مجلة الرسالة/العدد 147/الحياة الأدبية في فلسطين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 147/الحياة الأدبية في فلسطين

مجلة الرسالة - العدد 147
الحياة الأدبية في فلسطين
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 04 - 1936



للسيد محمد تقي الدين النبهاني

مدارس الأدب في فلسطين مدرستان. مدرسة الشيوخ ومدرسة الشباب. ولا تستطيع وإن أجهدت نفسك أن تعثر بثالثة اللهم إلا أثفية سفعاء. وهذا التقسيم قد يكون طبيعياً بل قد يكون عاما لا يمتاز به قطر ولا تستأثر به بلد؛ غير أنه في فلسطين غيره في سواها؛ فأدب الشيوخ في أكثر الأقطار مطبوع بطابع المحافظة على القديم حتى لدى المجددين منهم، وأدب الشباب كلف بالجديد حتى لدى المعتدلين من هؤلاء. وإليك مصر زعيمة الأدب العربي تكاد تخضع لهذا المبدأ بالقوة إن لم يكن بالفعل؛ فالزيات وطه حسين وهما من دعاة التجديد لا تقرأ لهما لغة ولا تمر بفكرة حتى تقرأ ما بين السطور المحافظة على التراث القديم. أما فلسطين فأدباؤها الشيوخ مشتجرون وأدباؤها الشباب منشقون، ولا تستطيع أن تلمس فرجة تتاح لك منها فرصة التوفيق، وإنه ليهون عليك أن تجد بعض الجامع بين الشيوخ والشباب ويعتاص عليك التوفيق بين رأي الشيوخ أو رأي الشباب. ولعل ذلك ناجم عن جرثومة هذا الأدب وأن نهضته أسست على التقليد من غير أن تكون ملكة الاستقلال والنقد بارزة تميز صائب الرأي وتنفث خطله

ترى طائفة من الشيوخ أن الأدب في رفض هذا النحو المألوف لدى العرب في دراسة الأدب من إلمام بالقواعد ودراسة لجيد النثر ورصين الشعر، وتذهب إلى أن كتب النحو وأسفار البلاغة من أمثال كتب الجرجاني والقزويني حتى اليازجي وأسفار ابن هشام وابن مالك حتى الشرتوني والجارم يجب أن تحرق وينبغي أن تمحى، وأن هذا الشعر وتلك الخطب التي قرضها أمثال حبيب ودبجها زملاء زياد لا يجوز أن نجعلها ثقاف أدب لعقول الأدباء، وأن لغة الصحف والكلام العادي الذي يكتب بعيداً عن الفن نائياً عن مقياس الأدب القديم هو التأدب الحق فكفى المرء أدباً أن يقرأ حتى لو أخطأ رفع المبتدأ ونصب الحال مادام هو أو السامع قد فقه مغزى ما يريد. ويرضى من الكاتب أن يخط حروف الهجاء بكلمات تبين عن المعنى ولو مجملاً حتى يضحى بعد مدة كل عربي قادراً أن يفهم الأدب إذا ما قدر أن يتلو الكلمة بعد معرفته ربط الحروف. وهذا رأي ينادي على نفسه بالخطل ويجعل القارئ في شك من عقل صاحبه أو حسن نيته. ومن المؤسف أن نقول إن م القائلين به مفتشين في المعارف وطائفة في أيديها أمر اللغة العربية في المدارس، ولا نود ذكر الأسماء لأنا نخشى أن يظن ذلك منا هجاء

وتزعم طائفة أخرى أن الأدب في التضلع من غرائب الكلم من مثل مبرنشق ومصمئل، وأن من لم يحط علماً بذلك ويستوي على شعر تأبط شراً وذي الرمة ويستظهر خطب المأمون الحارثي ومقامات الحريري لا يسمى أديبا

هذان رأيان من آراء الشيوخ وهما متناقضان، في أحدهما الهدم، وفي الآخر الجمود، لا تقوم بها نهضة، ولا يؤمل منهما إصلاح، لولا أن هناك طائفة ترى وجوب السير في نهج القديم والاستضاءة بضوء الحديث كرأي الأدباء الذين أخذوا على عاتقهم حمل مشعل الأدب. وهذه الطائفة لها أثرها ولها أنصارها، منها ذوو الطرابيش وأصحاب العمائم. غير أنه على غبطتنا بالطائفة الأخيرة ومقتنا للطائفة الأولى نقول: إن هذه الطائفة المعتدلة تقصر عملها وتحصر نهضتها في غرف الدرس وحلقات السمر، لم تخرج بعد ثمرة ولم تقم بمجهود، وأن الإكثار إنما هو لأولئك الهدامين، يكتبون ويتحدثون بما يرون بما لا يكاد يصح أن يسمى لغة عربية، ولا يكادون يقيمون لسانهم لحناً إذا ما تحدثوا دقيقة أو دقيقتين، ولكنهم على ذلك مكثرون وعاملون ما سمحت لهم المقادير

وطائفة الغريب منتجة غير أنه قليل، وعلى قلته لا يجد رواجا ولا ينفق إلا في سوق الراسخين

أما الشباب ففرقتان: فرقة كان موطن ثقافتها مصر، وفرقة رضعت لبان الأدب في فلسطين ولبنان، وبذلك تباينت عقليتهما وانشقت آراؤهما

فالذين تثقفوا في مصر يرون أن خير طريق لإنهاض الأدب هي الطريق التي تسير فيها جمهرة أدباء مصر، وهي أن تربية ملكة الأدب في دراسة نصوصه ونقد هذه النصوص وبحثها على المقياس الذي وضعه أولئك العلماء الذين أشفقوا على اللغة أن تضيع وخشوا فسادها على ضوء ما يجد من الآراء الصائبة وما يشرق من طرق البحث الأدبي القويمة. ولذلك تجد هؤلاء يتقلبون بين صفحات الأسفار ويأرقون لتحبير الرسائل والكلمات وينتقلون بين المدن والدساكر، يستملحون البيت من العشر، ويهشون للفقرة من النثر، ويهتزون طرباً لرؤية كتاب حديث يلتهمونه التهاماً، ثم يوسعونه نقداً، ويفتقون ما يصح من رأي حصيف. وهؤلاء هم الذين يجاهدون في النهضة ويضعون أنفسهم حراس الأدب. يحيطون علماً بسيره في سائر الأقطار ويستلئمون لرد غارة دعي، وصد هجمة متطفل على الأدب يكيد له. ومهما لاقوا من عنت ووجدوا من قسوة، لا يأبهوا لما يكون حتى من أشد الشظف، ويؤيدهم في ذلك جمهرة من إخوانهم الذين تثقفوا في لبنان، وإن كان يكون بينهم نزر الخلاف

أما الفرقة الأخرى فهي تقصر الأدب على رقيق الغزل وبارع الخيال في الكلم، وما يبدع من مقالات الصحف السيارة. حتى ليعدون رئيس تحرير جريدة أديباً إذا ما أنشأ كلمة في علاج شؤون البلاد؛ وهؤلاء يريحون أنفسهم من عناء الدرس، اللهم إلا في كتاب حديث أو جريدة يومية، أو مجلة فكاهية، وجل مجهودهم قصيدة غزلية أو مقالة اجتماعية ينشرونها في نهر جريدة ما. وهؤلاء لا نشك في عقلهم ولا نرتاب في نيتهم، وإنما نفند رأيهم وندعي أن الميل إلى الراحة ومتابعة الأهواء والجري وراء غرائزهم هو الذي حدا بهم أن يسيروا في هذا النحو، وأن يعتنقوا هذا المبدأ، ولعلهم بعد يؤوبون إلى الحق أثناء سيرهم في قافلة النهضة السائرة، وأنه وأن كثر أنصارهم باتخاذهم أصحاب الصحف أصدقاء، وباهتبالهم فرصة هذه الصداقة لجعلها بوقاً لهم يرضون به غريزتهم وينشرون رأيهم؛ فهم أمام قوة الأدب الصحيح يضعفون ويضحل معين أدبهم فأنه سينضب، وحينذاك يعلمون حق العلم أنهم كانوا في وادي الضلال يعمهون، ومن ملح أجاج كانوا يشربون ويسقون

ولا يعجبن القارئ من عرض هذه الصورة ولا يدهش لهذا الاضطراب في الحياة الأدبية فإن المقادير تضافرت على خلق الاضطراب، وإن اختلاف السياسة خلق هذا التباين. ففلسطين كان أدبها معدوماً وكان أدباؤها غير مخلوقين قبل سنين، فالأتراك كانوا يتآمرون على الأدب العربي حتى في مصر، فما بالكم في فلسطين؟ والأزهر كان حرباً على الأدب ذاك الوقت وخاصة مع الأغراب، وجامعات مصر كانت تقفل أمام الفلسطينيين، والحرب العامة كان لها أكبر الأثر ففتحت البلاد عينها على بقية من القدماء وجمهرة من الدخلاء، ثم أضحت فلسطين منتدباً عليها أو مستعمرة، وقام على شؤون التأديب غرباء عن الأدب، فكان ذلك الركود ووجد ذاك السكون في أوائل العقد الرابع من القرن الرابع عشر الهجري إلى أن فتحت جامعات مصر على مصراعيها لأبناء فلسطين واتجه الأزهر يعنى بالأدب ليتاح له تأدية رسالته، وحضنت لبنان أبناء هذا البلد فرجعت جمهرة من الشباب اصطدمت بالقدماء واصطدم بعضهم ببعض فكان هذا الاضطراب وكانت هذه الحياة الأدبية المضطربة التي أظهرنا لك صورة مصغرة دانية من الحقيقة وإن كانت المقادير لم تسمح بأن تكون هذه الصورة أقرب إلى الحقيقة وواضح مما قدمنا

. . . بيد أن هذا الاضطراب والاحتكاك يلمع ببرق أمل في النهضة الأدبية ويبشر بانتظام حياة أدبية يجهد الشباب لإيجادها ويستميلون معتدلي الشيوخ وأنضجهم آراء، وما هي إلا لمحة حتى تتغير الحياة غير الحياة وتزهر رياض الأدب في هذه البلاد العربية وتؤتي أكلها ثمراً شهياً

(حيفا)

محمد تقي الدين النبهاني