مجلة الرسالة/العدد 151/العالم المسرحي والسينمائي
مجلة الرسالة/العدد 151/العالم المسرحي والسينمائي
الممثل والمخرج المصري كما يراه بعض الفنانين الأيرلنديين
(رد على حديث لمجلة الرسالة)
للأستاذ زكي طليمات
تفضل ناقد (الرسالة) الفني فنقل في أحد الأعداد الماضية حديثاً عن المستر هيلتن إدواردز مخرج فرقة (دبلن جيت) الأيرلندية التي عملت بمسرح الأوبرا الملكية في نهاية هذا الموسم، حديثاً تناول فيه الممثل المصري والمخرج المصري بما تراءى له بعد أن شهد رواية (السيد) التي مثلتها أخيراً الفرقة القومية المصرية بدار الأوبرا
فعن الثناء والنقد الذي خص به هذا النفر من الممثلين والممثلات أقدم للمستر إدواردز شكري الخالص؛ وكنت بدوري أود لو أتيحت لي فرصة التمثيل أمامه لأسمع رأيه فيما أقدمه، وأتعرف مواطن الأستاذية أو الضعف في فني، إذ لكل مفتن، مهما بلغ شأنه في فنه، نواح لا تخلو من المآخذ
أما عن المخرج المصري، وقد خصني المستر إدواردز بالذات، فأرى لزاماً عليّ أن أتقدم إليه ببضع كلمات إقراراً للحقيقة التي ننشدها جميعاً، وكشفاً لبعض بواطن الأمور التي أصدر فيها المخرج الأيرلندي حكمه على مظاهرها دون اضطلاع بالظروف والملابسات التي أحاطت بإخراج رواية (السيد)
المذهب الواقعي والمذهب الإيحائي
كان أبين ما أخذه عليّ المستر إدواردز أنني أتبع طريقة المذهب الواقعي في إخراج الرواية ورسم مناظرها وأستارها. وهذا المذهب يحتم بقدر المستطاع نقل مظاهرا لحياة كما هي بتفاصيلها العادية وتفاهتها الحقيرة، ونعى على أنني لا آخذ فيما أعمل بالمذهب الإيحائي وهو المذهب الذي ساد فنون الرسم والنحت والتصوير جاعلاً من مظاهرها فناً مركزاً ينبو عن محاكاة الطبيعة كما تراها العين المجردة أو عدسة الكاميرا، على حين أنه يجمع من الأشياء خصائصها الرئيسية التي توحي بالجزيئات والتفاصيل، وتبعث مخيلة الرائي على استكمال ما أنقصته عمداً يد المفت ثم ساد هذا المذهب أيضاً فن الإخراج المسرحي فجعل من مظاهره المادية (وهي الأستار والملابس والإضاءة)، ثم من مظاهره النفسية (وهي إلقاء الممثل وإشاراته)، فناً يجنح إلى البساطة الموحية الغنية، ويميل إلى التركيز بل يهوي أحياناً إلى مقاربة الفن الرمزي من حيث المغالاة في التفسير بالرئيسيات عن الجزيئيات والدقائق
وكانت هذه النقلة من جراء تقدم فن الفوتوغرافيا ثم فن السينما الذي جعل كل محاولة من جانب المخرج المسرحي في نقل الطبيعة ومحاكاتها على المسرح ضرباً من السخف ولوناً من الهزل الفني الذي يجب أن يترفع عن إتيانه كل متفنن يتأثر بروح العصر ومزاجه العام
وغالى بعض المخرجين في توليد هذا المذهب، ولاسيما بعد أن نزلت بفن المسرح كارثته الأخيرة، وكسبت السينما النصر في استمالة الجمهور فجعلوا من المناظر المتعددة في رواية واحدة منظراً واحداً يشيد بحال يمكن المخرج من تمثيل كافة مشاهد الرواية في أقسامه المختلفة مع إضاءة القسم الذي يجري فيه تمثيل المشهد وإبقاء الأقسام الباقية في الظلام؛ هذا مع الاستعانة ببعض الأستار الجزئية أو الأثاث والمهمات، حتى لا يتصدع ما يصح أن (تعقله) عين الجمهور وحتى لا تصدم مخيلة النضارة بما يخرج على المنطق الإيحائي الذي هو الباعث الأساسي لشهوة الجمهور المثقف على تذوق هذه اللذة الفنية، لذة الإيحاء واستساغتها
وقد عمد المخرجون، ولاسيما الإنجليز منهم والألمان، إلى هذا الاتجاه الفني، وهو ليس بالفن الجديد لأنه عرف على حالة أولية في مسارح القرون الوسطى بأوروبا وفي المسرح الإنجليزي في عهد شكسبير والملكة اليصابات؛ عمدوا إلى ذلك بعد أن أفلس المذهب الواقعي الذي عمدته في فرنسا، وفي الروسيا، في محاولة إنقاذ المسرح بعد أن اكتسحته (الكاميرا) مستشعرين قصور ميكانيكية المسرح على تقدمها الأخير عن بلوغ الشأو الذي قطعه فن السينما في إيراد مناظر لا حد لها ولا نهاية بأيسر الوسائل وأقل التكاليف
وأرادوا بهذا أيضاً، وهو الصميم، أن يقدموا للنظارة لذة ذهنية جديدة غير تلك التي يقدمها فن السينما القائم على تعدد المناظر والعرض الواسع ومحاكاة الطبيعة في أدق مظاهرها، لذة أساسها التخيل واستثارة الخاطر وإشعار النظارة لذة التوليد مما هو مركز، وجمال الكشف عما هو مغلق أو يكاد. وأصابوا التوفيق لدى الجمهور المثقف المشحوذ الخاطر، ولاسيما الجمهور الإنكليزي الذي يحمل في آدابه تقاليد المسرح الشكسبيري
وقد أطلق المخرجون الفرنسيون على هذا النوع من المنظر المركز اسم
وليعذرني المستر إدواردز إذا أنا لم أسهب أكثر من ذلك لضيق المقام، ولأن الأكثرية الغالبة من القراء لا يأبهون ولا يتذوقون الكلام في هذه الفنون الغريبة عن آدابهم القديمة والحديثة، ولكنني أذكر له أنني قرأت ما كتبه المخرج الإنجليزي الفقيه (جوردن كريج)، والألماني (رينهارت)، والفرنسيان العبقريان (كوبو) و (جيميه)، والأخير هو أستاذي في مسرح الأوديون، وقد شاهدت مآثر فنهم واتجاهاتهم الحديثة في الروايات التي رأيتها في لندن وبرلين وباريس
بعد هذا أعترف بأنني لم أعمد إلى المذهب الإيحائي المبالغ فيه وهو المذهب الذي تبعته الفرقة الأيرلندية في إخراج روايتي (هاملت) و (روميو وجولييت) على مسرح الأوبرا، لأنني أعلم، وأنا مصري وأعمل للمسرح منذ خمسة عشر عاماً، أن الجمهور المصري، بحكم مزاجه العام، لا يتذوق هذا الاتجاه الفني، بل ولا يستطيع أن يفهمه، بل إنه ليرى فيه ضرباً مما يخالف المعقول، وذلك بحكم أنه جمهور غير مثقف في أغلبيته تثقيفاً فنياً كاملاً، ولأنه جمهور (لاتيني) من حيث ثقافته
وإذا كان المخرجون الإنكليز والألمان أكثروا من استعمال هذا الصنف من المناظر فلأن ثقافتهم من (الشمال)، وثقافة (الشمال) يعلوها الضباب والسحاب، وليس فيها وضوح الثقافة اللاتينية التي قامت في بلاد البحر الأبيض المتوسط، حيث وهج النهار يكشف عن دقائق المرئيات. وإذا كان الجمهور الإنكليزي يرتاح إلى مشاهدة هذا النوع من الإخراج فلأنه جمهور شكسبير وجمهور المسرح الثابت الستار الذي تجري في ساحته الواحدة معارك القتال ومعارك الغرام وغيرها؛ ويكفي أن يرمز لكل منها بلوحة مكتوبة حتى يستقيم المنطق لدى النظارة وحتى ينزو كل خاطر من كمينه
وفوق هذا، وعلى اعتبار أن الجمهور المصري يفهم ويستسيغ هذا النوع من الإخراج، فإنني ما كنت لأخرج رواية (السيد) وفاقا لما يراه المستر إدواردز ويعتبر أنه قطرة العطر المختارة في سائر وسائل الإخراج، لأنها رواية من صميم الأدب الكلاسيكي، ولأنها من الأدب اللاتيني القائم على الوضوح والبساطة، ولأنها رواية أساسها (الكلم) لا العرض والمستر إدواردز يعرف حق المعرفة أن المخرج الحق، المخرج الذي لا يقدم الشيء الغريب ليعرف بالغرابة، مقيد بروح الرواية وبنوعها الأدبي، ومن هذا المصدر يستوحي الاتجاه الفني ويتخير وسائله في الإخراج، ولاسيما فيما هو خاص بالإطار المادي الذي تبرز فيه الرواية وأعني به فيما أعني مناظر الرواية وأستارها
إذن فليسمح لي المستر إدواردز بأن أقول إنه تسرع في حكمه قبل أن يتعرف ذوق الجمهور المصري، وإنه من أولئك النفر من المخرجين الذين يريدون أن يجعلوا من فن الإخراج فناً قائماً بذاته لا يحفل بروح الرواية ولا يحترم إرادة مؤلفها ولا يأبه بمكانها من الاتجاهات الأدبية؛ وأننا أربأ به عن هذا النفر ذي السمعة المعروفة، وأقول، محسناً الظن بنقديه، أنه أخذ علي في الإخراج وسيلة لا يميل إليها شخصياً
أما أنني خرجت على المذهب الإيحائي البسيط الذي يستطيع أن يتذوقه الجمهور المصري، والذي يماشي روح الرواية، فأمر لا يقره الواقع؛ فالمستر إدواردز قد شاهد بعينيه أنني ركزت على جانبي مقدمة المسرح عمودين من النمط الذي كان شائعاً في القرن الحادي عشر، وهو عصر الرواية في إسبانيا ' عمودين يجمع بينهما (قبو) لا يرى النظارة منه سوى بدايته فوق كل عمود، على حين أنني لم أكمل الباقي وأسدلت ستارة من العلاء يغطي ما تعمدت إخفاءه، وذلك بقصد الإيحاء، عمودين لا يحملان في قطعهما وتصويرهما جزيئات الحقيقة، بل يبدوان وعليهما أهم مميزات النمط، وذلك نزولاً على مبدأ المذهب الإيحائي الذي أنا أول من قدمه في مصر، ولاسيما في روايتي (تاجر البندقية) و (أهل الكهف)
وبذلك أحييت الصبغة الزمنية والمحلية بأسهل الوسائل
كذلك عمدت إلى الأستار المخملية ذات اللون الواحد لتمثيل حجرة ابنة الملك وحجرة (شيمان)؛ ستاران أحدهما رمادي والآخر بني اللون، يهبطان الواحد خلف الآخر وراء العمودين، واستعنت بالأثاث للتنبيه على الإيحاء في إحياء الصبغة المحلية، فكان أثاث حجرة شيمان من الفن الإسباني في القرن الحادي عشر، وكان أثاث حجرة ابنة الملك من الفن العربي باعتبار أنها من الأسلاب التي غنمها الأسبان من العرب بعد أن أكرهوهم على الجلاء عن قصورهم
ثم كان المنظر الذي يمثل ساحة أو ربوة بجوار المدينة حيث يتبارز الكونت والدوق دياج؛ هذا المنظر قد رسم وفاقاً لصميم المذهب الإيحائي المتطرف، بل لقد أمرت المصور الذي رسمه بألا يتبع قواعد المنظور في رسمه؛ وكل هذا بقصد استثارة مخيلة النظارة ودفعهم إلى توليد لذة ذهنية تطالعهم بعد التفكير والإمعان
ولكن حدث بعد ذلك أن شاهد المستر إدواردز منظر ساحة العرش في قصر الملك وهو منظر يمت بحق إلى (المذهب الواقعي) ويحطم بحق أيضاً الوحدة المسرحية التي يجب أن تسود سائر مناظر الرواية، وكان أن صاح المستر ماك ليمور زميل المخرج الأيرلندي النابه بأن المخرج قد أخطأ!!!
نعم لقد أخطأت. . . ولكن ليس عن جهل بأيسر وبأولى قواعد فن الإخراج. وهنا أستطيع أن أروي ما قد يرسم ابتسامة الإشفاق على شفاه الزميلين العزيزين. . .
المسألة وما فيها أن مصور المناظر لرواية (السيد) لم يتمكن من إنجاز هذا المنظر في الوقت المناسب، فاضطررت - أقول اضطررت - على الرغم مني، وعلى الرغم مما يعمر رأسي من فنون الإخراج، أن أستعير منظراً من مناظر دار الأوبرا الملكية حتى لا يتأخر تمثيل الرواية، وكان هذا الظرف المحرج الذي لم ينفع فيه علمي، ويصح أن أقول للزميلين إن مناظر الأوبرا لم تعرف بعد المذهب الإيحائي؛ وقد ضحك مني رئيس الميكانيستية حينما وضعت ستار المؤخرة في رواية (أهل الكهف) من القطيفة، على حين أن بقية أجزاء المنظر كانت من الإطارات المرسومة الملونة
إذن ليعذرني الزميلان، وكان يجدر بهما - وهذا ما آخذه عليهما - أن يتريثا في الحكم على زميل، وألا يصدرا هذا الحكم بعد مشاهدة رواية واحدة خذلت برغمي في الاحتفاظ بوحدتها المسرحية
وليعذرني أيضاً الزميلان إذ أن مصوري المناظر في مصر - ومن بينهم الأجانب - لا يعرفون شيئاً عن المذهب الإيحائي ولم يسمعوا بعد عن سائر الاتجاهات الحديثة من و , ووإنني أجاهد معهم متعباً و. . .
وإن البعض من الممثلين بل والنقاد، عدوا المناظر التي قدمتها في رواية تاجر البندقية وكلها إيحائية محضة، نوعاً من التمرين الأولي في فن التصوير والرسم مما يقدمه طالب بالمدارس الأولية
الإضاءة
يقول المستر إدواردز (أنني لم أقصد من الإضاءة إلا أن أكشف المناظر والممثلين للنظارة، وأنني لم أستخدم الإضاءة لغرض أو فكرة خاصة إلا في موقف واحد فقط بين (السيد) وحبيبته) ومجمل هذه الاتهام يناقض بعضه بعضاً، فهو يعترف أنني استخدمت الإضاءة لفكرة وغرض في أحد المواقف، ولكنني أهملتها في مواقف أخرى، أعني أنه يعترف بأنني أدري أن الإضاءة المسرحية ليس الغرض منها فقط إنارة المناظر والممثلين بل إحياء الصبغة النفسية لأهم عاطفة تجتاح المشهد، هذا مع خضوعها للمعقول وما يحتمه الزمان والمكان. وتكفيني هذه الشهادة، ويرفه عني هذا التناقض، لأن من يعلم أن 1 + 1=2 لا يرجع فيعطي نتيجة غير هذه!!!. يعلم المستر إدواردز وقد شاهد الرواية - ولا أعرف ما إذا كان قرأها - أن كافة المناظر تجري في رابعة النهار ماعدا مشهدين أولهما في وسط الليل وثانيهما - وهو الذي أشار إليه - في أول هبوطه، وقد اعرف بدقة الإضاءة فيه
ماذا كان يريدني أن أعمل للإضاءة المطلوبة في باقي مناظر الرواية، وكلها تجري في النهار، أكثر من الإنارة التامة للمسرح؛ ثم غمر الأقسام الرئيسية التي يجري فيها أهم مشاهد المنظر بأشعة ناصعة تصبها مركزات للنور (بروجكتور) على جانبي المسرح، وذلك بقصد اجتذاب أنظار الجمهور إلى أهم النقط التي يجري فيها التمثيل!!!
أقول للمستر إدواردز إنني من المعجبين بتصوير المصور رامبراند وأعرف أننا معشر المخرجين الحديثين نستقي من طريقته في توزيع النور في لوحاته الخالدة، نستوحي أساليبنا في إضاءة المسرح، وفي هذا ما يكفي ليعلم أنني أعتقد في الإضاءة المسرحية وأراها مصدراً غنياً في الإلهام يستوحي منه المخرج، وأن الإضاءة المسرحية قد أخذت مكان المناظر في إحياء الصبغة النفسية، بل والمكانية أحياناً
بعد هذا أصرح أن ما قرأته في (الرسالة) عن لسان المستر إدواردز لا يخلو من قسوة ومن تحرج لا أظن أن نفسية مفتن من طرازه تنطوي عليهما!!
ولكن أحقاً قال ذلك المستر إدواردز وزميله؟ أم أن ناقل الحديث هو الذي قسا وتحرج!!! لا يهمني كثيراً. . . وأشكر لصاحبي الحديث ولناقله هذه الفرصة الغالية التي أتاحت لي أن أناقش وأحاور في فن أحبه كثيراً، وأود أن أتلمس مواطن الضعف مني في تأدية رسالته
زكي طليمات
خريج مسرح الأوديون بباريس وعضو جمعية المسارح
الدولية
أؤكد للأستاذ زكي أني كنت أميناً في نقل الحديث بما فيه من رقة وقسوة
يوسف تادرس