مجلة الرسالة/العدد 139/شباب العراق في مصر
مجلة الرسالة/العدد 139/شباب العراق في مصر
قل لأولئك الذين زعموا أن مصر نَبَتْ على العروبة فقطعت الأسباب الموصولة، وأيبست الأرحام المبلولة: تعالوا فانظروا كيف بَثَّتْ بالعراق بشاشة الألفة، ورفَّت لبنيه رفيف القرابة، وأشبلت عليهم أشبال الأمومة! تعالوا فأسالوا شباب الفراتين: هل كانوا على ضفاف النيل في ارض غير أرضهم، وقوم غير قومهم، وبيئة غير بيئتهم؟ لقد كان إقبالهم على محطة لقاهرة كإقبال الربيع، واستقبالهم فيها كاستقبال العافية! نزلوا من القطار على أكتاف البهاليل من شباب النيل، وحلوا في قلوب الميامين من رجال الوادي، وهتفت الجموع الحاشدة بأسمى فؤاد وغازي، وجرت الألسن الخاطبة بلفظي القرابة والوحدة، وتلاقت العواطف الظامئة على وِرْدي الإخاء والمودة. ودخل الطلاب العراقيون في غمار الألوف المتهللة، فتجاذبت الدماء، وتمازجت القلوب، وتعاطفت الذكريات، وتجاوبت الأماني، وترجمت اللغة! ثم كانوا طوال الأسبوع المنصرم غبطة القاهرة وبهجة الأندية وحديث الصحف، يظلون من مطلع النهار إلى مقطع الليل غرقى في احتفاء المدينة بين ترحيب يومض في العيون، وتسليم يفتَرُّ في الشفاه، وإعجاب يدوِّي في الأكف، وكرم يفيض على الموائد، ثم لا يسعفون كل مَشُوق لسعة الحركة ولا يجيبون كل داع لضيق المدة
والحق أن الشباب العراقيين كانوا كما قال الدكتور محجوب: طاقة من شتيت الزهر النضير قدمتها بغداد إلى القاهرة في العيد! مثلوا العراق في الرجولة والعزة، ومثَّله الأستاذ منير القاضي في الوقار والنبل، فكانوا بهذا المظهر الجميل دليل اليقين لمن يطيع في أمتهم الشك، وشاهد الاطمئنان لمن يعقد على نهضتهم الأمل!
كان مبعث الجفاء بين أقطار العرب انقطاع الأسباب وبُعدِ الشقة؛ ثم غشيت كل سماء من سمواتها الزُّهر غمةٌ من أطماع الغرب، حجبت عن العيون الضياء، وعن النفوس الصفاء، وعن العقول المعرفة، فذهب القوم أشتاتاً يتلمس كل امرئ في الظلام طريقه! حتى إذا استيقظ في الوجدان شعور العروبة، وعاد فأشرق في الأذهان نور الدين، أبصرنا فإذا بيننا من بغى الإنسان حواجز تتقاصر عندها الخطى، وتتناكر دونها المعارف!
أزيلوا قائم الحدود، وجدوا دارس الطريق، تتلاق الوجوه وتتعارف الاخوة؛ واعملوا ما يعمل في العراق رسول الوحدة ياسين، وفي مصر أمثال الوزير محمد علي، والز طلعت حرب، تجدوا الاتحاد العربي جارفاً كدعوة محمد، سريعاً كفتوح أمية، خصيباً كحضارة العباس!
هذه هي مصر الصحيحة يا شباب الرافدين! لا يزال دينها دينكم، ولغتها لغتكم، وهواها هواكم! أنها لم تركم ولم تروها لأنها في جوف الحوت! وهأنتم أولاء تسمعون حشرجتها الأليمة في حلقه، وستجيش بين معدته وأضراسه جَيَشان السم الزعاف حتى يلفظها حيةً سليمة كيونس! حينئذ تتجه (ابنة الشمس) إلى مطلع الشمس! وهناك يكون مجد العرب اليوم كما كان هناك مجدهم بالأمس! وليس الشرق موطن الديانات والمدينات بضيق ولا جديب
إن الأرض لتُزَلزَل في كل مكان بالدخيل يا بَنِي (الهلال الخصيب)! وإن تاريخ الجدود لينبجس فواراً حاراً من صحون المساجد الجامعة! هل تذكرون ثورة بغداد في جامع الحيدرخانة؟ هل رأيتم غضبة دمشق في الجامع الأقصى؟ هل علمتم وثبة القاهرة من الجامع الأزهر؟ إن لذلك معنى عجيباً لا يندُّ عن خاطر ولا يلتوي على ذهن، ذلك أن المنارة التي يذكر عليها اسم الله، وأن المحراب الذي يقوم فيه الدين، لا يزال هو الركن الذي يأوي إليه الحق، وإن الإسلام الذي ألف شتيت البدو في الأول، هو النظام الذي يجمع شمل العرب في الآخر!
لقد كانت زيارة الطلاب العراقيين فرصة ميمونة لتوثيق الصلات التاريخية المقدسة، صافحونا بالأيدي، وخاطبونا بالألسن، وسمعونا بالآذان، فانمحت الفوارق العارضة، وانجابت الحجب الكثيفة، واستبان أن الخيال جانٍ على الحقيقة، وإن السماع كاذب على العِيان، وإن الوحدة المستحيلة أمر من الواقع!
نعى البرق شاعر العراق الزهاوي والمصريون والعراقيون في حفلة اتحاد الجامعة، فكان وقع المصاب في نفوس الفريقين واحداً لا يختلف؛ وقام كبير الأدباء فأبن كبير الشعراء بكلمة تلقاها الأخوان بعاطفة واحدة وشعور مشترك، لأن الزهاوي كان يهزج بأغاريد الفجر على ضفاف دجلة، فتردد أصداؤها الموقظة في ربوات بَرَدى وخمائل النيل وسواحل المغرب! وأدب الزهاوي وأمثاله هو الذي وصل القلوب العربية في مجاهل القرون السود بخيوط إلهية غير منظورة، ولولاها لم تكن هذه الزورة! وبهذه الزورة وأمثالها نتعارف ونتآلف ونتحد! فتعالوا يا أخلاق المجد الفقيد وأسلاف المجد الوليد نتعاون على دفع الأذى عن العزة المهانة! تعالوا نقرَّ في سمع الزمان أن أمة الرسالة تريد أن تؤدي الأمانة! ولكن قبل ذلك كله: تعالوا نجدد دارس العهد بيننا=كلأنا على هذا الجفاء ملوم
أحمد حسن الزيات