مجلة الرسالة/العدد 156/أعلام الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 156/أعلام الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 06 - 1936


2 - سَعِيد بنُ المسَيّب

للأستاذ ناجي الطنطاوي

ضربه وحبسه

قال عبد الله بن جعفر وغيره: استعمل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير فقال سعيد بن المسيب: لا: حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطاً، فصاح به سعيد والسياط تأخذه: والله ما ربعت على كتاب الله، يقول الله: أنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلاّ ليالٍ فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره. فما مكث إلا يسيراً حتى قتل ابن الزبير. وروى أن ابن الزبير لما بلغه ضرب ابن المسيب كتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد؟ دعه.

وقال يحيى بن سعيد: كتب والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان: إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب. فكتب أن اعرضه على السيف، فان مضى وإلا فاجلده خمسين جلدة، وطف به أسواق المدينة. فلما قدم الكتاب على الوالي، دخل سليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، على سعيد بن المسيب، فقالوا: إنا قد جئناك في أمر: قد قدم فيك كتاب من عبد الله بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فاعطنا إحداهن، فان الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل (لا) ولا (نعم)، قال: فيقول الناس بايع سعيد بن المسيب؛ ما أنا بفاعل. (قال): وكان إذا قال: لا، لم يطيقوا عليه أن يقول نعم. قال: مضت واحدة وبقيت اثنتان. قالوا فتجلس في بيتك فلا تخرج إلى الصلاة أياماً، فانه يقبل منك إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك. قال: وأنا أسمع الأذان فوق أذنيّ: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح؟ ما أنا بفعل. مضت اثنتان وبقيت واحدة. قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره، فانه يرسل إلى مجلسك فان لم يجدك أمسك عنك. قال: فرقاً لمخلوق؟ ما أنا بمتقدم لذلك شبراً ولا متأخراً شبراً. فخرجوا وخرج إلى الصلاة، صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به، فقال: أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال: نهى رسول الله عن بيعتين فلما رآه لا يجيب أخرج إلى السدة فمدّت عنقه وسلْت عليه السيوف، فلما رآه قد مضى أمر به فجرّد، فإذا عليه تبّان شعر فقال: لو علمت أني لا أقتل ما اشتهرت بهذا التبّان، فضربه خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة، فلما ردّه والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه لوجوه ما نظرت أليها منذ أربعين سنة.

وروي أن سعيداً لما جردّ ليضرب، قالت له امرأة: إنّ هذا لمقام الخزي، فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا.

وقال قتادة: أتيت سعيد بن المسيّب، وقد ألبس تبّان شعر وأقيم في الشمس فقلت لقائدي: أدنني منه فأدناني منه، فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون.

وقال عبد الله بن يزيد الهذلي: دخلت على سعيد بن المسيّب السجن، فإذا هو قد ذبحت لهُ شاة، فجعل الإهاب على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قضباً رطباً، وكان كلما نظر إلى عضديه قال: اللهم انصرني من هشام.

وقال أسلم أبو أمية مولى بنى مخزوم وكان ثقة: صنعت ابنة سعيد بن المسيّب طعاماً كثيراً حين حبس، فبعثت به اليه، فلما جاء الطعام دعاني سعيد فقال: اذهب إلى ابنتي فقل لها: لا تعودي لمثل هذا أبدا، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم وأنا لا أدرى ما أحبس، فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إلي به، فكانت تبعث إليه بذلك، وكان يصوم الدهر.

وقال قتادة عن سعيد بن المسيّب إنه كان إذا أراد الرجل أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني.

وقال عبد الله بن جعفر وغيره: كتب هشام بن إسماعيل إلى عبد الملك بن مروان يخبره بخلاف سعيد بعد أن وضعه في السجن وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وأنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف.

وقال الواقدي: كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيئ الرأي، فدعا سعيد ابنه ومواليه فقال: أن هذا الرجل يوقَف للناس أوقد وُقف فلا يتعرض له أحد، ولا يؤذه بكلمة، فأنا سنترك ذلك لله وللرحم، فان كان ما علمت لسيء النظر لنفسه فأما كلامه فلا أكلمه أبداً!

وقال عمران: كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً عطاؤه، فكان يدعى إليها فيأبى ويقول: لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان!

معاملة للخلفاء والولاة

قال على بن زيد: قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك، ولا يحركك، ولا يؤذيك؟ قال: والله لا أدرى إلا أنه دخل ذات يوم مع أبنه المسجد، فصلى صلاة، فجعل لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفاً من حصى فحصبته به، زعم أن الحجاج قال:

مازلت بعد ذلك أحسن الصلاة.

وقال عمران بن عبد الله بن طلحة بن خلف الخزاعيّ: حجّ عبد الملك بن مروان، فلما قدم المدينة فوقف على باب المسجد، أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه؛ قال: فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال ما لأمير المؤمنين إلى حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته إلى لغير مقضية! قال: فرجع الرسول إليه ليه فأخبره فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له سعيد ما قال له أولاً. فقال له الرسول: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك. يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول له مثل هذه المقالة؟: فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وان كان غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. فأتاه فأخبره فقال: رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة.

وقال عمرو بن عاصم: لما استخلف الوليد بن عبد الملك، قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخاً قد اجتمع الناس عليه، فقال: من هذا؟ فقالوا سعيد بن المسيّب؛ فلما جلس أرسل إليه فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين: فقال: لعلك أخطأت بأسمى أو لعله أرسلك إلى غيري! قال: فأتاه الرسول فأخبره، فغضب وهمّ به، قال: وفي الناس يومئذ بقية، فأقبل عليه جلساؤه فقالوا: يا أمير المؤمنين فقيه أهل المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه. قال: فما زالوا حتى أضرب عنه.

وقال ميمون بن مهران: قدم عبد الملك بن مروان المدينة، فامتنعت منه القائلة واستيقظ، فقال لحاجبه: أنظر هل في المسجد أحد من حداثنا من أهل المدينة؟ فخرج فإذا سعيد بن المسيّب في حلقة له، فقام حيث ينظر إليه، ثم غمزه وأشار إليه بإصبعه ثم ولي؛ فلم يتحرك سعيد ولم يتبعه. فقال: ما أراه فطن، فجاء فدنا منه ثم غمزه وأشار إليه وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ قال: استيقظ أمير المؤمنين، فقال: أنظر في المسجد أحد من حداثي، فأجب أمير المؤمنين، فقال: أرسلك إلي؟ قال: لا، ولكن قال فانظر بعض حداثنا من أهل المدينة، فلم أر أحداً أهيأ منك. فقال سعيد: اذهب فأعلمه أنى لست من حداثه! فخرج الحاجب وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلاّ مجنوناً! فأتى عبد الملك فقال له: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم، فقلت له إن أمير المؤمنين قال أنظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي فقال: إني لست من حداث أمير المؤمنين. وقال لي: أعلمه، فقال عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيّب، فدعه.

وقال هشام بن عروة: لما تزوج الحجاج، وهو أمير المدينة بنت عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، أتى رجل سعيد بن المسيّب فذكر له ذلك، فقال: أني لأرجو ألا يجمع الله بينهما، ولقد دعا داع بذلك وابتهل؛ وعسى الله؛ فان أباها لم يزوجها إلا الدراهم، فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان أبرد البريد إلي الحجاج وكتب إليه يغلظ له ويقصر به ويذكر تجاوزه وقدره، ويقسم بالله لئن هو مسّها ليقطعنّ أحب أعضائه اليه، ويأمره بتسويغ أبيها المهر، وبتعجيل فراقها، ففعل فما بقى أحد إلاّ سره ذلك.

وقال المطلب بن السائب: كنت جالساً مع سعيد بن المسيب في السوق فمرّ بريد لبني مروان، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم. قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير. قال: تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب! فاشرأبّ الرسول، فقمت إليه فلم أزل ارجيه حتى انطلق فقلت لسعيد: يغفر الله لك، تشيط بدمك؟ فقال: أسكت يا أحيمق! فو الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه.

وقال صالح بن كيسان: حجّ الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد بنظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقى سعيد بن المسيّب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه! وما عليه إلا ربطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم مصلاه. فقيل له لو قمت، قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلّمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه! قال عمر بن عبد العزيز فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيداً حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: من ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيّب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين، ومِن حاله، ومِن حاله، ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فو الله ما تحرك سعيد ولا قام! فقال: بخير والحمد لله يا أمير المؤمنين. قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين.

رفضه أخذ العطاء

قال عمران بن عبد الله: كان سعيد بن المسيب لا يقبل من أحد شيئاً لا ديناراً ولا درهماً ولا شيئاً، وربما عرض عليه ألا شربة فيعرض فليس يشرب من شراب أحد منهم.

وقال العجلي وغيره: كان لا يقبل جوائز السلطان، وله أربع مائة دينار يتّجر فيها بالزيت وغيره.

(يتبع)

ناجي الطنطاوي