مجلة الرسالة/العدد 14/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 14/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1933



الحمى داء ودواء

للدكتور أحمد زكي. وكيل كلية العلوم

الحمى من قديم الزمان عرض مخوف وطارق مرهوب، وكثيرا ما كان رسول الموت وقائد الحي تحدو ركبه الى وادي الفناء. ولكن في هذه الأيام القريبة الماضية نشأت فكرة أخذت تحل محلا ذا بال في رؤوس البحاث من الأطباء، أو رؤوس القليل منهم الذين لا تزعجهم غرابة الخاطر، ولا يصرفهم عن الأمر خروجه عن المألوف. ومحصول هذه الفكرة أن الحمى ذلك العدو القديم للحياة قد تنقلب، أو يمكن تأليفها وقلبها الى صديق نصير، فبدل أن تكون عوناً على الداء، تصبح عوناً على الشفاء، في بعض الأمراض التي عجز عنها الطب وحار فيها الأطباء.

وحكاية هذه الفكرة بسيطة بقدر غرابتها، ومنشؤها تافه بالرغم من خطورتها، وهي في ذلك جرت على سنة جرى عليها كثير عليها من المستكشفات التي غيرت من سطح الأرض، وتحكمت في مستقبل الإنسان. ذلك أنه منذ خمسة أعوام في معامل للكهرباء كبيرة مشهورة لاحظ مديرها المستر (وتني) أن المهندسين الذين كانوا يمكثون في مجال الكهرباء الأستاتيكية لناقلات الراديو ذي الذبذبات العالية، ولو زمناً قليلاً، يحترون وترتفع فعلا درجة حرارتهم. وأذاع المدير في تقرير له هذه الحقيقة، ولكنها لم تسترع اهتمام أحد في عالم الطب. ولحسن الطالع لم يكن (وتني) طبيباً فلم يأبه لهذا الخذلان، وكان يهوى الحقيقة أنى وجدها، وكان واسع الإطلاع كثير القراءة، فذكر أنه قرأ مرة أن العالم النمسوي الأستاذ (وجنار ياوديج) شفى عدة أشخاص مجذومين مشلولين من أثر الجذام المعروف بالزهري بأن أصابهم عامداً بداء الملاريا، وذكر أن هذا الحادث أثار مناقشات حارة بين رجال الطب في أوروبا، ثارت في سبب هذا الشفاء أهو الملاريا أم ظروف عارضة لا علاقة لها؟ وانتهى النقاش الى غير خاتمة.

ذكر (وتني) ذلك، وكان جاهلاً بالطب، وذكر أن الملاريا تصحبها حرارة عالية، فتراءى له في لمحة أن الحمى التي تصحب الملاريا ربما كانت هي السبب الأول في الشفاء، ذلك أنها تطبخ ميكروب الجذام فتهلكه. وتراءى له أنه لو صح هذا لكان للحمى التي تحدثها الكهرباء مثل هذه الصفة. على أثر هذا أستأجر خبيرة في علم وظائف الأعضاء أسمها الآنسة (هوزمر) فأثبتت له أن الفئران وأمثالها من الحيوانات القارضة يمكن أصابتها في المجال الكهربائي بأي قدر يراد من الحمى. وبعد ذلك أستخدم الدكتور (كربنتر) وهو بكتريولوجي ذو خبرة وأمانة، فعدى كثيراً من الأرانب بالجذام ثم وضعهم في المجال الكهربائي ليصيبهم بالحمى فشفاهم بذلك.

نشرت هذه الأبحاث منذ ثلاث سنين، كان من المنتظر أن تثير في عالم الطب عاصفة، ولكنها لم تثر إلا نسائم خفيفة، وسبب هذا أن الطب امتلأ في السنوات الأخيرة بأكاذيب كثيرة وشعوذة مهينة للعلم، صدرت عن علماء أو متعالمين، وعدا هذا فالجديد أينما سار يجر وراءه ظلاً من الريبة، ولاسيما إذا كان الجديد بالغاً في الغرابة، شديد المناقضة للمعروف، وقد تكون بساطته سببا لتهامه، وتعقده شفيعاً له الى قلوب الناس وعقولهم.

لم يجزع (كربنتر) للذي لقي من جمود القوم، وأخذ سبيله فبنى صندوقاً أشبه شيء بناووس الموتى، وأغرى قوماً يؤمنون بالتضحية في سبيل الخير بالدخول فيه، فاستطاع بالكهرباء أن يرفع درجة حرارتهم، لم يلبث قليلاً حتى وجد أنه بضغط زر أو إدارة عقرب يستطيع أن يتحكم في حرارة المريض رفعاً أو خفضاً مقلداً بذلك حمى الملاريا، ولم يلبث أن ذهب هذا العلاج بجنون ثلثي المرضى الذين عالجهم. ولكنه كان علاجاً مؤلماً شديد الوطأة، وهو فوق ذلك لا يؤتمن، لأن المريض أثناءه يتصبب عرقاً يتجمع يتجمع فتتركز الطاقة الكهربائية، فيحدث من هذا تفريغ ينشأ عنه شرر وبرق يحرق جلد المريض، ولعل جنون المرضى في الأحوال المذكورة كان رحمة، فلولاه لخافوا الألم ونظروا في العاقبة فاحجموا.

لو أن تجربة (وتني) وقفت عند هذا الحد لما قدر لها النجاح، ولكانت طرفة نفعها للعلم وللتاريخ فحسب، ولظل الطبيب الى الأبد يعالج هذا الداء بالزرنيخ، ذلك العقار السام الذي لا تؤدي القناطير منه الى شفاء تام لا شبهة فيه. ولكن في يوم شات مثلج من يناير عام 1931 بالولايات المتحدة بلغ رجلا من العلماء ما كان من أمر التجربة، ففكر فخال لساعته أنه لو صنع خزانة على مثال الناووس وأمَرَّ فيها تيارا من الهواء الساخن بقدر لبخر بذلك العرق المتساقط من المرضى فحماهم خطر الحريق. وبعد عشرة أشهر كان هذا العالم مع رفقة آخرين آثروا جميعا ستر أمرهم الى حين قد أتموا الخزانة في حجرة من مستشفى متداع ببقعة بغرب الولايات لا تسمى. وكان فاتحة أعمالهم أن وضعوا فيها ضحية من ضحايا الزهري (ولم تكن الخزانة تهيأت للهواء الساخن يمر فيها) ولكن الرجل كان في المرحلة الأخيرة من المرض يعاني كربه فلم يبال أحيّاً خرج من الخزانة أم ميتاً، ولعله رأى فيها وسيلة انتحار أضمره لا تصم ذويه من بعده، واليوم هذا الرجل حي يرزق إن كان يشكو شيئا فذلك انه لا يكتسب من عمل يومه بمقدار ما يحب.

وأدخل الهواء في الخزانة على درجة 50 مئوية وكانت هذه الحرارة تظن كافية لتجفيف قطرات العرق المتجمعة على أجسام المرضى، ولكن هذا الظن لم يتحقق كله، وعلى رغم ذلك جرى العمل على ما رسم بفضل مهندس شاب مخلص قيم على جهاز الهواء، وممرضات صبورات كن يبعثن من لطفهن وأنوثتهن وحنانهن الأمل والرجاء، في قلوب المرضى التعساء، وهم في الخزانة، في ألم من الداء وهول من الدواء.

وفي ذات أحد من الآحاد اشتعلت النار بالخزانة فانقض في نصف ساعة بناء عام، فكنت لا ترى إلا ركاما من فحم ورماد وأنابيب منصهرة وأسلاك ملتوية، والى جانب هذا الحطام المهندس الفتي والممرضات بعيون شاخصة حجبت أبصارها الدموع.

لم تستطع النار ولا الدمار اللاحق أن يضعف من همة تلك الرفقة الكريمة في صراعها في سبيل الخير. فلم يمض قليل من الزمن حتى أقاموا خزانة جديدة أقرب الى الغرض وأكثر إراحة للمرضى، وقد يكون بعض النفع من البلاء. وجاءت النقالة بعد النقالة تفرغ في الخزانة الجديدة حمولتها من أجسام أهلكها الجذام وأعقابه، وما لبث الكثير منهم أن خرج من المستشفى على رجليه يسعى كالناس يحدوه رجاء جديد في حياة جديدة. من ذلك شاب بلغ الزهري الى أعصابه وشرايينه فلم يكن يستطيع الحراك ولا إطعام نفسه. حم في الخزانة ثلاث مرات كل مرة خمس ساعات فاستطاع بعد ذلك أن ينال فمه بيده. وبعد الحمى الثامنة استطاع أن يقف لأول مرة على قدمين مرتعدتين، وذلك بعد عام من بدء العلاج، وهو الآن يزاحم الأحياء بالمناكب في الطرقات يسعى الى رزقه سعيهم الى أرزاقهم.

ومن ذلك طفل في التاسعة من عمره جاءت تقوده أمه لأن الزهري كان أصاب عينيه فلم يكد يفرق بهما بين نور النهار وظلمة الليل، حم تسع مرات فارتد إليه بصره كما كان.

وعولج اثنا عشر مريضاً ممن شل الزهري أجسامهم وذهب بعقولهم فعاد إليهم جميعا صوابهم إلا واحداً. وعولج آخرون ظاهرهم الصحة وفي دمائهم خبث المرض فتطهروا بعد الحمى من الداء الدفين النائم الذي قد يستيقظ يوماً من أيام العمر فيودي بصاحبه بعد أن يذيقه ألوان الشقاء.

وتتجه الأبحاث في الوقت الحاضر الى محو مرض الزهري وهو في أدواره الأولى قبل أن يستقر الميكروب في جثمان المريض ويتغلغل فيه الى حيث أصول الحياة ومنابتها، وقد لا يمضي عقد من الزمان حتى يمكن تأمين ملايين البشر من هذا البلاء الذي لا تزيده الأيام إلا انتشاراً، ففي أمريكا وحدها نحو من عشرة ملايين مسهم هذا الوباء، أما بالعدوى وأما بالوراثة. وفي مصر يفتك الداء في ذوي الخطايا والأبرياء على السواء، وهو في مأمن من الإحصاء.

وسوف تقوم دون انتشار هذا الجهاز الجديد عقبات، منها انه غالي الثمن فليس في استطاعة كل مطبب حيازته، ومنها انه معقد ككل جهاز في أول نشأته، ومنها أن التطبيب به ليس من الأمور اليسيرة إلا في أيد خبيرة قديرة، وبقوامة ممرضات لبقات صبورات تدربن خصيصاً لهذا العلاج الجديد. وهي كلها عقبات هينات عرفت حيلة الإنسان كيف تتخطى الألوف من أمثالها، وإنا لما تأتي به السنون لمرتقبون.