مجلة الرسالة/العدد 141/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 141/البريد الأدبي
الأرحام المبلولة
أنكر علينا الدكتور زكي مبارك في (البلاغ) قولنا في افتتاحية العدد 139 من الرسالة: (وأيبست الأرحام المبلولة)، وظن أن الذي ورطنا في وصف هذا الموصوف بهذه الصفة إنما هو حرصنا على هذه السجعة التافهة! ومعاذ الله أن نكره كلمة على غير موضعها طمعاً في زينة لفظية نعتقد أن خصيصة الجمال فيها جريانها مع الطبع والصدق
لعل إنكار الأستاذ أن يكون آتياً من إحدى جهتين: إما استعمال اللغة
وإما مراعاة الذوق. فأما اللغة فحسبنا أن نورد هنا ما ذكره (لسان
العرب) ولا نزيد عليه. قال في مادة (بلل) (. . . وبل رحمه يبلها بلا
وبلالا: وصلها. وفي حديث النبي ﷺ: بلوا أرحامكم
ولو بالسلام، أي ندُّوها بالصلة. قال ابن الأثير: وهم يطلقون النداوة
على الصلة كما يطلقون اليبس على القطيعة، لأنهم لما رأوا بعض
الأشياء يتصل ويختلط بالنداوة، ويحصل بينها التجافي والتفرق باليبس،
استعاروا البل لمعنى الوصل، واليبس لمعنى القطيعة، ومنه الحديث:
فإن لكم رحماً سأبلها ببلاها: أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من
الله شيئاً. . . أبو عمرو وغيره: بللت رحمي أبلها بلا وبلالا: وصلتها
ونديتها. قال الأعشى:
أما لطالب نعمة تممتها ... ووصال رحْم قد بردت بلالها
وقال الشاعر:
والرحم فابللها بخير البُلان ... فأنها اشتقت من اسم الرحمن
وأما الذوق فهناك ذوقان: ذوق أبناء العرب، وذوق (أبناء البلد)، فأما ذوق أبناء العرب فقد رأيت حكمه في هذا الاستعمال من وروده في الحديث والشعر، وتسجيله في معاجم اللغة وكتب الأدب؛ وأما (ذوق أبناء البلد) فقد يجد فيه شيئاً، ولكنه الشيء الذي يجده العامي في مثل قوله الله تعالى: (آتوني زبر الحديد) أوفي مثل قول الشاعر: (ومن يك) ومثل هذا الذوق العابث ينبغي أن نراعيه إلى حد ما، وإلا ذهب كلام الناس كله هزؤاً بين (نكتة) و (قافية)
كلمة قصيرة اختلستها من المرض الملازم يا دكتور فمعذرة
الزيات
الحركة الأدبية
حفلت القاهرة في الأيام الأخيرة بمجالس العلم والأدب، فكأنها سوق من أسواق الكلام التاريخية في أزهى عهوده وأحفل أيامه، فأنت لا تنفك آخر النهار وأول الليل تسمع أبلغ الخطب وأجود القصائد وأنفس المحاضرات في حفلات الترحيب وموائد التكريم وقاعات الثقافة، وقد كان لوفود إخواننا الفلسطينيين والعراقيين أثر قوي في هذه الحركة. ولقد قام (أسبوع المتنبي) الذي أعدته الجامعة المصرية في المكان والأزمان التي أعلناها من قبل، وكان ما سمعناه إلى اليوم من المحاضرات التي ألقيت فيه فخراً لكلية الآداب تستحق عليه التهنئة؛ وعسى أن يساعدنا التوفيق فنثبت شيئاً منها في أعدادنا المقبلة
مديرية أسوان
قرأت في عدد الرسالة 139 نقدا على بعض ما جاء في مقالي عن مديرية أسوان يدور
(1) على أن بلاد (بنت) هي في آسيا من بلاد الفينقيين. وهذا خطأ، والصواب أنها كما ذكرت في أفريقيا، وموضعها الآن المنطقة المعروفة بالصومال الفرنسي والإرترية؛ وقد بينها الأستاذ برستد على الخريطة في كتابه صفحة 102
(2) اعترض على كلمة (أثيوبيا) اعتراضاً غير وجيه، فأن أثيوبيا كلمة يقصد بها الأراضي الواقعة جنوب مصر، وهي كلمة يونانية استعملها هيرودوت، واراتستين، وبطليموس، وبينوها على خرائطهم. (انظر كتاب الأستاذ كلتي المسمى الفصل الأول وعنوانه
(3) ذكر أن تسمية الهيكل الموجود بجهة كلابشه منذ عهد رمسيس الثاني باسم بيت الولي خطأ وأن الصواب الوالي، وقولنا الأصح لأن الغرض من الولي هو القديس لاعتبارات تتعلق بتاريخ مصر القديم لا يجهلها أحد. والمهم أن يذكر الناقد النص الذي يعتمد عليه، والمرجع الذي يرجع عليه، حتى يكون على كلامه مسحة من الثقة. ذلك ما عنانا أن نرد عليه من النقد، أما ماعدا ذلك فلا قيمة له
رشوان أحمد صادق
ذكرى مأساة غرامية شهيرة
تعنى الأوساط الأدبية الفرنسية دائماً بتتبع الحوادث والذكريات الأدبية، ومن ذلك ما نوهت به بعض الصحف الأدبية أخيراً من مرور مائة عام كاملة على صدر كتاب لمؤلفه مكانة خاصة في الأدب الفرنسي. وذلك هو كتاب (اعترف طفل من أبناء العصر) ' لمؤلفه الشاعر الغنائي الفرد دي موسيه. وفي هذا الكتاب يعرض الشاعر فصلاً ساحراً محزناً معاً من حياته العنيفة المضطربة، ذلك هو قصة غرامه مع الكاتبة القصصية الشهيرة جورج ساند؛ وقد كانت هذه الكاتبة التي تضطرم شغفاً وجوى تهيم في غمر الحب بلا انقطاع، وتتقلب تباعاً بين أذرع عشاقها المتوالين؛ وكان جلهم من كتاب العصر ومفكريه؛ وكانت قبل هيامها بالشاعر خليلة لجول ساندو الكاتب، ثم هامت من بعده بالشاعر ميرميه، ولكن حبهما لم يكن سوى مأساة قصير المدى. وفي ذات يوم من أيام أبريل سنة 1833، كانت جورج ساند تتناول طعام العشاء في حفل راق، وكان جارها فتى أنيقاً يحدثها بحرارة عن بعض قصصها؛ ولم يكن هذا الفتى الأنيق سوى الفرد دي موسيه؛ وفي نفس المساء هامت جورج ساند بالشاعر الفتى، وبث إليها جوى يضطرم؛ ولم تمض أسابيع قلائل حتى غدت صاحبته، وغدت باريس بأسرها تتحدث بهذا الغرام الجديد؛ وبعد بضعة أشهر سافر العاشقان إلى البندقية؛ ثم تسربت بعد ذلك عوامل الوهن إلى غرامهما، وانتهت قصتهما الغرامية المشجية بعد أربعة عشر شهراً في آلام ومعاناة، وأوحت هذه المأساة الغرامية إلى الشاعر موضوع كتابه الأشهر (اعترف طفل من أبناء العصر). ولم يخطئ أهل العصر في فهم ما قصد إليه الشاعر وما يعنيه بطريقة مستورة؛ ولم تحاول جورج ساند يومئذ أن ترد عليه أو تثير حول الموضوع أية مناقشة، خصوصاً وأن رواية دي موسيه كانت على ما يظهر تصور الحقيقة كما هي، ولهذا اعتبرت يومئذ هي القول الفصل
ولكن الشاعر لما توفي بعد ذلك في سنة 1850، رأت جورج ساند أن تقول كلمتها في مأساة غرامها؛ فكتبت كتابها المسمى (هي وهو) تصحح فيه بعض الوقائع والتفاصيل، فأثار كتابها يومئذ فضيحة أدبية واجتماعية؛ ورد عليها بول دي موسيه ولد الشاعر في كتاب عنوانه (هو وهي)
ومن ذلك الحين ظهرت عشرات الكتب والقصص عن علائق العاشقين الشهيرين؛ وأشهر هذه الكتب وأقيمها هو بلا ريب كتاب شارل موراس الكاتب الكبير ومحرر جريدة (لاكسيون فرانسيز) وعنوانه (عشاق البندقية) ومع ذلك فلم يكن هو الكتاب الفصل في أمر هذه العلائق الدقيقة بين شخصيتين من أعظم شخصيات القرن التاسع عشر؛ فقد ظهرت بعد ذلك مكاتبات ووثائق لم تنشر من قبل وفيها حقائق وتفاصيل جديدة تلقي ضياء جديدا على تلك المأساة الغرامية الشهيرة
بيد أنه مما يلفت النظر أن هذه المكاتبات والوثائق الجديدة تؤيد رواية دي موسيه في مجموعها، وأن جورج ساند قد عمدت قصداً إلى تغيير بعض الحقائق والتفاصيل في كتابها (هي وهو)
مؤسس الأدب اليهودي الشعبي
تحتفل الدوائر اليهودية الأدبية بذكرى أديب يهودي كبير هو منديل سفوريم مؤسس الأدب اليهودي الشعبي وقد ولد هذا الأديب في إحدى بلاد لتوانيا منذ مائة عام كاملة في سنة 1836؛ واسمه الحقيقي هو شولم يعقوب ابراموفتش؛ ودرس الأدب والعلوم قراءة لأنه لم يظفر بتربية مدرسية منظمة؛ وكان الشعب اليهودي يعيش يومئذ في روسيا في ظل طغيان مطبق ويعاني أمر ضروب الاضطهاد والزراية والفاقة؛ وكانت قد ألفت في ذلك الوقت جمعية من الشباب اليهود المتنور تسمى (مسكليم) أعني الطلائع المثقفة وغرضها أن تعمل لإدخال الأفكار والمدنية الغربية إلى طوائف الشعب اليهودي التي ما زالت تعيش في ظل تقاليدها العتيقة؛ فانضم منديل سفوريم إليهم؛ وكان الكتاب اليهود يكتبون يومئذ إما بالروسية وإما بالعبرية، فسار منديل في أثرهم وأصدر أول كتبه بالعبرية، ولكنه لاحظ أن سواد الشعب اليهودي يتحدث باللغة اليهودية وهي مزيج شعبي من الألمانية المحرقة وعناصر أخرى عبرية وروسية وغيرها، ورأى أن غزو أذهان هذا الشعب لا يكون إلا بمخاطبته بلغته الأصيلة؛ عندئذ فكر منديل في الكتابة باليهودية؛ وكان عملا شاقا لأن هذه اللغة لم تكن لها أصول نحوية أو لغوية، وإنما كانت لغة الحديث الطائر. ولكن منديل كان فناناً ذا مواهب ممتازة، فاستطاع أن يخرج هذه اللغة الشعبية لغة أدبية تصلح للكتابة والقراءة؛ وكتب فعلا باليهودية لأول مرة؛ ووصف للشعب اليهودي حياته المظلمة العتيقة، وذلته الخالدة، وبؤسه المطبق؛ وأخذ يبث إليه روح النهوض والتحرر، وذلك في روايات شعبية جذابة. ولم يستطع كاتب يهودي غير منديل أن يصف نقائص أمته بمثل قوته وجرأته ودقته، فقد وصف طوائف الشعب اليهودي، الأغنياء والفقراء ورجال الدين والمفكرين وصفا قويا، ولم يخف نقيصة أو مأخذا، بل كان شديد الوطأة عليهم جميعاً، لا يذلله ويستدر شفقته سوى بؤس الشعب اليهودي
ولمنديل سفوريم عدة قصص شهيرة منها (الفرس) (رحلة بنيامين) (تروا) (خاتم السعادة) وفيها يصف المجتمع اليهودي في خلال القرن التاسع عشر في مختلف صوره؛ وفي قوة وصراحة لم تعرفا من قبل؛ ومن الغريب أنه استطاع أن يجعل من هذه اللغة اليهودية المبعثرة أداة قوية فصيحة للتعبير الحي؛ وأن يقود الطريق لجعلها لغة أدب يهودي جديد؛ وقد سار في أثره عدة من أكابر الكتاب اليهود في القرن التاسع عشر فكتبوا باليهودية، التي غدت في يومنا لغة أدب يهودي جديد
وتوفي منديل سفوريم في سنة 1917 وقد أربى على الثمانين بعد أن توطدت دعائم الأدب اليهودي الجديد الذي كان أول من وضع دعامته الأولى
وداع الحرية
يجد المؤرخ والقصصي معاً مادة بديعة في مصرع يوليوس قيصر؛ فقد كان حادثاً من أنبل وأعظم حوادث التاريخ، وكان بأدواره وتفاصيله قصة ساحرة. وقد صدرت أخيراً بالإنكليزية قصة عنوانها (وداع الحرية للكاتبة الإنكليزية فيليس بنتَلي، وهي قصة تاريخية رائعة، تستعرض فيها المؤلفة حياة قيصر ومجده الباذخ ومصرعه المفجع. وتصف لنا مس بنتلي خلال قصتها من الشخصيات الرومانية الشهيرة التي عاشت حول قيصر، وصادقته أو ناهضت مجده مثل بومبي، وكانو، وكراسوس، ثم بروتوس قاتل قيصر. ولم تجد الكاتبة أمامها كبير مجال للتوغل في ميدان الخيال، ذلك أنها إنما تعرض عصرا بحوادثه وأطواره، وتجد مادة غزيرة في التفاصيل التاريخية الكثيرة التي تقدمها إلينا الروايات المعاصرة والتواريخ القديمة. بيد أنها تجد أمامها مادة للحديث عن الأتوقراطية، والديموقراطية؛ وهي تحمل ما استطاعت على الأوتوقراطية وجميع مظاهرها وتمجد الحرية والديموقراطية؛ على أنها لا تجد ما تقوله في مديح تلك الديموقراطية الرومانية التي مات في سبيلها قيصر واتخذ امتهانها ذريعة لاغتياله. ونحن نذكر أن بروتوس وزملاءه المؤتمرين بحياة قيصر كانوا يعملون باسم الديمقراطية، ويتخذون من بعض مظاهر قيصر وتصرفاته حجة عليه بأنه يجنح إلى الإمبراطورية والحكم المطلق. وقصة مس بنتلي حسنة السبك من هذه الناحية، بيد أنه يمكن من جهة أخرى أن يقال إنها لم تقدم إلينا جديداً في الاستعراض أو الوصف، لأنها إنما تقتصر على الشخصيات والحوادث التاريخية الجافة. وهذا عيب نلمسه أحياناً في كثير من القصص التاريخية. ولكن مس بنتلي تقدم إلينا على أي حال قصة ممتعة تسحر بروعة أسلوبها