مجلة الرسالة/العدد 148/صور من القرن الثامن عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 148/صور من القرن الثامن عشر

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 05 - 1936


4 - جاكومو كازانوفا

جوَّاب مجتمع ومغامر مرح

خاتمة البحث

للأستاذ محمد عبد الله عنان

والآن وقد استعرضنا سيرة ذلك الجّواب المرح والمغامر الجريء، نحاول أن نستعرض جوانب شخصيته ومناحي نفسه، وأن نقرأ في حوادث حياته لمحة من خلال العصر الذي عاش فيه:

كان القرن الثامن عشر عصر تطور فكري واجتماعي عميق، وكان أيضاً عصر انحلال فكري واجتماعي، وكان المجتمع الأوروبي القديم ينحدر يومئذ إلى نوع من الخمول والدعة، ويجنح إلى تذوق متاع الحياة المادي بكل ما وسع من رغبة وهوى؛ وكان كازانوفا يمثل روح عصره وخواص عصره، بل كان يمثل رذائل عصره أتم تمثيل وأصدقه؛ وكان يمثل بالأخص الجانب المادي من هذه الخواص والرذائل، فكانت خلاله مزيجاً من الاستهتار والمرح، والجرأة والطموح، والعزم والخمول؛ وكانت غاية الحياة عنده هي الحياة ذاتها بما فيها من متاع ولذائذ وترف. كان كازانوفا يحب الحياة حباً جما، وهو يصفها في مذكراته (بأنها هي الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان حقا)، ويشبهها (بغانية حسناء يعشقها الإنسان، ويهبها ما شاءت مادامت باقية عليه)؛ وهذه الفلسفة المادية المحضة هي التي تغمر حياة كازانوفا وتوجهها

وهذه النظرة المادية إلى الحياة، وهذه الفلسفة المستهترة المرحة، وهذه الخواص السقيمة المنحلة، تقدمها إلينا مذكرات كازانوفا بصورة بارزة؛ والواقع أن هذه المذكرات الشهيرة التي تشغل عدة مجلدات كبيرة، إنما هي صورة قوية جامعة لمجتمع القرن الثامن عشر وخواصه وفضائله ورذائله؛ وهي ليست قصة كازانوفا فقط، ولكنها قصة جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية في هذا العصر؛ ففيها نرى حياة المغامر الجريء، والمشعوذ الأفاق، والعاشق المضطرم، والسيد المنعم، والشريد البائس؛ وقد كان كازانوفا كل أولئك، وكان له كل خلالهم، ورذائلهم، وهؤلاء جميعاً يملئون فراغ حياته

وهذه المذكرات الشهيرة هي أسطع ما في حياة كازانوفا، وهي التي خلدت ذكره. ذلك أن كازانوفا لم يكن في ذاته شخصية هامة ولم يكن من رجال التاريخ، ولكن حياته العجيبة تقدم إلينا مزيجاً مدهشاً من الفلسفة المادية والاجتماعية يستحق الدرس لذاته؛ وقد عني في أواخر أيام حياته أن يدون سيرته بكل ما فيها من حوادث مدهشة، وفلسفة مرحة، وفضائح مزرية، وكل ما فيها من شذوذ وخبائث. وقد رأيناه في أواخر حياته يستقر في قصر دوكس، في ذلك المقام النائي المنعزل، ويقطع أوقاته بالقراءة والكتابة؛ وكان كازانوفا أديباً مفكراً، حسن البيان والأسلوب؛ وكان تدوين سيرة حياته أعظم عزاء له في شيخوخته؛ فقد كانت هذه الصحف الممتعة تحمله من ذلك القصر النائي، ومن غمار الشيخوخة والعزلة والبؤس، إلى الماضي الباهر؛ إلى الأيام الخالية بكل ما فيها من متاع وترف، إلى أمسية الحبور والمرح، إلى المدن والمجتمعات التي جابها، وإلى مختلف النساء اللائى ظفر بهن. وكان أثناء حياته الحافلة قد جمع كثيراً من المذكرات والمواد لكتابه، ومنها رسائل من أصدقائه وصاحباته، ومذكرات كان يدونها على الأثر، هذا إلى ما تعيه ذاكرته القوية من الحوادث والتفاصيل

وقد بدأ كازانوفا كتابة مذكراته في سنة 1791، واستمر في كتابتها عدة أعوام، ولبث يستعيدها ويهذبها حتى سنة 1798، قبيل وفاته بأشهر قليلة؛ وكان يكتبها بشغف وتأثر، إذ كان يرى تلك الحياة الساطعة الذاهبة تمر أمام عينيه وتبعث إليه ذكريات المجد والصبا؛ وكان يعتزم إصدار الجزء الأول منها منذ سنة 1797، ولكن الموت عاجله، ولم يتح له تنفيذ أمنيته

ولم تظهر مذكرات كازانوفا إلا بعد وفاته بحين؛ وكان ظهورها حادثا أدبياً كبيراً. ذلك أنها لم تكن فياضة بالسير العجيبة فقط، ولكنها كانت أيضاً قطعة فنية بديعة تنعكس عليها جميع أحوال العصر الذي عاش فيه صاحبها، أعني القرن الثامن عشر، وجميع صوره وأحوال مجتمعه. وتشغل هذه المذكرات الممتعة عدة مجلدات كبيرة، وهي عمدتنا الأولى في سيرة كازانوفا وفي تفهم نفسيته وخلاله، وفيها يقص حياته منذ مولده بإفاضة، ويستعرض جميع وقائعه ومغامراته الغرامية مع نساء العصر من كل الطبقات، ويصف رحلاته العديدة إلى مختلف البلاد، ويصف لنا مجتمعات العصر وأحواله وأخلاقه وعاداته؛ كل ذلك بقوة وإفاضة وبيان شائق؛ وقد كان كازانوفا في الواقع رحالة عظيما، وكان يتمتع بمواهب بديعة في الملاحظة والدرس والوصف وفي تفهم عقلية الأفراد والطبقات؛ هذا إلى خيال خصب يسبغ على قصته كلها طابعاً من السحر؛ وقد يطبع بعض أقواله ومزاعمه أحيانا طابع من المبالغة، ولكن ذلك لا ينتقص من متاع قصته وسحرها

ولقد لفتت مذكرات كازانوفا منذ ظهورها في أوائل القرن التاسع عشر أنظار النقد الأدبي، فنوه بعض النقدة بقيمتها الأدبية، وحمل عليها البعض الآخر؛ وأبدى سانت بيف أستاذ النقد نفسه عطفه عليها وعلى مؤلفها ذلك المحب الأمثل الذي لم يسمح قط للمرأة بأن تسوده؛ ولكن جول جانان وهو ناقد آخر يحمل عليها ولا يرى في مؤلفها سوى دعي أفاق تحدوه شهوات مضطرمة؛ وكذلك يرى فرانسوا ماسون في كتابه عن (الأب برني) أنه هذه المذكرات ليست سوى مزيج من الأكاذيب المزرية؛ بيد أن النقد المعاصر يرى في مذكرات كازانوفا أثراُ جديرا بالتقدير، ويرى في صاحبها شخصية جديرة بالعطف رغم عيوبها ومثالبها؛ ومن ذلك ما يعلق به مسيو أوكتاف أوزان على المذكرات في فصل نقدي كتبه في هذا الموضوع: (لماذا ننحى باللوم على ذلك المحب المعاصر للويس الخامس عشر، لأنه أرانا وعرض علينا خلال عصره المنحل، وهي خلال كانت تعتنقها أعظم الشخصيات التي كتب عنها؟ وهل يحق لنا أن نمعن في الانتقاص من ذلك السرور الذي يتحفنا به عند قراءة (المذكرات)، وأن نحمل على تلك الأخلاق الفردية المثيرة؟. . . إن كازانوفا لم يكن أفضل ولم يكن أسوأ من أعظم الشخصيات التي ظهرت على مسرح العالم في القرن الثامن عشر)

وتقدم إلينا هذه المذكرات الحافلة الممتعة كازانوفا في جميع صوره ومناحيه؛ في صورة المحب المضطرم الذي يطارد المرأة بكل ما وسع من شغف وجوى، ويأسرها بظرفه وسحره، ويظفر بها في كل المواطن؛ وصورةالمغامر الجريء الذي يتسلح بذكائه وخبثه ومزاعمه ليغزو المجتمع ويعيش على هامشه بأي الوسائل؛ وصورة السائح المتجول الذي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها باحثاً عن المال والمتاع أنى استطاع؛ وصورة السيد الذي ينعم بالمال والثراء، أو صورة الشريد الذي لا يملك قوت يومه؛ وأخيرا صورة المفكر الأديب الذي يلتمس النسيان في القراءة وتسطير الماضي وتبذ صورة المحب المضطرم في شخصية كازانوفا كل صوره الأخرى، وهي بلا ريب أبرز صور حياته كما هي أبرز الصور في مذكراته. أجل كان كازانوفا محباً شغوفا ملتهب الجوانح، وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وقد حبته الطبيعة كما أسلفنا بكل ما ينبغي أن يتسلح به المحب الظافر من خلال وصفات خلابة، ويندر أن نجد بين غزاة المرأة من غص بالظفر في هذا الميدان كما غص به كازانوفا، ومازال اسم كازانوفا إلى يومنا لقب المحب الظافر؛ ولقد كان كازانوفا مادياً في حبه كما كان في سائر وجهات حياته، ولم تكن العاطفة عنده شيئاً مذكورا، وكان قلباً في الحب لا يكاد يظفر بغزو حتى يسعى إلى غزو آخر، وكان يرتفع في طموحه إلى أرفع البيئات والشخصيات، وينحط إلى أسفل البيئات والمواطن، فنراه يظفر بطائفة من أكابر السيدات في جميع المجتمعات التي تقلب فيها من نبيلات ونسوة متزوجات وممثلات ومغنيات وغيرهن، ونراه يهبط أحياناً إلى مجتمع الشعب المتواضع فيغزو عاملة أو خادمة؛ وإليك مثلاً مما يقصه علينا في مذكراته مما يوضح فلسفته في الحب، ففي ذات يوم كان ينتظر جياداً لمركبته في طريق رومه، فمرت به عربة تحمل مغنية حسناء ذائعة الصيت يومئذ، وكان كازانوفا يعشق المغنيات والممثلات بنوع خاص، ولكنه يقول لنا: (ومع أنها كانت فتية وكانت حسناء، فإنها لم تثر في نفسي رغبة ما، ذلك أنها كانت حسناء جداً، بادنة جداً. ولكن خادمتها كانت بالعكس فتاة سمراء ساحرة ذات قد ممشوق وعينين وضاءتين، فوقعت في حبها على الأثر)

ويذكر لنا كازانوفا في مذكراته عشرات وعشرات من النساء اللائى ظفر بهن خلال حياته الغرامية الحافلة. وهو تعداد لا يتسع له المقام هنا، وقد ذكرنا فيما تقدم طائفة من الأسماء التي غزاها إبان ازدهار مغامرته؛ والظاهر أن كازانوفا لم يتأثر في حياته بحب امرأة وسحرها قدر ما تأثر بحب راهبة حسناء من (ميران) يرمز لها في مذكراته بحرفي (م. م)؛ وهو يصف لنا روعة قوامها وروعة جمالها بحماسة مؤثرة؛ وقد كانت م. م في الواقع امرأة ساحرة الخلال تضطرم شغفاً وجوى، وكانت تختفي تحت ثيابها الكهنوتية نفساً ناعمة تواقة ملتهبة، وكانت تقتحم أروع الأخطار لتحيا تلك الحياة المزدوجة؛ حياة التقشف في الدير، وحياة اللهو والقصف خارج الدير؛ وبينما ترى بالنهار في ثياب راهبة محتشمة، إذا بها تسطع بالليل كالحلية في مرقص أو منتدى وتبذ بفائق حسنها وأناقتها كل حسناء أخرى؛ وقد كانت تطلق العنان لشهواتها المضطرمة ما شاءت، ولكنها كانت قوية النفس تضبط هواها متى وجب؛ ويصورها كازانوفا بأنها المحبوبة المثلى في حسنها وفي خلالها وسحرها؛ وقد ترك هواها في نفسه بلا ريب أعمق الآثار وأبقاها

ثم يأتي بعد صورة المحب، صورة السائح؛ وقد كان كازانوفا سائحاً عظيماً يجوب أرجاء القارة بلا انقطاع؛ وكان يعشق التجوال في عصر كان السفر فيه مشقة حقيقة؛ وقد رأيناه يجوب أرجاء القارة مراراً؛ وكان كازانوفا يجد في السفر لذة عظيمة، ويتخذ أثناء تجواله مظاهر السيد العظيم فيستأجر أفخر المركبات والجياد، وينزل في أفخم الفنادق، وينثر المال والعطاء من حوله، ولكنه كان في رحلاته مغامراً، لا تغريه سوى رغباته وأمانيه، ولا تغريه مشاهد الطبيعة الرائعة؛ ولهذا نراه في مذكراته يعنى بسرد مغامراته أثناء الطريق، وسرد ملاحظاته عن الأشخاص والحياة والنساء بنوع خاص؛ وقلما نراه يعنى بوصف البلاد أو مشاهد الطبيعة؛ بيد أنه يبدي فيما يصف من أحوال المجتمعات والأشخاص دقة تدلي بقوة ملاحظته وحسن أدائه

ويقدم كازانوفا إلينا خلال حياته صورتين قويتين متباينتين؛ فنراه إما سيداً كبيراً ينعم بالجاه والثراء، وإما شريداً بائساً يتخبط بين براثين الفاقة؛ وفي الحالة الأولى نراه يقتحم المجتمع الرفيع، وينعم بكل ما في الحياة من متاع وبذخ، ويصل إلى مجالسة الملوك والأمراء والعظماء من كل ضرب؛ ألم يجالس لويس الخامس عشر وفردريك الأكبر، والإمبراطورة كاترين، والبابا، وفولتير، وغيرهم من أكابر العصر؟ ثم نراه في كهولته شريداً بائساً يتقبل في سبيل القوت مضض المهانة والمذلة؛ بيد أنه في الحالين يحتفظ بقوة نفسه، وأثرته، وأمانيه؛ ذلك أن كازانوفا كان فيلسوفاً يقصد إلى الحياة بأي الوسائل، ولا يروعه أن يحقق متاعها بأي السبل، ولم يكن المال في نظره إلا وسيلة من وسائلها

وقد كان كازانوفا منذ نشأته رجلاً مثقفاً واسع المعرفة بالنسبة لمجتمع عصره؛ وكان في أواخر حياته يعتز بمواهبه العلمية والأدبية ويأنس سعادة عظيمة في إطلاق العنان لقلمه؛ ولم تكن المذكرات كل ما يكتب، فقد كان يتصل بالمكاتبة بجماعة من أعلام عصره، وكانت له آراؤه الخاصة في أحوال العصر وأحداثه؛ وكان يسخط على الثورة الفرنسية ويعتبرها حركة جنونية وقد كتب برأيه إلى روبسبيير في رسالة مستفيضة والخلاصة أن كازانوفا، كان رغم رذائله، شخصية عجيبة؛ وكانت حياته صورة صادقة للعصر الذي عاش فيه، وهي من هذه الناحية تستحق التحليل والدرس؛ ولقد كان لهذا المغامر المرح أصدق سلف وشبيه في مواطنه بنفونوتو تشلليني؛ فقد خاض كلاهما حياة مماثلة، واشتركا في كثير من الخلال والخواص النفسية، وسطر كل منهما حياته بقلمه؛ ولكن تشلليني كان علماً من أعلام الأحياء وبطلاً من أبطال الفن؛ أما كازانوفا فلم يعش إلا لنفسه، ولم يتبوأ في مجتمع عصره سوى مكان ثانوي وكانت حياته مزيجاً من الأهواء الجامحة، والأثرة العميقة، والشهوات المادية، والمرح العقيم.

(تم البحث - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان