مجلة الرسالة/العدد 145/في المباراة الأدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 145/في المباراة الأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1936



استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام

للآنسة فتحية عزمي

كانت نهضة المرأة في مصر إحدى ثمار الفورة الوطنية المباركة التي انبجست من قلوب أبنائها البررة عام 1919؛ وإذا كانت الثورات التي حدثنا عنها التاريخ قد أفادت العالم من كل نواحيه، وخلقت روحاً جديداً من التطور في كل مرافقه، فإن مصر هي الأخرى قد جنت من وراء ثورتها الفتية نهضة مباركة بدأ أثرها جليا في السنين الأخيرة في الأدب والفنون والعلوم والاقتصاد والسياسة. وكان من أبرز هذه المظاهر وأروعها خروج المرأة المصرية من معقل التقاليد العتيقة المرذولة إلى الحياة العملية الصحيحة بعد الجهل المخيم والخمود الطويل. . .

لقد مضى على المرأة المصرية حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً حتى نفخ الزعيم الخالد (سعد) العظيم في صُور الثورة فلبت مع الملبين، وترامت في ميدان الجهاد مع المترامين، فرأينا كيف يجتذب صوت الداعي الأخاذ النقاذ خدور العذارى والسيدات إلى حيث النداء والتضحية، وكيف أن المرأة المصرية الحيية الساذجة قد ألقت عنها خمارها لتجابه بوجهها الحديد والنار في جانب الرجل، تشد عضده بمظهرها الحماسي الجريء، وتبعث في نفسه روح البسالة والإقدام، فيسارع إلى الموت باسماً لا ينكص ولا يتزعزع، وهكذا سجل التاريخ للمصرية في ذياك العام المجيد صفحة فخار ستبقى خالدة مادامت مصر ومادامت الوطنية والحرية، كما سجل للمرأة البدوية وراء الأجيال السحيقة يوم تبعت رجلها في الحروب تؤازره وتشجعه وتنشد خلفه أناشيد الحماسة والنصر فيشتد ساعده ويثبت جنانه فلا يتجلجل ولا يتحلحل إلا إلى نصر محقق حيث يعود إليها مزهواً بإكليل الظفر، أو إلى قبر في الفلاة موحش حيث الشرف كل الشرف والخلود كل الخلود. . .

فنهضة المرأة الحق في مصر لم تكن إلا وليدة الثورة، وكل ما قام قبل هذا التاريخ لترقية مستواها لم يكن إلا محاولات ضئيلة لا تكاد تذكر إلى جانب تلك الطفرة الهائلة التي قذفتها إليها الثورة، وهنا يحق لنا أن نحني الرأس في هذا المقام إجلالا لذكرى زعيمنا الخالد الذي تفجر من فيض وطنيته ما ننعم فيه الآن من نهضات عمت مرافقنا الحيوية، ثم نح جثمانه الهامد الوطنية الصحيحة والوجدان الحي والتضحية الفادحة والعمل الخالد المقيم. . .

وأخذت بعد ذلك نهضة المرأة المصرية تسير سيرها الحثيث نحو التقدم المنشود ففتحت أمامها موارد العلم لتغترف ما شاءت حتى صارت إلى ما هي عليه الآن من رقي وثقافة يكادان أن يضعاها في مستوى زميلتها الغربية، ولكن هل آتت هذه النهضة أكلها حقا؟ وماذا كان اثر هذه النهضة في الحياة العامة؟؟

لا يسع كل منصف إلا أن يحكم معنا أن تعليم المرأة لدينا قد بلغ شوطاً بعيداً وخاصة في الأعوام القلائل الأخيرة، فمنا الآن الأديبات والطبيبات والحقوقيات وغيرهن ممن نلن من الثقافة العالية نصيباً وافرا، ولكن العمل الرئيسي الذي خلقت له المرأة يؤول اليوم تدريجياً إلى الإهمال: فالشؤون المنزلية وتربية الأولاد وإعدادهم للحياة الصحيحة ثم تفهم الحياة الزوجية ودرسها درسا وافيا، كل ذلك أضحى في نظر سيداتنا وخاصة المثقفات منهن شيئا ثانويا أولى منه إتقان أدوات الزينة والجري وراء الأزياء الحديثة حتى أصبحنا في خشية من انطباق قول الآنسة دي سكودراي علينا: (أن فتاة تنسى النظر إلى السماء لا تحسن شيئا على الأرض!!)

(إن النساء أتين العالم لعمل الحساء وإنسال الأولاد وماعدا هذا فأنهن يظهرن بمظهر مزعج) كلمة مريرة قالها موليير عن المرأة، وهي وإن كانت تهكما لاذعا كاد صاحبها يخرج بها إلى حد المغالاة، أو جاوزها فعلا، إلا أن فيه إشارة إلى الوظيفة الأولى للمرأة التي أشرنا إليها من قبل. وأنه لخليق بالمرأة المصرية وقد ضربت في الثقافة العامة بسهم وافر أن تضع نصب عينيها الرسالة التي أوجدتها الطبيعة من أجلها وتؤديها على أتمها خالصة في سبيل الله والواجب، ومن ثم تضرب في خضم الحياة العملية ما شاء لها الفكر الوقاد على ضوء الخبرة والمعرفة. أما أن تعنى بالأمور الفرعية دون تقويم الأساس وتمكينه فهذا ما لا يقره منطق سليم ولا تبيحه نفس الطبيعة التي فطرت كل شيء لغرض معين وهيأته لرسالة محدودة

في يقيني أن خير استثمار أن خير استثمار المرأة العصرية للخير العام ينحصر في شيء واحد وهو: تشييد صرح حياتنا الاجتماعية على أساس مكين ونظام متقن؛ وإذا كانت نهضة المرأة عندنا قد قامت على تعليمها فأحرِ بنا أن نستغل هذا التعليم لتمهيد سبل السعادة لأزواجنا ومعاونتهم على العيش، ثم تدبير بيوتنا وتثقيف أولادنا ثقافة أخلاقية وعلمية ووطنية ليشبوا رجالا بكل ما في هذه الكلمة من معنى سام جليل؛ ومتى تركزت حياتنا الاجتماعية على هذه الأسس الوطيدة صلحت حياتنا العامة وأعددنا للوطن أشبالا تغذوا بلبان الوطنية واهتدوا بهدي العلم إلى سواء السبيل

صدقوني أنّا لسنا بحاجة إلى المرأة المثقفة العالية بقدر حاجتنا إلى الأم الصالحة أو (المدرسة الأولى) كما نعتها الكتّاب والشعراء قديما، وهاهي تي البلاد تئن من أقصاها إلى أقصاها من كابوس البطالة الذي يجثم على أنفاسها ويزداد هولاً يوماً بعد يوم باطراد زيادة عدد المتعلمين الذين تلفظهم المدارس كل عام لمواجهة الحياة العملية حتى ضاقت بهم سبلها وغصت بهم على رحبها، وهذا الجيش الجرار من شباب الأمة المتعلم العاطل أولى منا نحن معشر النساء المثقفات بالعمل، فبماذا يمكن إذاً استثمار نهضة المرأة المصرية للخير العام؟؟

ليس هناك سوى رد واحد على هذا السؤال، هو ما قلته، وهو أن خير طريقة لهذا الاستثمار هو الاستثمار الاجتماعي المعنوي الذي ذكرت لا الاستثمار المادي كما يمكن أن يفهم من كلمة (الاستثمار) وذلك لأن هذا الاستثمار المادي الأخير نحن في غنى عنه بما لدينا من أيد عاطلة عديدة أحق بالتشغيل من جهة، وعدا ذلك فإن استثمار نهضة المرأة المصرية اجتماعيا يركز حياتنا العامة ويسيرها في طريق التطور المرجو غير بطيئة ولا وجلة

ويبدو لنا من أخبار الغرب التي يحملها إلينا البريد الأوربي الأخير من أن العالم قد بدأ يحس مدى خطئه في قصر تعليم المرأة على ثقافتها فحسب دون العناية بالغرض الأساسي الذي خلقت له؛ فهذي الآن فرنسا تحارب فكرة إعطاء الحقوق السياسية للنساء ومساواتهن بالرجال؛ وها نحن أولاء نرى ألمانيا وإيطاليا تضمان في جملة أنظمتها الجديدة أن تعود المرأة إلى سالف عصرها من التزام البيوت والقيام على تربية الأطفال، ومنعهن ما أمكن من تعاطي أعمال الرجال. وقد قرأنا للأستاذ محمد كرد علي ملخصاً لكتاب ظهر أخيراً في فرنسا حول هذا الصدد للدكتور روبرتوش بدأه بكلام لثلاثة من مشاهير الكتاب أحدهم تيودور جوران قال: (إن رفعة المرأة بلية صدرت إلينا من البلاد الأجنبية ولا سيما من أمريكا وجرمانيا وبلاد الشمال، وكان هذا النفوذ المتألف من كل غريب يكفي أن يكون منه إنتاج قد يتلاءم مع تركيبنا الفرنسي) وقال روبر كبيو: (من السهل الدلالة على أن دعوى رفع شأن المرأة كانت أبداً وليدة المذهب الاشتراكي فقد نرانا نسقط فيها على أفكار اشتراكية بعينها، وعلى معان لهم وتغيرات، وعلى كلمات ما برح الاشتراكيون يرددونها مع سفسطات كانت ولا تزال مألوفة لهم، وما المرأة إلا أعدى عدو لرفعة شأنها، فهي موقنة بأنها تخسر من نفوذها الخاص أربعة أضعاف ما تربحه من نفوذها العام، ولا يتأتى مما ترمي إليه إدخال أدنى إصلاح على النظام الاجتماعي) وقال الثالث تينابر (إن حقوق النساء وتحريرهن الأدبي هذا حسن وجميل، ولكن يا سيداتي حررن أنفسكن أولاً من الخياطة، فإن لم تكن لكن هذه الشجاعة فلا تطالبن إلى أن تحصلن على ما بقى) وقد استعرض المؤلف في كتابه نهضة المرأة نشأتها إلى اليوم وحللها تحليلاً دقيقاً عاب عليها عنايتها بثقافتها دون الغرض الرئيسي الذي هيأتها له الطبيعة. من هنا نرى أن أعرق الأمم الغربية في النهضة النسوية قد بدأت تتحسس مدى خطئها في توجيه المرأة إلى غير ما خلقت له ولم يعد بين هاته الدول من أخذتها هذه المدنية الطاغية عن جادة الطريق سوى تركيا الحديثة التي خالت أنه لم يبق بينها وبين مساواة العالم المتمدين سوى هذه الغلطة الاجتماعية النسائية فأبت إلا أن تشرب الكأس حتى الثمالة، وما أشك أنها ستجني ثمرة هذا التقليد الأعمى علقما وصابا كما جنته براقش

قدر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا جبلاً عن غرة زلجا

ولنتدبر نحن في المستقبل قبل أن نخطو إليه، ولنتبين من أي طريق تسوق المدنية الغرور، ولنستمع صوت الطبيعة الغضبى تصرخ في وجوهنا: لقد خلقت المرأة لتكون نظام الأسرة وتكمل الشطر الثاني من حياة الرجل، وتقدم له وللعالم كأس السعادة مترعة هنيئة، فلا يخلبنكم بريق المدينة الخادع الكاذب فتعبثوا بنظمي وتقلبوها رأساً على عقب، لا يصيبكم ما أصاب من قبلكم من المتعنتين المستكبرين. . .

وبعد. . . فهذا رأيي في استثار المرأة المصرية للخير العام أدلي به راجية أن أكون بذلك قد أرضيت الواجب والضمير، وإن كنت قد عرضت نفسي للوم البعض من سيداتي المثقفات ممن يرين في الحياة غير رأيي، ولا يفوتني هنا أن أهمس في آذان هؤلاء أنه خير للمرأة من حياة زوجية سعيدة يحفها البنون وترف عليها الهناءة من مجد عريض يكلل هامتها ووسام نبيل تحمله. ذلك لأن المرأة خلقت للرجال والرجل خلق للعمل، وأن مجد المرأة حداد ظاهر على إسعادها كما قالت مدام دي استال، فلا تغامروا بالمرأة في تجربة قد أدرك العالم المتمدين خطأها ولا تستثمروها في غير ما خلقت له وإلا تكونوا كطالب الماء من الصخر، أو مستنبت الزرع في المهمه القفر

ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار!!

فتحية عزمي