مجلة الرسالة/العدد 149/القصص
مجلة الرسالة/العدد 149/القصص
جاسوسة!
لمدير الأكاديمية الفرنسية هنري بردو
ترجمة الأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
لم يبق لمدام (سرمِزِل) أمل في أن تُحَب، فأصبحت لا تطيق أن ترى قلبين يتناجيان
فلقد ودعت المسكينة جمالها إثر حادث سيارة، وعمل الجراح في وجنتيها خير ما هيأت له عبقرية الطب، ورسم أنفها الدقيق رسمه الأنيق السابق، لكن الفن والطب معاً قصرا عن أن يمسحا من صفحة وجهها تلك الشيات الهينة التي ما برحت تشير إلى الحادث. . فعينها التي لم يجسر الطبيب على أن يدنو منها قد اتسعت بعض الاتساع فصارت نظراتها مما يتجمد له الدم في العروق. . وعشيقها الذي حنا عليها في محنتها وسربلها بصنيعه لم يستطع تلقاء هذا (البعث الناقص) إلا أن يطلب نقله إلى وظيفة نائية!. . . ولا يصبر على القبح الجسماني إلا رجل سمت به فضيلته إلى أرفع ذروة، أو رجل يغمر الإيمان فؤاده. . والصديق العزيز لم يكن إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. . .
كانت ما تزال تدعى إلى الأوساط التي كانت تغشاها من قبل، لما عرف عنها من الملاحظة اللاذعة والروح المبتكر. . وفي إبان هذه الدعوات شهدت - وهي تكاد تُجن - ميلاً يبديه المسيو (ريانس) إلى (المدام دي نيج) وكان الداعون والداعيات يفطنون إلى هذا الهوى الناشئ فيجعلون كرسيّ كل منهما إلى كرسي الآخر. . وهكذا في كنف تلك التقاليد التي تواضعت عليها الأرستقراطية المعاصرة (!) تآمرت كل الظروف على أن يترعرع هواهما الوليد في هوائها الطلق الصافي
كانت مدام دي نيج مشغولة بزخرفها مشغوفة بنجاحها في ذلك الوسط الرفيع الذي كانت تتأرجح كالقمري الغريد فوق أفنانه، وكان زوجها منكباً على وجهه في عالم السياسة لا يجد الساعات التي يمنحها فيها الحنان أو يهبها فيها الحب. أما المسيو (ريانس) فقد وفد حديثاً من الريف. . ومعه ثروة الأقاليم وملاحة التبسط وقسمات بديعة كلها أغراء، لكنه كان يضيف إلى تلك المؤهلات جهلاً تاماً بفن (الرجال مع النساء)
وذات يوم وقع خطأ في (بطاقة الاسم) فجاء كرسي مدام سرمِزِلْ بدلاً من كرسي مدام دي نيج بجوار المسيو ريانس. فقنعت الصديقة بمجلسها النائي وأخذت تبعث إلى صديقها من أقصى المائدة شعاعاً كله الكهرباء. . . فتطلعت (سرمِزِل) فوقع بصرها على ذلك التيار الذي يروح ويجيء بين القلبين فهمست في أذن جارها تقول:
- حقاً إنها جميلة. . وسكت ريانس، فعادت تقول:
- ولكن يا للخسارة! قال أي خسارة؟ قالت ألا تعرف؟ قال أي شيء أعرف؟
قالت إنها (في خدمة البوليس)!! قال: (إنك تمزحين يا مدام) قالت كيف أمزح؟ أو لم تقرأ كتاب (فوشيه) الذي قبلته الأكاديمية أخيراً؟ وحسبها قد أخذت بطرف من الحديث جديد، فقال كلا لم أقرأه، فاستطردت الجارة تقول: (هو مؤلف من جزءين، وإن المرء ليتعلم منه أشياء كثيرة وفيه تفاصيل عن نظام الجاسوسية في عهد الإمبراطور. . . كان في خدمتها سيدات من الطبقة الراقية. . جوزفين نفسها كانت جاسوسة في عهد الديركتوار (حكومة الإدارة)!!! وفي العصر الحاضر سيدات كثيرات من ذلك الطراز تجري عليهن الوزارة أجوراً ليطلعنها على فضائح المعارضة كيما تخضع المعارضة للوزراء. . .)
- ولكن كيف عرفت هذا يا مدام؟
- لا. لا. . . لن أبوح لك بمصادري. . وحسبك أنني أخبرتك
- إذن فهل تسمحين لي بألا أصدق؟
- ولِمَ لا أسمح لك؛ ليس المرء مكلفاً بأن يصدق كل ما يُلقى إليه، لكن عليه - على الأقل - أن يفتح عينيه
وتنقلا في شجون شتى وشؤون متشابهة، حتى إذا فرغ الطاعمون ونهضوا انتبذ من القاعة مكاناً قصياً وبقي فيه. . . . فلم يكن بد من أن تسعى إليه مدام دنيج تسأله ماذا دهاه؟ فأجابها: لا شيء، وأراد أن يُبدي لها بعضاً مما كان يُبدي من تحاياه أو من فيوض هواه. . . فكانت دعابته شوهاء، وحديثه بلا روح
وتعاقبت الأيام وهبط البارومتر، وهدأ التيار، وعملت مدام دي نيج جاهدة لتظهر عدم الاكتراث بما يظهره هو من عدم الاكتراث، ثم جمعت كل ما منحتها السماء من فتون الأنوثة وخلاعة الأغراء ووجهتهما عليه جميعاً كالتيار الدافق، فلم يُلق إليها بالاً. . . ولما غلبها بأسه غلبها يأسها، فشاهت في وجهها الحياة
لكن الإعجاب الذي مال بكل منهما إلى الآخر، والذي تنضح به غريزة كامنة في أعماقنا جميعاً - غريزة تلك الميول المستعدة لأن تصبح حباً جارفاً عندما تقاوم - هذا الإعجاب جعلهما أوثق اتصالاً كلما حاولا الانفصال. فأخذ الرجل يسائل نفسه: ما علة هذا الجفاء، وكيف يؤمن بالسيدة سرمزل مع أن الملأ طراً قد وصموها بأن الحقد يفري كبدها من سعادة السعداء؛ وتملكه الريب فيما ألقت إليه. . . لكن الكلام كان كالسهم قد نفذ فاستقر في أعماقه. . . وإذن فليس يمكن أن يعلق فؤاده بغرام جاسوسة. . . وشرع يزين لنفسه أشياء ويقبح أشياء. . . وأخذ يقول لنفسه ما يقوله كل ريفي هبط حديثاً إلى العاصمة: (لا، لا يمكن أن تستغفلني باريس!). بلى: فمنأين لها هذه الفراء الفارهة، وهذه اليواقيت، وكل تلك الأعلاق! وراح يحقق أثمان ما يقتنيه الحسان من نفائس ومجوهرات؛ فلما أدركه التعب أخذ يقول لنفسه: (أو لست أنا الذي أصبحت جاسوساً؟!)
وغدا المسكين نهباً مقسما بين الشك والقلق المساور، وغاض من كيانه معين الشباب ومرح الفتوة اللذان إذا أحدقا بغانية سدا في وجهها الأفق ولم يتركا لها منهما منفذا إلا كما تترك خروق (الشبكة) الضيقة للفراش الرشيق
أما هي فقد ذهبت جهودها كلها بددا، فعكفت على قلبها تتسمع خفقاته وتستعذب فيه لذع الحريق
وذات يوم سمعته يخبر الأصدقاء بأنه مسافر، فلم تتمالك نفسها وسألته: إلى أين؟ فأجابها بتحفظ: (عندي)
- أين عندك؟
- في جكس
- قريباً من جنيف؟ فأجابها في سخرية لاذعة:
- هنيئاً للجغرافيا بكعبك العالي يا مدام!. وأنت إلى أين؟ قالت إنني لم أعتزم أمرا. . وهذا يتوقف عندي على أشياء كثيرة
فكرّ على عقبيه ورجع يقول لنفسه: أشياء كثيرة! طبعا. . طبعا! ومن يدري فهي (مأموريات كثيرة) من يدري أيضاً. . . لا. لا. يجب أن أغادر الديار وأفلت من قبضتها. . . . وظل يأتمر بها مع نفسه وانتهى بأن قال (ستحسبني رحلت فلأراقْبها إذن. . . لأراقبْها أنا)
وتتلمذ حينا من الدهر على (شرلوك هولمز وأتاحت له الظروف فرصاً باهرة. . .
ما هذا: إنها في السيارة والسيارة تنهب الأرض نهباً إلى (المحافظة)!. . . الله! الله!. . . إن السيارة تطير بها إلى الوزارة!. . وزارة الداخلية!! الله أكبر! ما كان أصدقك يا مدام سرمِزِلْ!!. . ما هذا أيضاً: إن السيدة لم تنتظر في غرفة الانتظار. بل انفتح لها رِتاج الوزير فور الساعة!!. . . لا. لا، إنها ذات عهد بتلك المعاهد بلا مراء. . يا لله!. . ماذا كان مصيره لو هوى في ذلك الشرك. . ولو لم توح السماء إلى الناس فيخطئوا مرةً واحدةً ويضعوا بجانبه (المنقذة سرمِزِلْ)
وهكذا بعد أن اطلع عليها ولى فراراً وملئ منها رعباً
وكان قصره في الريف يشرف على عتبات جنيف! وكان اتصال البلد الذي هو فيه بالبلد الذي فيه عصبة الأمم يُسبغ عليه من جو الدبلوماسية ومن مراسيمها، وكانت أول دعوة وجهت إليه دعوة المركيز (دي بريل) وهناك. . . هناك. . ماذا. .! هنا ألفى نفسه وجهاً لوجه أمام من؟ أمام المدام دي نيج نفسها. . بلى، إنها هنالك تقتفي آثاره فيمن تقتفي آثارهم، ما في ريب، ولم يكن بد من أن يتحدثا فتحادثا
- أنت هنا يا مدام؟ أية مصادفة! أية مصادفة!. فحدقت في عينيه، وكان جَلدها قد وهى، بل كان قد انتهى، وقالت:
- لا ليست مصادفة. ألم تقل لي إنك قادم إلى جكس؟ قال:
- كم أنت ظريفة يا مدام! وأظنك لهذا جئت إلى جنيف؟ وشرع يتهكم فجذبته بقوة وقالت:
- لا تسخر مني وقل لي هنا. . هنا على الأقل. . لماذا كنت تتخلص مني؟ وحارت الدموع في مآقيها كالسحاب عندما يتجمع في زوايا السماء الصافية. فجرؤ صاحبنا وتشجع وقال:
بل أجيبي أنت
س: ماذا كنت تصنعين في المحافظة في 10 يوليو؟ ج: في 10 يوليو؟. . دعني قليلاً أفكر. . في 10 يوليو ذهبت إلى المحافظة أبحث عن جواز سفر إلى جنيف. . لأحضر إلى هنا. . قريباً منك
س: وفي نفس اليوم بوزارة الداخلية؟
ج: كنت أعرف الوزير فقصدت إليه أطلب تصريحاً بزيارة عصبة الأمم. وقالت (لكأنك قد تجسست علي). . . (إنك إذن من رجال البوليس)
قال: كلا يا سيدتي، لست أنا. . . ومسح جبينه وهو يتفصد عرقا، وأضاف: ولا أنت أيضا
- إذن هل قال لك أحد شيئاً؟ أو صدقت الذي قيل؟
ولم يكن يقيله من عثرته إلا أن يقول - كالشهود - الحق، وكل الحق، قال: (مدام سرمِزِلْ) فتنهدت الحسناء وقالت: (أفتصدق تلك الفرية فتلوث هذه التي كنتَ. . . التي كنتَ.)
- التي كنت أحبها، ومازلت أحبها كثيرا، كثيراً جدا، جدا، أما هي فلن يتفتح لي قلبها أبدا. . .
أفرَخ روع المدام دي نيج، وشاعت في وجهها نضرة النعيم، وتمشيا معاً في ممر يعطره أرج الربيع، لكأنهما الفكرة البديعة تروح وتغدو في خيال الشاعر. قالت: أرأيت إلى هذا الكمِّ الذي لم يتفتح بعد عن الزهرة! انظر ماذا فعلت بي. . . لقد لوثتني؛ فهل أهبك بعد هذا قلبي؟ خذ هذا الكم ذكرى من ذكرياتي. . . لقد وقع ولكن أثره ما يزال
فأخذ الكم بقوة كأنه ينزعه وقال: وإذا أنا طهرته بفمي من هذا الأثر أفتغفرين لي؟) ثم قضم بأسنانه لفائفه فبدا الطلع من ثناياها وضيئاً مشرقا. قال: (أما الزهرة يا سيدتي فلم تمس بسوء. فهلا تغفرين؟) وازدحم الدمع في موقيه كطفل غرير، وتطلع إليها كأنه يلتمس منها أن تهبه الحياة، فأطرقت في دلّ وخَفَرَ وقالت: (أما الزهرة فأنها لك) ثم عادت لتقول: (لكن عليك أن تغسل شفتيك قبل أن تقبلني)
هنري بردو