مجلة الرسالة/العدد 145/الخصيان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 145/الخصيان

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1936



أصل العادة وتاريخها وانتشارها

للدكتور مأمون عبد السلام

هوت الغيرة الجنسية بالإنسان إلى دركة ما دون الوحوش، فوسوس إليه الشيطان أن ينتزع الرجولة من الأبرياء ليتخذهم خداماً يأتمنهم على عرض نسائه وحفظة لطهارتهن. هذا هو الأصل في اتخاذ الخصيان. وهي عادة لجأ إليها الصينيون والهنود والبابليون والفرس من عصور خالية، فقد أخبرنا هيرودوت بما كان للخصيان من السطوة في دولة الفرس في عهده

وقد عرفهم العرب من قديم فقالوا: (خصي بصي ومخصي، وتقول العامة طواشي، وهي كلمة مولدة ليست من كلام العرب. فقد كان من عادة العرب الجاهلية أن يخصوا أسراهم كما كان يفعل قدماء المصريين؛ وتجد ذلك مصوراً على جدران مدينة حابو، وكما يفعل الأحباش الآن. وهذه العادة قديمة في مصر، فقد عثروا في هرم أوناس على مخطوط عرف منه أن حوريس سل خصيتي سيت. وقد اتخذ الفراعنة الخصيان في قصورهم فبلغوا من النفوذ والسطوة ما حدا بهم إلى قتل أمانيميس وهو الفرعون الثاني من العائلة الثانية عشرة

ونظراً للاعتقاد السائد بأمانة الخصيان فقد أطلق اسم الخصي على أمناء فرعون وملوك بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التكوين (1: 39): (وأما يوسف فأنزل إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط) وكلنا يعلم أن فوطيفار وهو العزيز كان متزوجاً وقد راودت زوجه يوسف عليه السلام عن نفسه فأبى واستعصم

وقد اتخذ بنو إسرائيل الخصيان كما ذكر في الكتاب المقدس (الملوك الثاني 32: 9 - 33 و15: 24 وأخبار الأيام الأول 1: 28 وإستير 1: 6 - 2) وقد حرمت التوراة اتخاذ الخصيان وخصاء الحيوان، فقد جاء في سفر التثنية (1: 23): لا يدخل مخصي بالرض أو محجبوب في جماعة الرب. وجاء في سفر اللاوبين: ومرضوض الخصية ومسحوقها ومنزوعها ومقطوعها لا تقربوا للرب

وقد أخذ الإغريق هذه العادة عن الشعوب الأسيوية التي غزاها الاسكندر المقدوني فانتشرت بينهم بعد موته؛ واسم الخصي عندهم يونوقوس (ومنها الكلمة الإفرنجية بونوق (واشتقاقها من يونو بمعنى الفراش وايقيون بمعنى الحارس أي حارس فراش الزوجية

وقد أدخل هذه العادة هليو جابال إلى رومه في عهد الإمبراطورية أي في نهاية القرن الثالث وتفشت بعد ذلك في الدولة البيزنطية

وقد حتمت بعض العبادات الخصاء على اتباعها ليتفرغوا للتعبد كما كان يفعل كهنة الهياكل الوثنية السورية القديمة

وقد جاء ذكر الخصيان في إنجيل متي (12: 19): (لأنه يوجد خصيان ولودوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل) وقد اعتمد بعض المسيحيين المتقدمين على هذه الآية وخصوا أنفسهم ليتحرروا من الوقوع في الخطيئة. وأول من فعل ذلك أوريجانوس الإسكندري المولود سنة 185 أو سنة 186 ميلادية، وقد أحسن أبوه تهذيبه فتلقى العلم على أكابر علماء المسيحية أمثال بانطينوس وكليمان في المدارس الكاتدرائية وهي مدارس دينية كانوا يتلقون فيها الفقه المسيحي والعلوم الإغريقية (على نحو الجامعة الأزهرية في الإسلام)؛ وقد خصى نفسه زهداً منه في الحياة الدنيا ورغبة في تلقين النساء العلم. وقد قضى ثمانية وعشرين عاماً بالإسكندرية رحل خلالها إلى رومه وإنطاكية وبلاد العرب خدمة للدين والعلم

وقد اقتدى الكثير من المسيحيين بأوريجانوس فظهرت في القرن الثالث المسيحي فرقة الفليسيين نسبة إلى فيلسيوس العربي رئيسهم الذي قال إن الخلاص لا يتم إلا بالخصاء؛ فكانوا يخصون أنفسهم ومن يقع في أيديهم تقرباً إلى الله تعالى. وقد ثبت المجمع النيقادي الذي عقده الإمبراطور قسطنطين الخصاء في قوانينه فاستمرت العادة بين بعض الطوائف المسيحية حتى حرمها البابا ليو الثالث عشر

ورغماً عن ذلك فقد استمر بعض الروسيين إلى أول الثورة الشيوعية على اتباعها، فقد كان منهم فرقة من الخصيان المتعبدين اسمها سكوبسي أي الخصيان

وكان من عادة الطليان أن يخصوا الأولاد قبل البلوغ ليحافظوا على نعومة أصواتهم وحدتها للغناء في الكنائس والمسارح إذ كانوا يمنعون النساء من مزاولة ذلك. فحرم هذه العادة البابا اكليمنس الرابع عشر ولكنه لم يتمكن من إبطالها حتى في رومه عقر داره ويحرم الدين الإسلامي الخصاء في الإنسان والحيوان، وورد في ذلك أحاديث؛ وقد اعتبر أبو العباس رضي الله عنه الخصاء عملية شيطانية يحرمها المولى

وقد دفعت أبهة الملك معاوية بن أبي سفيان فجارى ملوك الروم في اتخاذ الخصيان فكان أول من أتخذهم في الإسلام كما ذكر المسعودي. ومن ثم تفشت هذه العادة في الدول الإسلامية وخاصة عند بني عثمان وعنهم أخذنا كلمة (أغا) للخصي، وأصل الكلمة أقا بالفارسية بمعنى السيد؛ ويعني بها العثمانيون الأخ الأكبر وصف الضابط ورئيس فرقة الانكشارية، ثم أطلقت على الخصي، وقد انتشر هذا الاسم في ممتلكات آل عثمان كالشام ومصر والجزائر وغيرها

وكان جميع خصيان مصر وشمال إفريقيا وبلاد العرب والشام وتركيا من السود والحبشان، وأصلهم من الرقيق يخصونهم في بلدة باجرمي بالسودان

وقد تكلم عن الرقيق بمصر بورخهاردت وهو رحالة سويسري كان في خدمة الإنجليز جاء إلى مصر وقام في 22 فبراير سنة 1813 من أسوان إلى بلاد النوبة، وكان يحكمها إذ ذاك أولاد حسن كاشف الثلاثة، فذكر أن بورغو غرب دارفور كانت مكان خصاء الرقيق ومنها كان يحملون إلى سواكن ومكة والمدينة ومصر، ولكن السواد الأعظم من الخصيان يرسلون إلى أوروبا وتركيا كانوا من الرقيق الذي كان يحمل إلى أسيوط، وكانوا يخصون في قرية تسمى زاوية الدير قرب أسيوط، وكان يقوم بهذه العملية راهبان من أهلها حازا شهرة كبيرة في ذلك. وكانا محط ازدراء المصريين جميعاً؛ ولكنهما كانا يقومان بهذه العملية تحت حماية الحكومة مقابل ضريبة سنوية يدفعونها

ونسبة الوفيات من الخصاء منخفضة بعكس ما قد يعتقد، فقد مات من جرائها اثنان من ستين ولدا خصوا في خريف سنة 1813، ولا تزيد النسبة في العادة على اثنين في المائة. وكانت عادتهم أن يقوموا بهذه العملية حال وصول القافلة من دارفور أو سنار ويختار لها الأولاد من سن الثامنة إلى الثانية عشرة الذين يمتازون بقوتهم وتناسق أعضائهم وذكائهم

وكانت أجرة العملية ستين قرشا. وقد بلغ متوسط ما كان يخصي بأسيوط مائة وخمسين خصياً في السنة، وكان ثمن الخصي بأسيوط في هذا العهد ألف قرش

ويقول بورخهاردت إنه في سنة 1811 أمر محمد علي باشا أن يخصي مائتا عبد دارفوري ليرسلهم هدية سنية إلى السلطان الأعظم بالأستانة. وقد روي أن الخصيان البيض قليلون بتركيا، وأنه رأى بالحجاز عدداً من الخصيان الهنود في خصوا في بلاد الهند وأرسلوا هدية إلى الحجاز

وقد رجع بعض العرب إبان الحرب الوهابية الأولى إلى عادتهم في الجاهلية وهي خصاء الأسرى، وذلك أن الشريف غالب أمير مكة أسر أربعين رجلا من قبيلة يمنية وهي قبيلة تدين بالمذهب الوهابي، وكان في حرب معهم فأمر بأن يخصوا ثم يفك أسرهم فماتوا من جراء ذلك سوى اثنين رجعا إلى قبيلتهما بعد أن التأمت جراحهما؛ وقد امتلأ قلباهما بالحقد والضغينة فقتل أحدهما ابن عم الشريف غالب في إحدى المعارك، وأما الآخر فقتل وهو يحاول اقتحام خيل الشريف ليقتله بنفسه

وينجم عن الخصاء أن يبطل فعل الغدد الجنسية وخاصة إفرازاتها الداخلية التي لها تأثير كبير في التوازن الفسيولوجي والجنسي؛ ويكون التأثير على أشده في الصغار ويقل كلما كبر سن من يراد خصاؤه، فينمو الصبي المخصي كالأنثى فلا ينبت شعر وجهه، ويكون صوته رفيعاً وعظامه كعظام النساء وعضلاته لينة ويتضخم عجزه، ويصبح أكثر ميلاً إلى الدس والإيقاع. ويكون التأثير في البالغ أقل ظهوراً فيضعف شعر الذقن أو قد يختفي، ويتغير الصوت. ويتعرض الرجل بعد الخصي لاضطرابات عصبية شديدة ولأفكار سوداوية تنشأ عن جمود العاطفة الجنسية، أما إن خصي الرجل وهو كهل فالتغير لا يكون ملموساً

وقد يتسرب إلى الذهن أن الخصاء يضعف من حدة العقل والشجاعة وهذا خطأ محض، ففي التاريخ أدلة تثبت ما كان للخصيان من القوة والبأس والتبحر في العلوم وعلو الباع في سياسة الأمم وقيادة الجيوش. فمن الخصيان الذين خلد التاريخ أسماءهم باغوص الفارسي الملقب بصانع الملوك، وفافورينوس الفيلسوف صديق بلوطارخ، وأرسطو نيقوس القائد البطليموسي، وفوطين وزير بطليموس، وأيوتروب وزير اركاديوس

وكان للخصيان شأن عظيم في عهود كثيرة من التاريخ الإسلامي وخاصة بمصر فكان أظهرهم الأستاذ أبو المسك كافور الاخشيدي الذي انتزع الملك لنفسه وخطب باسمه على المنابر، ثم الطواشي محسن الصالحي، والطواشي صبيح في آخر عهد الدولة الأيوبية. وقد أشار إليهما المرحوم ميخائيل بك شاروبيم في كتابه (الكافي) عند كلامه عن أسر المصريين لملك فرنسا فقال إنه لما اشتد الأمر على الفرنسيس وقلت عندهم الأقوات وصعب لذلك عليهم المقام قبالة المسلمين رحلوا يريدون دمياط فاقتفى المسلمون أثرهم فانحاز الملك لويز بمن معه من الملوك والأمراء إلى بلد هناك وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي ثم غدر بهم وأحضرهم أسرى إلى المنصورة فقيد الملك لويز وجعله في دار كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان وآثارها لا تزال باقية إلى الآن وقد تهدم أكثرها ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، وفي ذلك يقول الشاعر مهدداً الفرنسيس:

دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح

وليس أمر خليل أغا وما كان له من السطوة في عهد إسماعيل عنا ببعيد.

مأمون عبد السلام