مجلة الرسالة/العدد 139/الضمير
مجلة الرسالة/العدد 139/الضمير
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور مدرس الفلسفة بكلية الآداب
غامض في لفظه غموضه في معناه، ومستتر رغم ما يبرز من آثار؛ هو أقرب الأشياء منا والزمها لنا، بل يكاد كل شيء فينا: (والمرء بأصغريه قلبه ولسانه) بيد أنا إن حاولنا توضيحه توارى بالحجاب وأمعن في الاستتار والخفاء. نؤمن بوجوده دون أن نراه أو نفهم في وضوح حقيقته؛ وكيف ننكره وفي إنكاره إنكار لأنفسنا وهدم الدعامة الأولى من دعائم شخصيتنا؟ يأمر فيطاع، وينهى فيستمع له، ويسر ويحزن، ويخالط عواطفنا وأحوالنا النفسية على اختلافها؛ يعقد محكمته في أسرع من لمح البصر، ويصدر أحكاماً غير قابلة للنقض والإبرام. لذلك اتجه إليه الواعظ في وعظه؛ وناداه رجل الدين في نصحه، وجعله الأخلاقي أساساً لدرسه، وتولاه عالم النفس بالبحث والتحليل
يغلب على الظن أن العرب لم يستعملوا كلمة (ضمير) بمعناها الخلقي والنفسي الذي اصطلحنا عليه الآن؛ فانهم أطلقوها على القلب والباطن والسريرة فحسب. وهذا المعنى، وإن كان يقرب من العرف الحاضر، متميز منه تمام التميز. وفلاسفة الإسلام ومتصوفوه، برغم تحليلهم الدقيق لبعض العواطف النفسية كالعشق والشوق والندم والتوبة لم تجر كلمة (ضمير) على لسانهم إلا في دوائر تختلف كثيراً عما نحن فيه، ويظهر أن العرب قد استعاضوا عن هذه الكلمة بلفظ (زاجر) التي تؤدي معناها بعض الأداء: (من لم يكن له من نفسه زاجر، لا تنفعه الزواجر) فكلمة (ضمير) بمدلولها الفلسفي وضع حديث واستعمال يرجع به العهد فيما نعتقد، إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حين بدئ في ترجمة كلمة الأجنبية؛ وهذه الترجمة - وإن تكن صادقة في جملتها - مثار غموض واشتباه؛ لأنها تعبر عن الضمير الخلقي والنفسي بلفظ واحد. إلا أن اللغة الفرنسية وقعت في هذا الغموض من قبل واستعملت لفظاً مشتركاً للدلالة على الضمير من حيث مظاهره الخلقية وأحواله النفسية. وقد تنبه الألمان والإنجليز إلى هذا فخصوا الضمير النفسي بلفظ يميزه من الضمير الخلقي، وأصبح لعالم النفس كلمة يدل بها على الضمير غير تلك التي يستعملها الأخلاقي وما أجدر كل اصطلاح بأن يوضع له لفظ خاص يناسبه؛ غير أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن هذه التفرقة اللفظية إنما يراد بها فقط فصل العلوم بعضه عن بعض وقصر كل فن على مصطلحات معينة.، وإلا فالواقع يشهد أن الضمير الخلقي هو الضمير النفسي ملحوظاً فيه معنى الخير والشر. فليس في الإنسان ضميران يفصل أحدهما في الأحكام الخلقية ويتولى الآخر الأحوال النفسية. لكل منا ضمير واحد قد تتنوع أسماؤه بتنوع مظاهره ووظائفه
لم يعن الإغريق بموضوع الضمير ولم يدرسوه الدراسة اللائقة به لا من الناحية الأخلاقية ولا من الناحية النفسية، ذلك لأن الأخلاق كانت تعتمد عند فلاسفتهم الأُوَل على أساس اجتماعي. فأفلاطون كان يتعزى عن شقاء الأفراد بما كان يرجو من سعادة الجمعية؛ وارسطو لا يكاد يفصل الحياة الخلقية من الحياة السياسية. نعم أن الأبيقوريين والرواقيين قد نحوا بالأخلاق منحى فرديا، وحاولوا أن يؤسسوا سعادة الفرد على الفرد نفسه؛ ولكنهم ذوو نزعة مادية تتنافى مع التحليل الروحي للضمير. ومن الناحية السيكولوجية نلاحظ أنه فات الإغريق، بل القدامى عامة أن يتميزوا وحجة الظواهر النفسية، التي هي أثر من آثار الضمير. وإن من جهل هذه الوحدة أو قال بنظريات تناقضها لا يستطيع أن يفهم الضمير على وجهه الصحيح. وفوق هذا فانهم كانوا يخلطون بين الضمير وبعض الأحوال النفسية؛ فأفلاطون مثلاً لا يفرق بينه وبين المعرفة، وأصحاب الرواق يطلقونه على معرفة الحق والباطل. وقد بقي أمر الضمير مهملاً إلى أن جاء صوفية القرون الوسطى من مسيحيين ومسلمين فأعاروه جانباً من العناية والدرس. والتصوف، وهو علم القلوب، لا يمكنه أن يغفل مشكلة الضمير وينسى ركناً تقوم عليه المناجاة الروحية. لذلك نسمع رجلاً كأبيلارد بين المسيحيين يحدثنا عن الضمير وأثره في الأعمال الخلقية؛ كما نرى الغزالي مثلاً بين المسلمين يشرح مراقبة النفس وقوة المحاسبة التي يمكن أن تنطبق على الضمير بمعناه الحديث. غير أن هذه المحاولات في جملتها محدودة وجزئية. وإلى رجال العصور الحديثة يرجع الفضل في شرح موضوع الضمير ومنحنه ما يتطلب من عناية ومجهود. وتكاد تكون المدرسة الأيقوسية أول من تنبه إلى هذا الجانب الهام من النفس والى أثره في الأخلاق. ثم تبعتها مدارس أخرى اعتنقت رأيها أو ردت عليها، إلى أن جاء وليم جيمس وبرجسون فدرسا الضمير دراسة نفسية قضت على كثير من النظريات القديمة، وغيرت مجرى التفكير في علم النفس إلى حد كبير. ولم يفت الاجتماعيين المعاصرين أن يعرضوا لمشكلة الضمير ويوضوحوها على ضوء البينة والظروف الاجتماعية. وهذه الدراسات مجتمعة ترمي إلى تحديد ماهية الضمير وحقيقته، وبيان أصله وطبيعته، وتوضيح قيمته ووظيفته، ثم إلى إثبات تنوعه بتنوع الأفراد والجماعات، وتطوره تبعاً لاختلاف العصور والأجيال
في قرارة نفوسنا وحيث تتكون أفكارنا وتعد أحكامنا، هناك رقيب ملازم يشهدها ويقفنا عليها أولاً فأولاً؛ هذا الرقيب هو ضميرنا والشعور الروحي الذي نحس به على أثر أية حركة من حركاتنا النفسية، والإلهام المستمر الذي ينقل إلينا كل ما يجول بالخاطر. فالمرء حين يفكر يشعر في الوقت نفسه بما يصنع، ويدرك أن تفكيره من عمله وقطعة منه. وكذلك شأنه حين يفارق أو يوازن أو يتذكر معلومات قديمة أو يقضي في أمر بقضاء ما، أو يسر أو يحزن، أو يحب أو يبغض. وشعور الإنسان بتفكيره وإدراكه لخفايا قلبه ليس إلا معرفته لنفسه ووقوف روحه على ما تعمل. وعلى هذا فالضمير جزء لا ينفصل من الظواهر النفسية وأساس لكل أعمالنا الباطنية. هو الشخصية في صورتها البسيطة المجردة ومبعث النور الأول في الحياة العقلية. وخطأ أن نعده قوة مستقلة ومتميزة من الأحوال النفسية كالعين تتميز من الشيء المرئي. فقد انقضى الزمن الذي كان يقال فيه بتقسيم النفس إلى قوى منفصلة تقوم كل واحدة منها بقمل خاص. ولسنا في حاجة لأن نقرر هنا أن في الانفعالات مثلاً قدراً من التفكير لا يصح إنكاره، كما أن الجانب الفكري للإنسان في أرقى صوره مشوب ببعض العواطف والميول. على أن القول بالقوى أن صح بالنسبة لبعض مظاهر النفس، فواضح عدم انطباقه على الضمير الذي هو الشكل العام ونقطة الاشتراك والصورة الرئيسية لكل الأعمال العقلية. والمدرسة الأيقوسية وإن كانت من أول من عني بموضوع الضمير بين المحدثين أساءت من ناحية أنها عدته قوة قائمة بذاتها وشبهته بأحد النظارة يشهد رواية الحياة النفسية دون أن يقاسم فيها بنصيب
وإذا كان الضمير شعور النفس بما تعمل، فسهل أن نتميز في هذا الشعور درجات بعضها أوضح من بعض. ففي اللحظات التي بين اليقظة والنوم نشعر بما يجري في نفوسنا شعوراً مبهماً غير محدود؛ والأحلام والرؤى تتصل من غير شك بالضمير في أغمض صوره، أو إن شئت فسمها مرحلة العقل الباطن، فإن جاوزنا هذه المرحلة وجدنا أحوالاً نفسية واضحة بعض الشيء إلا أنها سريعة وغير متمركزة، وما ألصق هذه الأحوال بالأعمال العادية والأمور المألوفة؛ فالضمير يدركها دون أن يقف أمامها طويلا. وبعد هاتين المرحلتين نصل إلى درجة فيها تفكير وروية وتذكر وانتباه وبحث ومجهود. وهنا تبدأ المعرفة الحق ويدرك الضمير عمله في وضوح. وعلماء نفس الطفل المعاصرون وعلى رأسهم كلاريد وبياجيه قد خصوا هذه المرحلة بقدر كبير من العناية، وبينوا كيف يخطو الناشئ نحو إدراك نفسه وتكوين معلوماته؛ ثم تجئ أخيراً مرحلة التفكير الإنساني في أسمى صوره، حيث تعرض المشاكل العلمية والفلسفية، ويجهد الإنسان نفسه في تفهمها وقلبها على وجوهها رجاء أن يصل إلى حل واضح مقنع، وما هذه المرحلة إلا امتداد لسابقتها وصورة مكبرة لها؛ والأبحاث العقلية في جملتها محك للضمير، ومبعث نضال نفسي مستمر يراد به الوصول إلى الأفكار الجلية النيرة
يزداد فهمنا للضمير إذا بينا الخصائص التي تمتاز بها مظاهره؛ وقد عنى جيمس وبرجسون بشرح هذه الخصائص وتوضيحها التوضيح الكافي؛ وأول شيء يلحظه في الظواهر النفسية هو اختلاطها وتشعبها؛ فلا نكاد نجد أنفسنا أمام ظاهرة واحدة منعزلة، بل دائماً أمام مجموعات من أحوال نفسية مختلفة، أو كما يقول جيمس أمام حقول اكتسى بساطها بشتى الأزهار والألوان في ظاهرة نفسية واحدة، تلتقي احساسات متنوعة، وذكريات قديمة، وعادات ثابتة، وأفكار عديدة، وأحكام وتعليلات، وموازنات لا حصر لها؛ وهذه الأحوال النفسية كالأمواج الزاخرة تجري وتتغير من غير انقطاع؛ ومن هنا جاء تعبير جيمس المشهور: يثأر الفكر أو يثأر الضمير. فإحساسنا بشيء في حال اليقظة مختلف عنه في حال النوم؛ وإدراكنا لأمر ونحن متعبون يختلف عن إدراكنا له ونحن مستريحون؛ وشعور هذه اللحظة لا يتكرر مرة أخرى في نفس الظروف والمناسبات التي اقتضته، ولئن بدا تكراره لم يعْدُ ذلك المظهر العام؛ أما التفاصيل والجزيئات فمختلفة لا محالة، وكأن حركة التفكير كنهر جار تتابع موجاته إلى ما لا نهاية دون أن تعود موجة سيرتها الأولى؛ والفكرة الواحدة المستمرة التي تخطر ببالنا من حين لآخر دون تغيير أو تبديل أمر خيالي وبعيد عن الحقيقة. فنحن نحس الآن على صورة خاصة لن تستمر في اللحظة التالية، وما دمنا أحياء فنحن عرضة للتغيير، وما أصدق بسكال حين يقول: (الزمن يشفي الآلام والأحقاد لأنّا متغيرون ولا نحتفظ بشخصية واحدة، فلا المسيء ولا المُساء إليه يبقيان كما كانا) بيد أن القول بأن ظواهر النفس في حركة وتغير مستمر ليس معناه أن في تيار الضمير انقساماً أو انفصاماً أو تبايناً. فظواهر النفس في حركتها تدور حول نقطة واحدة وتتصل بأساس ثابت؛ وحياتنا الروحية في هذا الصباح ترتبط بحياتنا أمس دون أن يحدث النوم أي فراغ أو انقطاع في وحدتها. وعلى هذا فالحاضر من أحوالنا النفسية يحمل في طيّاته الماضي ويعد للمستقبل، وفي النفس حركة في انفصال وتغير في ارتباط. ومثل الحياة العقلية في هذا مثل قطعة موسيقية مكونة من نغمات مختلفة ومتميزة قد امتزجت واختلط بعضها ببعض فأنتجت لحناً منسقاً. وما ذاك إلا لأن أحوال النفس جميعاً متصلة بشخصية معينة، ومنجذبة نحو مركز واحد، ومنبعثة من شمس الضمير الوحيدة. وأوضح شيء في عمل النفس أنه يستلزم فاعلاً؛ ففكرة ما إما أن تنسب إليّ أو إليك أو إلى زيد من الناس. والفكرة التي لا أب لها لا أصل لها ولا وجود؛ على أنها إن وجدت فلا سبيل إلى تعرفها والتأكد منها، لأن ما نتبادله من أفكار إنما هو عمل أشخاص معينين محدودين.
من خصائص مظاهر الضمير التي ألممنا بها سراعاً نتبين بطلان المذهب الذري الذي يزعم أن الحياة العقلية بأسرها ترجع إلى جملة أفكار بسيطة التقت وارتبطت ونتجت عنها أفكار أخرى مركبة؛ ومجموع هذه وتلك مسود بقانون تداعي المعاني. فالظواهر النفسية تتلخص في جملة وحدات وضع بعضها بجانب بعض، وفي مجرد انضمامها ما يكفي لتكوين حياة عقلية. تلك هي نظرية لوك ومن جاء بعده من رجال المدرسة الإنجليزية أمثال هيوم وميل وبين وسبنسر. ولا يبعد عن هذه النظرية كثيراً ما قال به كوندياك الفرنسي من أن الروح ليست لا مجموعة صور حسية توزعت إلى طوائف عدة فنشأت عنها القوى النفسية المختلفة. وكلتا النظريتين تهدم فكرة الضمير من أساسها، ولا ترى في النفس شيئاً سوى ما يمليه الحس. لذلك قام في وجهها الأيقوسيون من جانب، ومين دي بيران من جانب أخر، مثبتين أن في الروح حياة وقوة تجاوزت المدركات الحسية، ولولا هذه القوة وتلك الحياة ما نظمت آثار الحس، ولا نتجت عنا أفكار مستقيمة. هناك روح، هناك نفس، هناك شخصية، أو هناك ضمير، سمه ما شئت، والمهم أن الظواهر العقلية ليست مجرد أوضاع لصور حسية، أو لوحدات متحجرة لا حياة فيها، ولا تستطيع بالأولى أن تبعث الحياة في غيرها. وأعمال بينيه، ومدرسة فورتسورج الألمانية وجيمس وبرجسون في الخمسين سنة الأخيرة قائمة على شرح هذا الرأي ونصرته
والآن وقد انضح الضمير في مظهره النفسي. يجدر بنا أن نفرق بينه وبين الضمير الخلقي، أو أن نحدد بعبارة أدق مهمته من الناحية الأخلاقية. في حين أن الضمير النفسي يقفنا على ما يجري في داخلنا، ويشاطر في الظواهر العقلية على اختلافها. يعني الضمير الخلقي بإصدار الأوامر الصالحة والحكم على الأعمال الإنسانية. فإذا ما تعلق بالمستقبل بدا أثره كصوت خفي يأمر وينهى، وإذا حكم على الماضي صحبت حكمه عواطف كثيرة من سرور أو ألم. (فصوت الضمير) هو ذلك النداء الخفي والوحي الشخصي الذي يدفعنا نحو غاية أو يصرفنا عنها. وهذا التعبير يظهر من أصل ديني صوفي؛ وقد جاء التحليل النفسي الحديث مزيداً له فإن المرء حين يقضي في أمر بقضاء ما يبدو كأنه تحت تأثير اتجاهات مختلفة، إن ساد أحدها ارتفع صوته وصدر أمره. وإذا كان صوت الضمير مبعث الأمر والنهي فوخزه مصدر الندم والألم. وكم اتجه أشخاص نحو جلائل الأعمال امتثالاً لأصوات ضمائرهم! وكم انصرف آخرون عن الشر لأنهم عانوا وخز الضمير وما جلبه عليهم من شقاء وبلاء
(يتبع)
إبراهيم مدكور