مجلة الرسالة/العدد 158/الإسكندرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 158/الإسكندرية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 07 - 1936



بقلم حبيب عوض الفيومي

لا روضَةٌ كغِياضِ الرمْلِ مِئْنَافُ ... ولا كمصطافها في الأرض مُصْطاف

ولا كمنظرِها سَلْوَى لذي حَزَنٍ ... ولا كأُلاّفها في الحسنِ أُلاّف

أضحت على كل حُسن مؤنقٍ عَلَماً ... مذ كان للشيء أعلامٌ وأوصافُ

باكرتُها وطيورُ الدوح جاثِمةٌ ... ولؤلؤ الطلِّ فوقَ الزهر رَفَّاف

وللنجوم تلاشٍ في مِسارِبِها ... كأنها لسهامِ الشمسِ أهداف

والأُفْقُ مُلتهِبٌ في الشرقِ تَحْسَبُه ... تِبراً له من وراءِ الغَيم تَخْطاف

والريحُ عاطرةٌ بالنشرِ ساطعةٌ ... يُنْشِيكَ مُنْتَشَقٌ منها ومُستافُ

في فِتيةٍ أُنشئُوا إنشاء قَسْورَةٍ ... فليس فيهم لدى الإِقدام وقَّافُ

ذوي وجوهٍ وآراءٍ تُضيُء لهم ... إذا اُدْلَهمَّتْ من الأحداث أسداف

من كل منتخَبٍ في القول مُنْتَدَبٍ ... في الهولِ، فهْوَ أديبٌ وهْوَ سَيّافُ

في جنةٍ مثل ترْوِيضِ البِسَاطِ زَهَتْ ... منها غُصونٌ مُوَشَّاةٌ وأفواف

تَشابهت في التفافِ النَبْتِ واختلفت ... أفنانُها فَهْيَ ألوَانٌ وأَلفاف

فيها نخيلٌ وأعنابٌ وفاكهةٌ ... شتّى وأجناسُ رَيْحانٍ وأصناف

رَفَّ الذبابُ على نَوَّارِها فله ... في بَلْجَةِ الشمسِ تغريدٌ وَتهفْاف

وللأكمَّةِ من أزهارِها سُرُجٌ ... مضيئةٌ حولَها للنحل تَعْزَافُ

يَهفْوُ الفَرَاشُ عليها أبيضاً يِقِقاً ... كما أطارَ فُضَاضَ البِرْسِ مِنْدَاف

وللطيورِ على أغصانها زجَلٌ ... تُشجيك منه مزاميرٌ وأعزَافُ

تجمعت في سماءٍ فهي فاخِتَةٌ ... وَساقُ حُرٍّ وشُحْرورٍ وَخُطَّاف

تَعلو أَلاَئِفَ شتَّى ثم تُذْهِلُها ... نجوى الهوى فلها في الأرضِ إسفافُ

وأينما مِلْتَ فالإيقاعُ مُتَّصِلٌ ... تُلْقيه هَتّافةٌ تَشْحُو وهَتّافُ

حتى إذا ذرَّ قرنُ الشمسِ والتمعت ... على رؤوسِ الروابي منه أسياف

عُجنا إلى أيْكةٍ شجراَء سامِقَةٍ ... لها مع الحرِّ إظلالٌ وإيراف

تواشجت وسمت من كل ناحيةٍ ... فإنما هي أسياجٌ وأسجاف زِينت بشتى تماثيلٍ تلوحُ على ... سِيمائها من سماءِ الفن ألطاف

تكلمتْ عن أمورٍ وَهْيَ جامدةٌ ... وصُوِّرت من صخورٍ وهي أطياف

مِن كلٍّ عاريةٍ رَيَّا وكاسيَةٍ ... إزارُها عن خفيِّ الحسنِ شفَّاف

وما لبِسْنَ وما عرَّينَ عن بَشَرٍ ... وإنما هُن إتحافٌ وإطراف

كأنها ونوافيرُ النميرِ لها ... من فوقِ أرُؤُسِها سَح وتَوْكاف

سِرْبٌ تجرّد من أثوابِه فلهُ ... في غفلةِ الناسِ تَلعابٌ وتَطواف

ما بينَ حاملةٍ جاماً وصادِحَةٍ ... غَنَّاَء في يدها للشَدْوِ مِعزاف

وبين رافعةٍ مِصباحَها بيَدٍ ... لها على الماءِ إِطلالٌ وإشراف

وبين حاسرةٍ ريعت فنازَعها ... لُبْسَ الخميصةِِ إيجاسٌ وتَخواف

وبينهنَّ كلابُ الصيدِ قد نَفرت ... وأطلقت أيدياً للوحشِ تَقتاف

وإذ تَلاقى بنا ذو صبوةٍ وَصدٍ ... إلى السُّلافِ ومِتلافٌ وَوَصَّاف

قلنا: المُدامَ. فجاؤونا بمُذْهَبَهٍ ... مذاقُها لِسَقيمِ القلبِ إخطاف

لم يبقَ منها وقد طالَ الزمانُ بها ... في الدَنِّ إلا شُفافاتٌ وأنزاف

سبيئةٌ سبقتْ نوحاً فكان لها ... تحتَ العرائشِ قبل الشَّرْبِ آلاف

يلوحُ منها قَوامٌ ثم تُدرِكُها ... لطافَةٌ فَتجَلّى وهي إِشفاف

ما اعتادها لونُها الجادِيُّ عن عُرِضٍ ... وإنما هو لونُ الشمسِ يَشتاف

كرَّ الربيعُ وضوءُ الشمس يُنضِجُها ... في كرْمِها بعد ما غَذَّتْه أرياف

ورَاقَ منظَرُها إذ رَقَّ جَوْهَرُهَا ... فالحسنُ منها عن الاحسانِ كشَّافُ

تَسْمو إِلى رأسِ حاسيها لِخفّتها ... إذ لا تلائِمُ ذاكَ الجِرْمَ أجوافُ

وتترُكُ المُحتَسِى نشوانَ لا نَزَقاً ... وإنما هو إحصافٌ وإرْهَافُ

يُهدَي لحانوتها المُعْتَسُّ في غَلَسٍ ... برِيحِها وَلَوَ أنَّ البُعْدَ أَفْيافُ

ويَسْتضيءُ بها في السيرِ ملتَمِسٌ ... ضَلَّ السُّرَى ولجنحِ اللّيلِ إغدافُ

نَشتفُّها ونناجيها ونرفعُها ... ونجتلي قبَساً منها ونَسَتافُ

ونملأُ الرُّوحَ وحياً من معارجها ... فانما هي إيحاءٌ وإلطاف

فآيةٌ لبخيلٍ ذَاقَها كرَمٌ ... وآيةٌ لِسَحِيِلِ العزمِ إحصاف صُبَّتْ فَرَقْرَقَها طبعٌ فَشَعْشَعَها ... مثْلَ الضرام تعَالَى منه أطرَاف

وثار ثائرُهَا حَمْياً فَهذّبَه ... حِلمُ النميرِ فقرَّتْ منه أعطاف

حتى إذا ما عَلا رَأْدُ الضُحَى ودَنَا ... من شاطئ البحر فُرَّاطٌ وَسُلاَّف

أَقَلْنا ظَهْرُ طامٍ لا قَرَارَ له ... وهل يَقَرُّ حَرُونٌ وهو رَجَّاف؟

في سابحٍ أسحمِ الدَّفَّينِ مُنْسَرِحٍ ... يدافعُ الماَء من حَرْفَيْهِ مِجْذَاف

مُسْتَوْسِقٌ ظَهْرَه يَسعى على مَهل ... من الوَنَى فهْوَ تحْتَ الوَسْق دلاف

نَظَلُّ منه على سِيْسَاءِ مُنْجَرِدٍ ... ما لاقه قَطُّ إسرَاجٌ وإِيكاف

بينا يسير رويداً إِذ تُلاَطِمُهُ ... مَوَّارةٌ فإذا الإِروادُ إِعْناف

طَوْرَا يُصَوِّبُنا غَوْرُ وآونةً ... تعلو بنا منه أَحْقافٌ وأعراف

ما بين رافِعةٍ عَلوَا وخافِضَةٍ ... أهْضامُها في حُدُورِ الموج أنياف

وللعُبابِ زئيرٌ في تدافُعهِ ... وَزَخْرَةٌ فهْوَ بالأمواج غَرَّاف

له غواربُ لا تنفكُّ جائشةً ... ما هبّ من مُعصراتِ الريحِ زفْزاف

وطافياتٌ تعالَى وهي مقبلةٌ ... لها رُؤُسٌ منيفاتٌ وأشعاف

يظُنها من يراها وهي دانيةٌ ... أبا قُبيْسٍ له باليَمِّ تَزحاف

فإن ترفقتِ الريحُ الهَبوبُ به ... فكلُّ حُسنٍ عليه ثَمّ عكّاف

تلوحُ فيه وضوءُ الشمسِ مُنعكسٌ ... للعينِ أرباعُ أقراطٍ وأنصاف

كأنه لهبٌ يُذكَى به ذهبٌ ... أو زئبقٌ بمذابِ الصُفْرِ مُنداف

قَذْفُ البُحورِ لآلٍ دونَها صدفٌ ... ولُجُّهُ بلآلي الحورِ قَذَّاف

توائمٌ ينتظمن الشطَّ في نَسَقٍٍ ... مثل القلائدِ والظُلاّتُ أصداف

ماذا أعدت لنا الإسكندريةُ من ... فَتكٍ به لسليم القلبِ إزهاف؟

جيشاً من الحسنِ يغزونا وليس لنا ... من دونه غيرَ حولِ الله تَجفاف

مجراً جَناحاهُ دُعْجٌ بالعقولِ لها ... فتكٌ ونُعْجٌ لها في القلب أزحاف

شاكي السلاحِ فمن آلاتِهِ مُقَلٌ ... مُفوَِّقاتٌ وأعطافُ وأرداف

فُرسانُه نُهَّدٌ بالماءِ سابحة ... وَرَجْلُه ساحراتُ الطَرْفِ طُرّاف

أشباهُ ماءٍ على ماءٍ يكدن به ... أن يمتزجن وللأبشارِ ترجاف يَطْلُعنَ كالروض مَطلولا تُعارِضُه ... شمس الضحى فله في العين تَرفاف

عَرْفٌ يفوحُ وأوضاحٌ تلوحُ وكم ... في الروضِ ألوانُ أوضاحٍ وأعراف

روضٌ يروقُكَ منه منظرٌ عَجبٌ ... لكنَّ مجناهُ أحساكٌ وأحشاف

والروضُ يقطِفُك الأثمارَ يانعةً ... وما لهنَّ سوى الإِيحاشِ إقطاف

مُستهدفاتٌ وما فيهن من هدفٍ ... وإنما هنَّ إِسقامٌ وإِدناف

وَمُشفقاتٌ وما فيهن مُسعَدةُ ... وإِنما هنَّ للادمال إِقراف

واهاً لنفسي وما واهٌ بنافعةٍ ... إِذا تحَرَّقَ أَوَّاهٌ وَأَفَّافُ

هل هُنَّ بُؤْسَى وهُنَّ الحسنُ مُحْتَشِداً ... أم هُنَّ نُعْمَى وما فيهنَّ إِنصاف؟

فليس عنهنَّ سُلْوَانٌ لذي شَغف ... ولا لهنَّ به ما عاش إِيلاف

حُسنٌ ومنعٌ وأشقَى الناس متَّصِلٌ ... يلقاه حُسْنٌ وَلا يَلقاهُ إِتْحَاف

والمنعُ والماءُ نَزْرٌ لا احتجاجَ به ... والمنْعُ وَالمَاءُ طامي اللُّج إِجحافُ

بل هُنَّ ماءٌ كآلٍ لا اُرتواء به ... يُبديه سهْبٌ بعيدُ الوِرْدِ مهياف

يَظَلُّ وَارِدُهُ صَدْيانَ مُحْتَرِقاً ... عقباهُ شَلٌ إِذا اسْتسقَى وإلهاف

أورت لَظَى كَبِدِي منْهُنَّ شامسَةٌ ... وحْشيَّةٌ وَأْيُها غَدْرٌ وَإِخلاف

جنّيةٌ وصلُها دَلٌّ وَلَمحْتُها ... تَبْلٌ وإِعراضُها قتْلٌ وَإِتلاف

بيضاءُ تختَالُ مثلَ الشمسِ عارِيةً ... بل حسنُها في مُتوع الشمسِ كسَّاف

ألفاظها تُنعِشُ المُصْمَى ونظرتها ... تُصْمِى الصحيح فلا يُجْديه اسعاف

ضعيفة الأسرِ وَسْنَى من بُلَهْنيَةٍ ... وفي خلابتها للأسرِ إِضْعاف

تُوحي القنوتَ بطرفيْهَا وَفِعلُهُما ... يصبى الرجالَ وهم من قبل أحناف

وَزْنُ الوفاءِ لها بالقِسط مُكتمِلٌ ... واف وميزانُها في الحبِّ طَفَّاف

تَفتَرُّ عن مبسِمٍ عذبٍ له أُشَرٌ ... يشفى أُوارَ الجوى منهن تَرْشاف

كأنه أُقْحُوَانٌ بالندى خَضِلٌ ... أو لؤلؤٌ مازَهُ في السِّلْكِ رَصَّاف

تُزْهى بِقَدٍّ نضير العودِ تَحْسبُهُ ... غصناً ثَنَتْهُ النُّعامَى فهو غَيَّاف

تهفو القلوبُ له وجداً إِذا خَطَرَت ... كأَنما هو بالأرواح هفّاف

غيسانةٌ عَيشها من نَعْمةٍ وَغنىً ... رِيٌّ وعيشي بها سُقْمٌ وإِنحاف أَعَزَّها أنها دانت لِعزَّتها ... هامٌ وذلّتْ لها في الحبِّ آناف

وزاد من فتكها خَلْقٌ لها عَممٌ ... وحُسْن سُمتٍ له في القلب إِشعاف

أقرّ بالحسنِ ربَّاتُ الدلالِ لها ... طوعاً وهنَّ معاصيرٌ وأنصاف

وألهَجَ العاشقين المولعين بها ... أنّ ابتسامتَها للصب أهناف

لاقيتُها وجَناني جِدُّ منبسطٍ ... وعُدتُ عنها ودمع العينِ ذَرَّاف

وما رجعتُ ولكني تَراجعَ بي ... يأْسٌ فَرُجعايَ إِقرانٌ وإِرساف

ولو بعمري بها أحظى وقد عرضتْ ... لكان بالعمرِ لي قُربَي وإِزلاف

لكنَّ بيني وبين المُشتهى جبلٌ ... عالٍ ومهوىً سحيقُ الخرقِ نفناف

ولي حياءٌ عن العوراءِ يصدِف بي ... ولي لسانٌ عن الفحشاءِ نكّاف

يُشْوِي وصال الغواني كلُّ ذي أدبٍ ... جمٍّ يحظى به نَوْكَى وأجلاف

يَحظى أخو الجهلِ لا يَدري بِحُظْوَتهِ ... وليس يحظى لبيبٌ وهو عرّاف

وَشيمة الدهر لا تَجْرى على سَننٍ ... وَحالة الدهرِ إِجراءٌ وَإِيقاف

فغَارِقٌ في غِمَارِ اليَمِّ مُرْتكِسٌ ... وَظَامئٌ في قِفَارِ البِيدِ عَسَّاف

ما ساَءني أنّ غيري حظُّه سِمَنٌ ... من الزمانِ وحظي منه إِعجاف

لي من زماني فكرٌ راضهُ بصرٌ ... وللبهائم أرواقٌ وأظلاف

قد يُرْزَقُ الفَدْمُ مالا وَهو منخِفِضٌ ... وَيُحْرَمُ النَدْسُ مالاً وَهْوَ نَيَّاف

وليس مِثلينِ ذو عِلمٍ وذو سفَهٍ ... ولا شبِيِهْيَنِ لأَّلٌ وصداف

حبيب عوض الفيومي