انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 154/للتاريخ السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 154/للتاريخ السياسي


5 - اليوم السابع من مارس

ضربة مسرحية في برلين

للدكتور يوسف هيكل

أما مسيو فان زيلاند، فقد ألقى خطاباً مرتب العبارة أنيق الأسلوب مؤثراً، وقد مس في خطابه شعور كل من سمعه. . وقال إنه لا يوجد بلاد فيها الخوف أشد مما هو في بلجيكا، وأن هذه البلاد الصغيرة لا تملك ما يطمئنها على سلامتها غير معاهدة لوكارنو. . . وقد أعتدي على حق بلجيكا التي تحترم المعاهدات والجيران اعتداء لا مبرر له. . . فبلجيكا لم تكن عضواً في المعاهدة الفرنسية الروسية التي أتخذها الهر هتلر حجة لتمزيق لوكارنو. ولا ينبغي أن تتوقف قيمة الإمضاء على معاهدة على قيمة قوى الذي وقع على تلك المعاهدة. . .

وبعد ظهر يوم الاثنين الموافق 16 مارس أجتمع مجلس العصبة اجتماعاً خاصاً ثم اجتماعاً سرياً داما مدى أربع ساعات، ودام البحث خلال ذلك عن الجواب الواجب إرساله إلى الحكومة الألمانية، وعن الأصول الواجب إتباعها للوصول إلى القرار الذي يصدره المجلس. وبعد نقاش طويل تقرر إرسال برقية إلى الهر هتلر يخبره فيها بأن الألمانية الحق في الاشتراك في مناقشة المجلس لطلب فرنسا وبلجيكا على قدم المساواة مع بقية الدول؛ ولا اعتبار لأصوات دول لوكارنو الثلاثة في تقرير التصويت الإجماعي. أما فيما يتعلق بالشرط الثاني فليس من اختصاص المجلس إعطاء التأكيد الذي تطلبه الحكومة الألمانية.

وقرأ مسيو فلاندان طلب حكومة فرنسا وبلجيكا الذي تقولان فيه بأن على مجلس العصبة أن يقرر بأن ألمانيا قد اعتدت على ميثاق لوكارنو ومعاهدة فرساي، وأن يقف فوراً دول لوكارنو على القرار - وبعد نقاش قصير فضت الجلسة.

وقبل أن تجيب حكومة برلين على برقية مجلس العصبة، أرسلت صباح الثلاثاء 17 مارس إلى حكومة لندن، بواسطة سفيرها في برلين برقية تقول فيها بأن الحكومة الألمانية تأمل من حكومة جلالته بذل جهودها، في الظروف الحالية، للمفاوضة على المنهاج الألمان في الوقت المناسب مع الدول ذات الشأن فيه. فأسرع مستر ايدن في أخذ رأي ممثلي فرنسا وبلجيكا ثم أجاب حكومة برلين قائلاً: (إن حكومة جلالته باذلة كل جهدها للوصول إلى حل سلمي مرض للمشاكل الحالية. وأن الحكومة البريطانية تؤكد بأن (اقتراحات المستشار) ستناقش في الوقت المناسب كغيرها من اقتراحات ذات الشان في الموضوع)

وفي اليوم عينه اجتمع مجلس العصبة في الساعة الثالثة والنصف وعقد جلسة سرية حسب اقتراح رئيسه ليسمع تصريحاً من ممثل بريطانيا. وقد أطلع مستر ايدن المجلس على برقية حكومة برلين وجوابه عليها. وبعد جدال عنيف حول الموضوع تقرر أن برقية الحكومة الألمانية لا تعد جواباً على برقية المجلس، وأن على المجلس فتح المناقشة حول طلب فرنسا وبلجيكا. وقد حض ممثلا فرنسا وبلجيكا على النقاش الفوري، وأخذ مسيو فلاندان يتكلم بحدة عن ضياع الوقت دون الوصول إلى نتيجة.

وبينا هم كذلك إذ سلمت برقية إلى مستر ايدن، تفيد بأن الحكومة الألمانية قد قررت إرسال مبعوث إلى لندن. وبعد بضع دقائق (تلفن) سفير ألمانيا في لندن إلى رئيس المجلس ليقفه على الخبر. وعلى ذلك انفضت الجلسة ليقوم الممثلون باستشاراتهم الخاصة.

وفي نفس اليوم عقدت الجلسة ثانية وكانت سرية أيضاً. ودار الحديث حول تأجيل المناقشة العامة حتى وصول ممثل بريطانيا، فعارض مسيو زيلاند في ذلك، وأخبر مسيو فلاندان المجلس بأنه يجب أن يؤخذ القرار صباح الخميس، لأنه سيغادر لندن إلى باريس في ذلك التاريخ. وهكذا تقرر أخيراً افتتاح الجلسة العمومية والبحث في دعوى فرنسا وبلجيكا، وكان ذلك في الساعة الخامسة والنصف.

وتكلم في هذا الاجتماع ممثلو تركيا وروسيا وشيلي. وكان أهم ما جاء في الخطب انتقادات الرفيق لتفينوف الشديدة والصريحة لانتهاك ألمانيا ميثاق لوكارنو. وقرأ جملاً من كتاب (كفاحي) توضح أن ألمانيا كانت مصرة على احتلال أراضي الرين عسكرياً وتسليحها لتتمكن من نشر نفوذها على أوربا جميعها وتابع مجلس العصبة اجتماعه في اليوم التالي، وتكلم جميع ممثلي الدول عدا الرئيس وممثل بلاد (الإيكوادور) بسبب مرضه، وأهم الخطب كانت خطب مستر ايدن والسنيور جراندي والكلونيل بيك أما الهر ريبنتروب فلم يصل في الوقت المحدد، ولذلك ألقي خطابه يوم الخميس 19 مارس.

وبعد أن أبان مستر ايدن أن ألمانيا هدمت معاهدة لوكارنو بعملها في 7 مارس قال: (إن واجباتنا ليست فقط التصريح بأن اعتداء قد حصل، بل يجب أن نضع نصب أعيننا غايتنا السامية، ألا وهي الاحتفاظ بالسلام، وإقامة حسن التفاهم بين أمم أوربا على أساس متين ودائم. ماذا كان مقصد لوكارنو؟ لقد كان لها مقصدان: أولهما الاحتفاظ بالسلام، وثانيهما خلق ثقة دولية بتأمين السلام في غربي أوربا. وإنني أصرح بأن موضوعنا اليوم هو هاتان النقطتان. . واستمر يقول بأن الحالة الراهنة التي تولدت عن أعمال 7 مارس حرجة جداً، غير إن هذه الحالة تحتوي على شيئين مهمين يجب لفت النظر إليهما:

أولهما: أن تمزيق لوكارنو لم يحمل معه أي تهديد عدائي، ولا يوجب العمل الفوري الذي توجبه معاهدة لوكارنو في بعض الظروف.

ثانيهما: مهما تكن الحالة خطرة فأنها أوجدت فرصة سانحة لتوليد حسن التفاهم وبناء العلاقات الدولية على معاهدات يحترمها الجميع ويود بقاءها. . .

أما الأمر الأول الذي لفت مستر ايدن إليه النظر فيخالف نص معاهدة لوكارنو الذي يقول بأن احتلال أراضي الرين يعد عملاً عدائياً، ولدول لوكارنو الحق في اتخاذ إجراءات عاجلة فعالة. وأما النقطة الثانية فلا يستطيع مستر ايدن تأكيدها، إذ هو لا يستطيع ضمان محافظة ألمانيا على المعاهدات التي ستعقد معها. ألا يمكن لحكومة النازي أن تقوم بعد سنين بعين العمل الذي قامت به في 7 مارس بحجة أن المعاهدة التي وقعتها لم تعد تسير مع رغائب الأمة فلا قيمة لها، وأن الحكومة الألمانية في حل منها!

واجتمع مجلس العصبة صباح الخميس الموافق 19 مارس لسماع خطاب الهر فون ريبنتروب واتخاذ القرار. وفي بادئ الأمر عقد اجتماع خاص طلب فيه ممثل الهر هتلر ترك فاصل من الوقت بين نهاية خطابه وأخذ القرار للتفكير. فصرح مسيو فلاندان حالاً، وبدون تردد، بأنه يعضد هذا الاقتراح. وفي الساعة العاشرة والنصف عقد الاجتماع العام. وأومأ الرئيس إلى الهر ريبنتروب، فقام وقرأ خطابه بالألمانية (مع أن اللغتين الرسميتين في عصبة الأمم هما الفرنسية والإنجليزية)، وبصوت هادئ ودون إشارة مدة نصف ساعة، ولم يأت في دفاعه ببراهين جديدة تبرر أعمال 7 مارس، بل كان الدفاع مبنياً على أن حكومة فرنسا اعتدت على لوكارنو بعقدها مع الروسيا ميثاقاً آخر؛ وأعاد تأكيد الهر هتلر بأن الحكومة الألمانية تود السلام.

وبعد أن ترجم الخطاب إلى الفرنسية والإنجليزية، انفضت الجلسة ليجيل الأعضاء الفكر فيه.

وعندما اجتمع أعضاء المجلس في الساعة الثالثة والنصف ألقى الرئيس بروسي كلمته كممثل لحكومة أستراليا، وأخبر بأنه سيصوت مع طلب فرنسا وبلجيكا.

ثم جرى التصويت على القرار - وهذا نصه: (إن مجلس عصبة الأمم، حسب دعوى وفرنسا وبلجيكا، المقدمة إليه في 8 مارس 1936، يرى بأن الحكومة الألمانية قد خالفت المادة 43 من معاهدة فرساي بإرسالها في 7مارس سنة 1936 قوى حربية إلى الإقليم غير المسلح، والمنوه عنه في المادة 42 والمواد التالية من تلك المعاهدة وفي معاهدة لوكارنو، وإقامتها فيه. انه يخبر السكرتير العام حسب نص البند 2 من المادة 4 من معاهدة لوكارنو لكي يرسل قرار المجلس هذا حالاً إلى الدول الموقعة على تلك المعاهدة)

وقد أخبر الرئيس بأن لجميع الممثلين حق التصويت، غير أن أصوات المتخاصمين لا تعد لمعرفة ما إذا كان التصويت بالإجماع.

وكان جواب ممثلي الدول إيجابياً (نعم). أما جواب ممثل الهر هتلر فكان (لا). ولم تكن حكومة اكوادور ممثلة في هذا الاجتماع؛ ولقد تغيب عن التصويت ممثلي شيلي.

وهكذا أخذ القرار بمخالفة أعمال 7 مارس لمعاهدتي فرساي ولوكارنو بالإجماع؛ وانتهت بذلك الدورة 91 غير العادية لمجلس العصبة.

يوسف هيكل