مجلة الرسالة/العدد 152/من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 152/من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة

مجلة الرسالة - العدد 152
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1936


الأدبية

التربية الوطنية الاستقلالية وأثرها في بناء الأمة

للأستاذ محمد عبد الباري

تتمة

وجملة القول هنا أنه لابد من الشجاعة والإقدام للنجاح في هذه الحياة، لأنهما يأبيان على المتحلي بهما الاعتماد على الغير، ويقودانه إلى الطموح والسعي والابتكار. وصفتا الشجاعة والإقدام لا تتأصلان إلا بالتربية الاستقلالية التي تبدأ من الطفولة الأولى، وتنمو في الوسط الحر المستقل وتثبت بالقدوة والمثل

وفي البيئات الحرة المستقلة يقل اعتماد الفرد على الجماعة فتخفف أعباؤها. وفيها يشعر كل فرد بحقه وبواجبه فيعمل الواجب، ويطالب بالحق، ويكره الضيم ولا ينام للظلم. وبهذا يفكر الظالمون والمتعسفون كثيراً قبل أن يقترفوا الظلم والعسف، فيقل الاحتكاك وتسرع الجماعة في طريق البشرية لتحقيق مثل الإنسان الأعلى، دون فقدان كثير من قواعدها في احتكاك داخلي يوهن عزيمتها، ويفت في عضدها

ولا شك أن أعمال الحكومة تؤدي كثيراً إلى تدعيم روح الحرية والاستقلال بمراعاة ما ذكر في النظم والقوانين، وفي كيفية تطبيق رجال القضاة والإدارة لهذه القوانين والنظم

فكفالة حرية الرأي تساعد كثيراً على نضوج الفكر ومن ثم على نضوج الحرية الاجتماعية وتقضي على الفوضى، ومن الواجب مراعاة هذا لدى التقنين

واختيار القضاة ممن عرفوا بالصلابة في الحق، والتمكن من القانون، واستنارة الفكر، تعاون الجماعة على ضمان سير العدالة؛ وبذا يشعر الناس بأن لا ضير عليهم ما قاموا بواجبهم في حدود القانون، فيعظم نشاطهم ويكثر إنتاجهم

وتحلى رجال الإدارة كبارهم وصغارهم بصفات الاستقلال والحرية والشجاعة والإقدام يعمل كثيراً على سير أداة الحكم بلا عوج ولا غرض، فتشيع في الناس صفات الآباء والشمم، ويعمل الجميع بلا خشية ولا رهبة ولا احتكاك ولا شقاق، ويقضي على النفرة بين الحكام والمحكومين، ويشعر الجميع بأن بينهم غرضاً مشتركاً يقوم كل بواجبه لتحقيقه، فيسهل الوصول إلى الغاية المشتركة بالتعاون والتضافر.

الوطنية

لا بد في الحياة الاجتماعية أن تقترن التربية الوطنية بالتربية الاستقلالية منذ الحداثة الأولى. نعم حب الوطن طبيعة يستشعرها الإنسان منذ فجر التأريخ بغير تلقين ولا درس، ولكنها مع ذلك من المشاعر التي يجب تعهدها بالترسيخ والتقوية، وحمايتها مما يفسدها من المؤثرات الصناعية

لا عزة في وطن ذليل؛ ولا قيمة للجاه الفردي والغنى الفردي في جماعة تخضع لإرادة خارجية؛ والاستقلال الفردي لا يثمر في أرض تسخر فيها إرادة الأفراد لغير مصلحة بلادهم

ففي مهد الطفولة يمكن تنمية شعور الوطنية بقص قصص الوطنيين الأبرار وتمجيد أعمالهم وإثارة الإعجاب بها. وفي المكتب أو المدرسة يتغنى الأطفال بحب الوطن ومجده والتفاني في خدمته، وإذا لم تكن العقول الصغيرة غير المتفتحة تدرك المعاني حق إدراكها فأن الذاكرة تختزن الألفاظ لتفيض معاني ملهمة عندما يتسع الإدراك وتأتي المناسبات؛ وخيال الطفل القوي يخلق من أبطال قصص والديه تماثيل ذهنية ناطقة تصاحبه ما عاش وتناديه وتناجيه، تزجره إذا ما حاول العقوق، وتدفعه إذا ما أعتزم العمل، وتتوج هامه بأكاليل الفخار إذا ما أجاد شاباً وكهلاً. وما أعجب فعل العقيدة عن إيمان!!

هذه الصور الخيالية تحفظ الشعور قوياً وثاباً. فإذا ما نضج الشخص بالتربية العقلية والجسمية والخلقية امتزج العقل بالعاطفة وكان في الفرد الوطنية الحية الرشيدة، أقوى أسس الحياة الاجتماعية

دراسة التأريخ بصفة خاصة من أقوى العوامل على تنمية الشعور الفطري بحب الوطن وتثبيته. فالصور الخيالية التي لزمت الطفل من البيت إلى المدرسة تزداد ثباتاً بدرس التأريخ كما ينبغي. التأريخ القديم والحديث حافلان بأعمال البطولة والشرف، وفيهما أمثلة لأعمال الدناءة والخيانة. فمن واجب الأبوين والمعلمين عرض صور الشخصيات التاريخية البارزة عرضاً أخاذاً وتمجيد أعمال البر بالوطن والتفاني في خدمته وتحقير أعمال الخيانة والنذالة والجبن

بذا ينشأ الوطني طوحاً إلى المجد، مشمئزاً من الدناءة، منكراً لذاته في سبيل رفعة وطنه

ولا شك في أن للمثل الصالح هنا كذلك قيمته العظيمة. فسلوك الأبوين والأقارب والمعلمين يفعل في نفس الطفل العجائب، بل إن هذا السلوك يؤثر في الفتيان تأثيراً يخلق النفوس خلقاً آخر. فقيام كل من هؤلاء بواجبه كوطني يبث في الناشئين روحاً وطنية بلا تلقين أو وعظ، ويشبون على أن العمل لمجد الوطن واجب الجميع يؤديه الكل سجية. فإذا ما توانوا فيه أو تخاذلوا دونه كان ذلك شذوذاً معيباً وسلوكاً ممقوتاً

للكتب والقصص، تمثيلية وغير تمثيلية، قيمة كبيرة في هذه الناحية من نواحي تربية الفرد. فالتلقين الحكيم الذي يزود به الكاتب قراءه أو مشاهدي روايته لا يقل كثيراً عن المثل والقدوة. يجب أن يكون في الكتب والقصص ما يكفي للإيحاء إلى القراء والنظارة بأن كلاً منهم يستطيع أداء حق وطنه عليه بأعداد نفسه الأعداد الذي تحتمله ظروفه وطبيعته والذي يمكنه من أداء عمله، مهما كان نوعه بإخلاص وإتقان. وبأنه إذا قام كل فرد بأداء عمله كما ينبغي فأن الوطن يتقدم ويعتز. وبأن الإنسان خلق حراً، ولكن لا سبيل إلى الاحتفاظ بهذه الحرية إلا إذا كان الوطن قوياً بحيث يستطيع رد من يحاول التسلط عليه وفرض إرادته على أبنائه

ومن خير وسائل إعداد الشبان قرن الثقافة ببث روح الطموح في الشبان وإثارتها في كل مناسبة، بل بخلق مناسبات لأثارتها. فالطموح المحب لوطنه يخصص حياته لتحقيق أمثلة عليا في الحياة تعود حتماً بالخير على بلده. فما الأمة إلا أبناؤها. فإذا كانوا خاملين وقف تقدم البلاد بل تتدهور. وإذا كانوا ذوي أمثلة عليا تقدمت البلد وعز جانبها

ومن سبل ترسيخ الروح الوطنية الاحتفال بالأعياد القومية وانتهاز ما تتيح من فرص لتمجيد أعمال البر بالوطن والتفاني في خدمته، وفي كل الطبقات يجب أن تنشأ جماعات يجتمع أعضاؤها يتباحثون ويتناجون فيما يعود على جماعتهم بالخير. وينبغي أن تنشد الأناشيد الوطنية في مبدأ الاجتماع وفي نهايته لتحية الوطن وإعلان الإخلاص له والتضحية في سبيله وهكذا يذكر الوطن في المنزل وفي المكتب والمدرسة، وفي الاحتفال بالأعياد القومية، وفي الاجتماع المتعلق بالشؤون الطائفية، فترسخ في الجماعة عقيدة (الوطن فوق كل شيء) ويرخص كل شيء في سبيل الوطن، يرخص المال والولد، بل ترخص النفس كلما تطلب مجد الوطن بذلاً في الحرب والسلم على السواء

وإذا ما غلبت في جماعة ما روح التربية الاستقلالية ونما في الأفراد وقوى وثبت الشعور الفطري بحب الوطن، وأعد الجميع إعداداً صالحاً ليقوم كل بواجبه على خير وجه، فلا بد أن تنجح هذه الجماعة في شق طريقها إلى الحياة الإنسانية الكريمة، حياة العزة والشرف ممتعة بنعيم الحرية وبركة الاستقلال الصحيح.

(شبين الكوم)

محمد عبد الباري