مجلة الرسالة/العدد 140/أندلسيات:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 140/أندلسيات:

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 03 - 1936


3 - ابن بسام صاحب الذخيرة

والشاعر أبو مروان الطُّبْني

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

أَلاَ يحسن بنا بعد أن أوردنا ترجمة ابن بسام للشاعر أبي مروان الطبني أن نردفها بترجمة الفتح بن خاقان لهذا الشاعر حتى ترى فرق ما بين الترجمتين فتتم الموازنة بذلك بين هذين الأديبين من جهة، وحتى نوفي ترجمة هذا الشاعر حقها بما في ترجمة الفتح من زيادة على مما في ترجمة ابن بسام من الجهة الأخرى. نعم، قال الفتح في المطمح في حق الطبني: من ثنية شرف وحسب، ومن أهل حديث وأدب، إمام في اللغة متقدم، فارع لرتب الشعر متسنم، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق، ثم عاد وقد توج بالمعارف المفرق، وأقام بقرطبة علماً من أعلامها، ومتسنما لترفعها وإعظامها، تؤثره الدول، وتصطفيه أملاكها الأول، ومازال فيها مقيما، ولا برح عن طريق أحانيها مستقيما، إلى أن اغتيل في إحدى الليالي بقضية يطول شرحها، فأصبح مقتولا في فراشه، مذهولا كل أحد من انبساط الضرب إليه على انكماشه؛ وقد أثبت من محاسنه ما يعجب السامع، وتصغي إليه المسامع؛ فمن ذلك قوله:

وضاعف ما بالقلب يوم رحيلهم ... على ما به منهم حنين الأباعر

وأصبر عن أحباب قلب ترحلوا ... ألا إن قلبي سائر غير صابر

ولما رجع إلى قرطبة وجلس ليرى ما احتقبه من العلوم، اجتمع إليه في المجلس خلق عظيم، فلما رأى تلك الكثرة، وماله عندهم من الأثرة قال:

إني إذا حضرتني ألف محبرة ... يكتبن: حدّثني طوراً وأخبرني

نادت بمفخرتي الأقلام معلنة ... هذي المفاخر لا قعبان من لبن

وكتب إلى ذي الوزارتين أبي الوليد ابن زيدون:

أبا الوليد وما شطت بنا الدار ... وقلّ منا ومنك اليوم زوّار

وبيننا كل ما تدريه من ذمم ... وللصبي ورق خضر وأنوار وكل عتب وإعتاب جرى فله ... بدائع حلوة عندي وآثار

فاذكر أخاك بخير كلما لعبت ... به الليالي فان الدهر دوار

عود إلى الذخيرة

(وأما بعد) فقد آن لنا أن نعود إلى القول على كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وهو الأثر الفذ الباقي للمترجم له أبي الحسن علي بن بسام؛ ولولا أن لهذا الكتاب شأناً غير شأن سائر نظائره لما عرضنا للقول عليه والتعريف به، إذن لنلق عليه نظرة ليس منها بد؛ ولا سيما بعد أن بشرنا صديقنا الأستاذ الكبير محمد كرد علي بك بأن هناك لجنة من أفاضل المستشرقين تألفت برياسة العلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال لا خراج هذا الكتاب الضخم الخالد الذي حُرِمت منه المكتبة العربية هذا الزمن الأطول. . .

وضع قديماً أبو عبد الله هرون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي المتوفى سنة 288هـ كتاباً اسمه (البارع) في أخبار الشعراء المولدين جمع فيه مائة وواحداً وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار بن برد وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه، وقال في أوله: إني لما عملت كتابي في أخبار شعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي؛ والعلماء يقولون: دل على عاقل اختياره. وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله. وقال بعضهم: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من عقله، واختياره قطعة من علمه. وطول الكلام في هذا وذكر أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلاً فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر. ثم جاء بعده أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ ووضع كتابه (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب البارع؛ هذا ثم جاء أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المتوفى سنة 467هـ؛ وألف كتاباً اسمه (دمية القصر وعُصرة أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب يتيمة الدهر؛ ثم جاء أبو المعالي سعد بن علي الوراق الحظيري المتوفى سنة 568هـ وصنّف كتاباً أسماه (زينة الدهر)، وجعله ذيلاً على دمية القصر؛ وأخيراً ظهر العماد الكاتب الأصبهاني المعروف بابن أخي العزيز والمتوفى سنة 597هـ، ووضع كتابه المسمى (خريدة القصر وجريدة أهل العصر)، وجعله ذيلاً على زينة الدهر للحظيري. هذا في المشرق، وأنت فانك تعلم أن الأندلسيون كثيرا ما يحذون حذو المشارقة في سائر مناحيهم؛ ومن ثم نحوا نحوهم في وضع هذا النوع من التواليف، فوضع الأديب الكاتب الشاعر أبو عمر أحمد بن فرج - وكان معاصراً للخليفة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر - كتاباً اسمه (الحدائق) قدمه للخليفة المستنصر وعارض به (كتاب الزهور) لأبي محمد بن داود الأصبهاني ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً - وسنترجم لهذا الأديب - ثم جاء من بعده صاحبنا أبو الحسن علي بن بسام فوضع كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وجعله ذيلا على حدائق ابن فرج. وفي عصره صنف الفتح بن خاقان كتابي القلائد والمطمح، وجاء بعدهما الأديب أبو عمر بن الإمام وذيل على الذخيرة والقلائد بكتاب اسمه سمط (الجمان وسقيط المرجان) ذكر فيه من أخل ابن بسام والفتح بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة؛ وذيل على هذا الكتاب أبو بحر صفوان بن إدريس الكاتب الأندلسي الكبير بكتاب سماه (زاد المسافر) ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة. وهنا نذكر أن أكثر هذه الكتب مفقود كما أن هناك تواليف كثيرة من هذا القبيل لم نسمع بها فضلا عن أنها غير موجودة. فلقد أخبرنا الإمام أبو محمد بن حزم في رسالته التي يشيد فيها بفضائل الأندلس أن للشاعر الوشاح أبي بكر عبادة بن ماء السماء كتاباً في أخبار شعراء الأندلس أثنى عليه وقال أنه كتاب حسن معناه. وحدثنا أيضاً بأغرب من هذا وهو أن من بين الكتب التي وضعت للخليفة الحكم المستنصر كتاباً في أخبار شعراء (أًلبِيَره) في نحو عشرة أجزاء. . . فتأمل. . . ومما يتصل بهذا وما هو أقعد في باب الغرابة ما حدثنا به ابن حزام أيضاً من أن هناك شاعراً أندلسياً كان في عصر جرير والفرزدق اسمه أبو الأجرب جَعْونَة بن الصِّمّة الكلابي يقول ابن حزم في حقه: ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب في الشعر لم نباه إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما؛ ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين. وحكى ابن سعيد صاحب كتاب المغرب قال: إن عباس ابن ناصح الشاعر الأندلسي لما توجه من قرطبة إلى بغداد ولقي أبا نواس قال له أنشدني لأبي الأجرب قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته؛ فأين شعر هذين الشاعرين الأندلسيين العظيمين؟ إنا وا أسفاه لم نعثر لهما على شيء قط. . . . . . ثم وأين كتاب المسهب للحجاري، وكتاب المغرب لابن سعيد، وكتابا المبين والمقتبس لمؤرخ الأندلس الأكبر أبي مروان حيان ابن خلف!؟. . . وأين وأين. . .!؟

أين سكناك لا أين لهم ... أحجازا أوطنوها أم شاما

فاسألنها واجعل بكاك جواباً ... تجد الدمع سائلا ومجيباً

عبد الرحمن البرقوقي