمر - الأب النصر كما سموه بعد الحرب الكبرى - اعني كليمنصو عندما ترافع عن أميل زولا عقب لابوري، فنقل عن هوجو تلك الإشارة البديعة إلى تمثل المسيح، وكان إلى ذلك الوقت يوضع خلف هيئة المحكمة في الجلسات وقال: (انظروا ورائكم، فهذه اكبر ضحية عرفها التاريخ لأخطاء القضاة!!. . . . . . وكانت قضية أميل زولا تدور حول إعادة النظر في قضية دريفوس، أو الهلباوي مثلا في قضية نزاهة الحكم، وبتلك الوثبة الذهنية البارعة، بل تلك الأعجوبة الرائعة الخالدة، عندما رد حفني بك محمود أحد المستشارين لشبهة عرضت له فرفض الرد وأخذ الدفاع عن الخصم يعيِّر حفني بك بأن رده رفض وبأنه يتشكك حتى في القضاة، ويتهم حتى رجال العدل، قال هلباوي بك (. . . فلما عرضت له الشبهة في قاضيه لم ينخلع فؤاده فَرقًا، بل اقدم على أن يطلب الحقيقة عارية والعدالة مجردة، ليطمئن قلبه؛ وقديماً، وفي سبيل الاطمئنان قال موسى: (رب ارني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)
فالاطمئنان الذي نشده موسى وظفر به، هو الاطمئنان الذي نشده حفني وظفر به! والذي حصل من حفني حصل من إنسان أسمى منه ألف مرة، وبالنسبة لمن؟ بالنسبة لمن هو أسمى من سعادة المستشار لا ألف مرة، ولا مليون مرة، ولكن بمقدار الفرق ما بين الإنسان وخالق الإنسان. .!!)
لا تجد لذلك التصوير وأشباهه نظائر عند هنري روبير، لكنك تجد له خواطر ممتعة تستحيل عند تلاوتها إلى حجج موضوعية في القضية المطروحة. ومثل ذلك ما نقلناه من قبل في ختام مرافعته عن بويورش؛ ومثل ذلك أيضاً ما جاء في مرافعته عن الدكتور لابورت فاستمع إليه يوجه نظر القضاة إلى الأطباء:
(. . . انظروا إلى تلك الغرفات الفساح في المصحات والمستشفيات حيث الهواء مشبع بسموم الدفتريا وجراثيم الطاعون، وانظروا إلى أولئك الرائحين الغادين في تلك الغرف أمام مرضى ينفثون الموت الزؤام من الشهقات الزفرات؛ هل علمتم على واحد منهم انه أجفل أو أنه ارتعد؟ هل تردد واحد منهم عن القيام بكل ما يفرضه عليه الواجب؟ ارجعوا إلى إحصاءات الحمى الصفراء والكوليرا، وأسالوا كم من هؤلاء الفرسان قد سقط في ساح الشرف! انظروا إلى هذه الطائفة وقولوا هل هي الطائفة المتمردة على القانون والتي يجب أن يضرب على أيديها ضربات البطش والانتقام!. . لا. لا. . إنكم ستجدون هؤلاء البنين البررة للعلم وللفن وللإنسانية قد وهبوا نفوسهم للعلم وللفن وللموت في سبيلهما؛ فهم تارة يصرعون الموت وتارة يصرعهم، لكنهم يستحقون الإعجاب في كل حال!!. .)
وكانت له وثبات في الارتجال يتناقلها الكافة؛ فمثل ذلك رده على النقيب درييه الذي جاء في صدر هذا البحث، ومثله ما رواه (جولندن) في (اشهر قضايا سنة 1932) ولقد كان توريز المحامي الأشهر يدافع بجلسة 19 أكتوبر سنة 1932 أمام استئناف الجنح عن موكله (فرمون) ضد (تاكوشيما) موكل هنري روبير، وكانت التهمة نصباً موجها ضد فرمون، وكان هنري روبير محامي المدعي المدني، وكانت نظرية توريز إن تاكوشيما سبق أن نصب على فرمون فجاء فرمون واصلح ما أفسده عليه تاكوشيما، واختتم دفاعه بكلمة مسرحية تخلب الألباب قال:
(. . . لقد كانت رواية: أما الفصل الأول فتاكوشيما يضرب فرمون، والفصل الثاني فرمون يضرب تاكوشيما. . .) وبينما هو يسترسل نادى هنري روبير بصوت ضخم: (. . . الفصل الثالث: المحكمة تضرب فرمون!!!!. .)
كان زعيم الارتجاليين كما قلنا، فما هو الارتجال إذن؟ أما ارتجال الفكرة فمجازفة بحقوق الناس، ووصمة للمحاماة، واستهتار بالقضاة؛ وأما ارتجال الألفاظ فذلك شيء آخر؛ والمحامي الذي يرتجل الكلام هو الذي يملك أعنة البلاغة، أو هو الذي حضر مرافعته مرات ومرات، أو هو الذي مرن على مواجهة الأحداث ومجابهة ما يفاجيء؛ وإذن فهو لا يرتجل وإنما هو يستخرج ما في مواهبه من كنوز غائرة تظهرها الحاجة، فهذا تحضير غير مباشر، وهذا هو بالطبع ما عناه شارل شني في محاضرته لفتيات الجامعة في سنة 1911، إذ حدثهن عن حياته الأولى في المحاماة قال: (. . . وكنا جميعاً نساهم بنصيب ضخم في تلك الأكذوبة الشائعة وهي أننا نرتجل عفو البديهة كلاماً سهرنا في تحضيره طول الليل وأثناء النهار. .!!) وفي أواخر القرن الماضي أشار محام - كان عضواً في مجلس النواب - إلى أن القضاة سيسمعون من (باربو) مرافعة اصلها مكتوب، فصرخ باربو بصوته الداوي: (نعم إن احترامي لهذه الساحة يضطرني لتحضير ما أقول، لكن الذين لا يحضرون كلامهم ويملؤونه بالتناقض يجدون صدوراً رحبة في ساحة أخرى. .) وكانت الساحة الأخرى طبعاً مجلس النواب
كان هنري روبير يوصي المحامين دائماً بالاطلاع والاستعداد؛ كان يوصي بالقراءة دائماً وبالكتابة دائماً؛ كان يقول مثلما قيل من قبله: إن سر النجاح هو (أولاً: العمل، وثانياً: العمل، وثالثاً: العمل) ولقد يكون المحامي موهوباً وكله كفايات، فإذا لم يجدد نفسه ويزودها بالمعلومات وجد نفسه بعد سنوات أجوف فارغاً يردد اليوم ما يردده غداً. حدثنا النقيب بايان عن شني وباربو أنهما قضيا نحو العشرين عاماً في زاوية من زوايا المحاماة لا يعرفها إشعاع النور؛ وفي تلك الأثناء كانا، وخاصة باربو يتسلحان بدراسة عميقة للعلوم والتاريخ؛ حتى إذا انقضى ثلث قرن كان باربو يفتح كراساته ليستخرج منها شواهد هي آية الآيات في المحاماة بل في الأدب الكلاسيك؛ ولكن روبير قد عرف الشهرة في مستهل حياته فهو لم يكن ينعم - أو يشقى - بما سماه الفراغ الإجباري للمحامين، ولكنه مع ذلك كان يجبر الزمان وصحته على أن يمنحانه الفراغ والعلم. وإذا رجعت إلى مؤلفاته وخصوصاً قضايا التاريخ الكبرى، تلك القضايا التي تعتبر القضية الواحدة منها دنيا كاملة في قرن كامل، عندئذ يتضح لك مبلغ ما اخذ به روبير نفسه من نصيحته للمحامين
إلى هذه الكفايات العظمى كان يضيف كفاءة خاصةً هي الخلق العظيم: هي التواضع. وقدْماً قال (لابروبير) (إن التواضع مع الكفاءة، كالظلال مع الصورة، تظهرها وتوضحها وتجلِّيها)
هكذا كان رجلنا مع رجال القضاء ومع الزملاء
هو قد سلخ قرابة نصف قرن يترافع أمام القضاة والنواب، ومع ذلك لم نسمع له بحادث واحدٍ كلابوري كما أسلفنا عنه المقال، أو كفيفياني حتى قُدم للمحاكمة وأوقف مدة لم تكد تنقضي حتى صار وزيرا للحقانية!! ثم صار رئيساً للوزراء! أو أميل أوليفييه، أو كأسلوب (برييه) عندما ترافع في قضية الثلاثة عشر فقال للنائب العام: (. . لا لست حسن النية في هذا الذي تقول؛ إن القوانين لا تطبق في هذه الأيام ولكنها تفسر دائماً بما لا تحتمله؛ إن النصوص ترهق كيما يُرهق بها الرجال.!) ولا كأسلوب فولتير عندما قال عن قضاة كالا: (. . لا تذكروني بهؤلاء القضاة الذين نصفهم قرود ونصفهم قضاة!) ذلك لان هنري روبير كان يعرف إن جلال المحاماة من جلال القضاء، وأن شخصية القاضي جزء من معنى القضاء لا ينفصلان. أما مع الزملاء فكان خير الزملاء، عطفا وأدباً وحسن وفاء. إليك ملفاته جميعاً، كلها ذكريات حلوة عن الزملاء والأساتذة. هذه أعذب العبارات يكتبها عن أستاذه درييه؛ وهذه أمداح تترى للنقيب مارتيني، وتقدير لا حد له للخالدين بوانكاريه وبارتو، ولدبوي وملران ولبريان ذي الصوت العذب عندما يترافع، وهذا إعجاب لا حد له بلابوري، وحب لشارل شني، وإكبار لباربو وروسو الخ. هذا الثبت الحافل من الرجال الذين تتردد أسماؤهم في مؤلفاته. حتى إذا راودته المنية عن نفسه استمهلها ليكتب سطوراً لم تحل الوفاة بينها وبين الناس ليملأها مدحاً للقضاة ولرجال المحاماة في الأمس الدابر، وللمحاماة نفسها، تلك الآلهة التي طالما قدسها، تلك الغانية التي طالما عبدها واخلص لها الحب والعبادة بل التي ملأ الوجود الإنساني بكلام عنها يشبه الألحان
وبعدُ: فما هي المحاماة؟ (المحاماة أسمى مهمة في الدنيا) كما قال فولتير وكما قال أيضاً (كما كنت أرجو أن أكون محامياً) بل هي كما قال ماكس باتو (إن المحامي ملك)؛ ليست هذه العبارات لوحات أدبية معلقة؛ لكنها حقائق قائمة منتزعة من صميم الواقع؛ فانظر إلى المحامي وهو يترافع؛ لا إلى (برييه) وهو يترافع عن ملك مستقيل ضد ملك قائم، وعن ملك مخلوع ضد ملك منصب، ولا إلى ماليرب وزملائه وهم (يحملون إلى الكونفاتسيون الحقيقة ورأسهم) دفاعاً عن لويس السادس عشر، ولا إلى الهلباوي وهو يترافع في آخر القرن الماضي عن البرنس سيف الدين ضد ملك، وفي 1933 عن البرنس محمد علي ضد من؟ أو في سنة 1914 عن خيري باشا ومحرم باشا وورائهما من كان ورائهما؛ ما إلى هؤلاء قصدت ولكن إلى المحامي الصغير - اعني الشاب، فليس في المحاماة صغير وكبير، بل فيها شاب ومكتهل - إلى المحامي الناشئ وهو يقف أمام المنصة، في محكمة الجنح أو أمام القاضي الجزئي؛ هو ذا يدلي بمرافعته بين الاحترام العام أو الإعجاب العام في بعض الأحوال، كلمات متزنة، وعباراتٍ واضحةٍ كلها إخلاص؛ مسموع الصوت مسموع الكلام، لكأنك به في ردائه الأسود، الكاهن الجليل في ساحة المعبد؛ الأعناق مهطعة إليه، والآمال معقودة عليه؛ ففي يده مستقبل أسرة أو ثروة فقير أو كرامة رجل أو عرض غانية؛ ولقد يكون المحامي في سبيل الدفاع عن موكليه قد ضحى ما ضحى، أضعاف أضعاف ما كسب، وهو قد يكون قد تقدم إلى الدفاع كما كان يتقدم أسلافنا الأولون، بدافع النجدة والمروءة وفي سبيل الشرف لا في مقابل المال؛ هو ذا يقف ببسالة أمام الطغيان، طغيان الأفراد أو طغيان الطبقات أو طغيان الأمة أو طغيان الحكومة ذاتها. . إنك تكاد تحسب عندئذ أن المروءة والبسالة قد اتخذتا شكل رجل يتكلم، حتى إذا انتهى من مرافعته أملى التاريخ إملاءة بسيطة ليسمع كلمة القضاء أو كلمة القدر
انظر إلى المحامي في تلك الصورة المصغرة التي رسمناها، وقل لنفسك مع ماكس باتو (إن المحامي ملك)
ولكن - أيها الإخوان المحامون - إذا كان حقاً أن ليست هناك مهن وضيعة، وإنما هناك أشخاص وضيعون فإن ثمة حقيقة أخري هي أنه ليست هناك مهن رفيعة، وإنما هناك رجال يرفعون من شان المهنة. فاعملوا إذن على رفع مستوى المحاماة دائما باستمرار: اعلموا إن الحياة المادية ليست هي المطمح السامي لمن لبس هذا الرداء الأسود، بل إن هذا الرداء كما قال الهلباوي في مرافعته عن الورداني إنما يذكرنا بأننا قسيسون في معبد العدالة نشاطر الناس لواعجهم وأشجانهم؛ وكلما سمت المهنة سما بها بنوها عن الابتذال؛ واعلموا إن نصف الوزراء في الحياة الديموقراطية لا يعيشون بعد الخدمة إلا عيشة الكفاف
اعلموا إن المحاماة رسالة وليست تجارة؛ وان السعيد من استطاع أن يفهمها على غير أسس المال؛ هاتوا صحائف التاريخ تشهدوا الثروات تتدفق على المحامي دائماً بعد أن يكون قد قام بواجبه في سبيل الشرف أو في سبيل الصالح العام؛ تشهدوا المال يلاحق المحامي بعد أن يكون قد أدى رسالته في خدمة المظلومين أو في مدافعة الطغاة؛ تشهدوا المحامي العظيم لا يسعى إلى المال وإنما يسعى إلى الشرف، وكلما اعرض عن جمع المال انحدر إليه المال من كل ناحية. فالسعيد منكم من استطاع أن يفهم المحاماة على أنها مهمة ومهنة؛ فاملئوا نفوسكم بالقناعة، واملئوا أذهانكم بالعلم، واملئوا فراغكم - الإجباري أو الاختياري - بالدرس وبالتحصيل وبالسعي المطرد نحو الكمال
وانتم أيها المحامون الشبان: اسمعوا! إن المحاماة في مصر لم تصل إلى أزهى عصورها بعد؛ فانتم إذن أملها المرموق بالعناية. اكتبوا دائماً، واقرءوا دائما، وتعلموا حسن الأداء - فالمحاماة في الحقيقة ليست إلا حسن أداء - واذكروا إن الحياة الديموقراطية قد ذللت لكم كل شعاب المجد، وفتحت لكم الأبواب على مصاريعها، فأدوا رسالتكم على خير وجوهها، وكونوا دائما شجعانا؛ وأضيفوا إلى مبادئكم إن خير ما علمنا أساتذتنا هو إن احترام المحاماة من احترام القضاء، وان خير ما يكسب به الدعوى هو سلامة الأسلوب ونزاهة الغاية
اذكروا أن رئيس محكمة النقض السابق كان رئيسا لنقابتكم، وأن رئيس نقابتكم السابق هو الرئيس الثاني في الدولة بعد رئيس الوزارة، واذكروا إن رئيس الوزارة اليوم بل صاحب الرياسات جميعاً، كان وما يزال محاميا منكم. واعلموا أخيراً إن هؤلاء الذين شاركوكم كزملاء لا كرؤساء سيعود إليكم منهم من يعودون ليتشرفوا بحمل ذلك الرداء الأسود الذي يساوي كلمة الدفاع، ذلك الرداء الذي كان يحمله بوانكاريه وملران بين رياسة الجمهورية ورياسة الوزارة مثلما كان يصنع فيفياني ووالدك روسو ومثلما يصنع عبد العزيز فهمي ومكرم عبيد
كم كنت أود لو نقلت إليكم تلكم الخطبة الخالدة التي ألقاها المستشار (داجوسو) من نحو مائتي عام في المحامين والمحاماة، ولكن المقام ضاق فإليكم منها تلكم الخاتمة: -
(. . حسبكم جزاء على آلائكم العظمى التي تسدونها إلى الناس هذه العظمة وذلكم الجلال، وألا تكونوا مدينين بالعظمة وبالجلال إلا إلى أنفسكم. حسبكم إن يتخذ منكم الناس مثلما اتخذوا من أسلافكم من القادة والهداة والرسل، وان ترتفعوا إلى تلكم المكانة العليا فوق الكافة فتتولوا صرف المنازعات وفض الخصومات، تتولوا القضاء الفعلي بين الناس كما يتولاه القضاة الموظفون ولكن بما لكم من سمو الغاية ونزاهة القصد ونصيب ضخم من الاحترام العام وبما لكم من نفوذ الكلمة وبلاغة التأثير وجلال العبارة. . . . فهل انتم إذن ستكونون لأنفسكم أداة تقدم لا عوامل تنفتل بكم إلى الوراء؟. . هل ستكون هذه المحاماة التي طالما عملت لمجد الأمة، وكم ستعمل في سبيلها؟ هل ستكون عند رجائنا فيها فتحتفظ لنفسها بمنزلتها الرفيعة العليا بين المهن، بالفقه وبالبيان ولكن بالعدل والنزاهة أيضاً؟. .)
أيها الزملاء! كلمة أخيرة
إن نقيكم العظيم المضطلع بشتى شؤون الدولة يكاد يقول مثل (الملك الشمس) (أنا الدولة) فأهيبوا به أن يذكرنا. . . . وعندما يصدر القانون، وتتقرر حصانة المحامي في الجلسات، يومئذ تلمسون بأصابعكم ما قاله ماكس باتو من أن المحامي ملك، بل وتضيفون إليه أيضاً أن المحامي ملك
عبد الحليم الجندي