مجلة الرسالة/العدد 149/الملك فؤاد
مجلة الرسالة/العدد 149/الملك فؤاد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
مات الملكُ العظيم، فرأى الناسُ من ذهولهم كأنما زيدت في الموت زيادة
وكأن يوماً ليس من الدنيا وقع في الدنيا فترك الحياة في غير معناها
وكأن العيونَ انفتحت فجأةً على شكل محزن من هذا الوجود.
وكأن حادثاً عظيما انتهى من التاريخ المصريّ إلى نقطة انقلاب؛
ورأى الناسُ كأن غيمةً فوق مصر تجتمع من حزن ستة عشر مليون قلب!
مات فؤاد العظيم، فعرفت مصرُ أن معجزةً فارقتها
وأنه لم ينقض رجل؛ ولكن ذهب قَدَرٌ كان في خدمة حوادثها المضطربة
ولم ينته عمر؛ ولكن انتهت سعادةٌ كانت من حظ أيامها؛
ولم ينطو تاريخ؛ ولكن انطوت قوة كانت تعمل في حل مشاكلها
فارقت معجزة، وذهب قدَر، وانتهت سعادة، وانطوت قوة. ما أفدح خطبك يا مصر!
وكيف لا يكون معجزةً من خُلقت مواهبُه على قدر أمة تنال به التاجَ بعد أن فقدته ألفي سنة؟
وكيف لا يكون قَدَرا من بُعثت عزيمتُه لحل الزمن السياسي المعقَّدِ منذ دهور ودهور؟
وكيف لا يكون سعادةً هذا الذي مرَّت آثاره على فقر التاريخ مرورَ الغنى؟
وكيف لا يكون قوةً وإرادتُه الجبارةُ كانت مظهر السر الذي يعمل وينتصر؟
أيتها الحقيقة العظيمة! هل كانت النبوَّة في شكل سياسي؟
مرض الملك رحمه الله، فكانت أخبارُ مرضه روايةَ أحزان الشعب
وعرف كل مصري أن هذا الملك هو الوطن في صورة رجل،
واتجهت العاطفة الوطنية في البلاد كلها إلى رمزها الحي،
واثبت الشعبُ في سمو أخلاقه أن ملكه العظيم هو الذي ارتقى به إلى هذا السمو
وأُصلحت غلطةٌ كانت السياسة الأجنبية تسميها التفرق. .
ومات الملك رحمه الله، فأتم موتُه عمَل حياته العظيمة
جمع الأمة كلها على أسمى أخلاقها من الحب والوفاء والاتحاد؛ وأظهرها حوله كأنها في صلاة تتدفق منها الروحانية العظمى؛
وراع بها العالم السياسي كأنه يقول للدنيا: هذه مصر كما أنشأتُها
وترك لأمته الدرسَ الأخير في هذه الصورة كأنه يقول: هكذا عيشوا
وبكاه الشعبُ من كل عين، حتى لو كان يبكي من نهر ليبس؛
وأصبحت القلوبُ من الحزن كأن كل قلب اجتمعت فيه أمواتُه ذلك اليوم
وبرزت فجأة من النسيان همومٌ وهمومٌ وهموم
ودنت الآخرة حتى لا يذكر الناسُ غيرها، كأن الخلد يتسلم الراحلَ من أيدي الشعب
وحكم الملكُ يومَ موته حكما آخر كما تحكم على الناس جميعاً طبيعةُ الخير
(في ذمة الله يا فؤاد). هذا هو صوتُ الشعب يوم وفاة الملك
صوتُ الفطرة على سجيَّتها مع نفسها؛ لا من سياسةٍ ولا رياء ولا مجاملة
صوت الإيمان على طبيعته مع القلب، لا من غرضٍ ولا تصنّع ولا خديعة
صوت الوطنية على عقيدتها مع الحب، لا من خوفٍ ولا كذب ولا اضطرار
وما عسى أن يقول من فقد أباه العزيز، إلا أن يقول: في ذمة الله يا أبي؟
في ذمة الله ذلك الملكُ الذي كان كالأنبياء محصوراً في واجبه ورسالته
ولم يكن بين فكره وعمله أحلامٌ تفسد الفكر أو تضعف العمل
وكان يقول: (ليس شيئاً يذكر أن يكون المرء أميراً؛ ولكن الشيء الجدير بالذكر أن يكون نافعاً)
ومن أجل ذلك استمر يعمل كأنه مؤتمر ملوك لا ملك واحد؛
وتألفت مدةَ حكمه اثنتان وعشرون وزارة، فكانت له على مصر بركةُ اثنين وعشرون ملكا
وكان بنشأته واختباره وعلمه ودينه تصحيحاً لأغلاط من سبقوه في الملك
وبذكائه وبصيرته كان يسوس رعيتين في مصر: إحداهما الحقائق
وكان موفقاً بقدر ما هو قوي، فخدم الشعبَ عقله وحظُّه
تراه دائماً بحكمته وحزمه في عمله للحاضر، ودائماً بصبره وإيمانه في عمله للمستقبل
هو ملك الصبر والإيمان؛ وبهاتين القوتين كم من مرةٍ جعل ما لا يمكن يمكن
وكان من أكبر همه أن يألف العالم اسمَ مصر وأن تعرف ممالكُ الدنيا جَدَّتها فحرَّك اسم مصر في كل أمة لأنه وحده الاسم الذي يخاطب كل تمدن بلغة خياله
إن المجد المصري إذا انبعث كان قوة من قوى الجلال في الدنيا!
إن السحر المصري إذا عرف كان قوة من قوى الحب في العالم!
إن فن الإعجاب بمصر ليخرجُ من درس آثارها كما يخرج علم الفلك من درس النجوم
في ذمة الله يا فؤاد، وعزاءً يا مصر!
لقد أعطاك من الفاروق المحبوب أكبر حسناته:
أعطاك فيه أسرار عظمته تتجلى بادئة بنشاطها
غابت الشمس ليبدأ الفجر الجديد
مات الملك؛ يحيا الملك
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي