مجلة الرسالة/العدد 137/الاستعمار والتعليم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 137/الاستعمار والتعليم

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1936



للأستاذ ساطع بك الحصري

مدير التعليم العام في وزارة المعارف العراقية

عندما طلب إلي نادي المعلمين إلقاء محاضرة عامة في هذه القاعة خطرت على بالي موضوعات عديدة، اخترت منها موضوع (الاستعمار والتعليم) ولما ذكرت هذا الموضوع في حديث لأحد أصدقائي اعترضني بقوله: (لم اخترت هذا الموضوع وقد تخلصنا من شبح الاستعمار؟) فقلت له حقاً لقد تخلصنا من الاستعمار ولكن بلادنا في اتصال ببلاد لا تزال تلعب فيها أيدي الاستعمار. ولا يسوغ لنا وهذه هي الحال أن نتغاضى عما يضمره الاستعمار من الكيد للأمم المستضعفة؛ زد على ذلك أن للاستعمار أساليب خداعة، فقد عرف المستعمرون كيف يدسون أساليبهم هذه تحت أستار جذابة قد تفوت المرء لأول مرة قبل أن ينفذ إلى دقائقها. وأخشى أن بعض هذه الأساليب قد يصل إلينا ويتسرب إلى أذهاننا وينخر في جسمنا من غير أن نشعر به وننتبه إلى منابعه. لذلك وجب علينا كأمة فتحت عينيها للحياة أن تهتم بهذه المباحث وتمعن في درسها.

لقد أخذ الأوربيون بعد الحرب العظمى يهتمون بسياسة التعليم تنفيذاً لأغراض الاستعمار. وقد عقدوا مؤتمرات عديدة - بعضها قومية وبعضها أممية - للمداولة في هذه الشؤون، وخليق بنا أن ندرس سياسة الاستعمار من حيث علاقتها بالتعليم، ولهذه الملاحظات جئت أتتحدث إليكم هذا المساء عن (الاستعمار والتعليم).

تتعلمون أيها السادة أن كل نظام تعليمي يتكيف عادة بمطالب السياسة العامة، لذلك لا بد لنا ونحن نبحث هذا الموضوع أن نعرف أهداف الاستعمار لنصل إلى أهداف السياسة التعليمية فيه. فلننظر ما هي غاية الاستعمار.

لقد اعتاد علماء الاجتماع أن يقسموا المستعمرات إلى ثلاثة أصناف أساسية من حيث الغايات المتوخاة من الاستعمار وهي: (1) مستعمرات الاتجار (2) مستعمرات الاستغلال (3) مستعمرات الاستيطان.

يبدأ المستعمرون عادة بالاستعمار التجاري، فيختارون ميناء أو نقطة جغرافية مهمة في بلاد ما، فيؤسسون فيها مستعمرة صغيرة يتخذونها مركزاً للاتجار، ومن هذا المركز يعقدون صلاتهم مع داخل البلاد، فيعملون بذلك على احتكار تجارتها، دون أن يستولوا على داخليتها. فغايتهم من هذه المستعمرة تنحصر في (الاتجار)، غير أنهم كثيراً ما لا يقفون عند هذا الحد بل يتغلغلون في داخلية البلاد، ويستولون على جميع منابع الثروة الموجودة فيها، وهم في هذا السبيل لا يكتفون بتأسيس ما تحتاج إليه التجارة من مؤسسات، بل يتوسعون في مؤسساتهم داخل البلاد ويستولون على كل ما يجب الاستيلاء عليه لاستغلال مرافقها. فالغاية الأصلية من مثل هذه المستعمرات تكون (الاستغلال).

غير أن بعض المستعمرين لا يكتفون بذلك أيضاً، فإنهم لا يقصرون حظهم على استغلال المرافق الاقتصادية والثروة، وإنما يرمون أحياناً إلى تركيز سياسة الاستيطان جاعلين من البلاد التي يستعمرونها وطناً جديداً لأبناء جلدتهم. وهذا أهم أنواع الاستعمار وأشدها خطراً.

وهذه الأنواع لا يختلف بعضها عن بعض اختلافاً كلياً لأن كثيراً ما يحول جشع المستعمرين البلاد التي يستعمرونها من شكل إلى شكل آخر من الأشكال الثلاثة التي ذكرناها.

إن أبرز الأمثلة على (مستعمرات الاتجار) هي المستعمرات التي أحدثها الأوربيون في سواحل الصين. أما أحسن الأمثلة على (مستعمرات الاستغلال) فهي الهند حيث تغلغل الإنكليز وكانت أغراضهم الأولية استنزاف المنافع الاقتصادية من تلك البلاد الغنية المترامية الأطراف. وأما أوضح النماذج لمستعمرات الاستيطان فنجده ماثلاً في كندا وأوستراليا حيث أتخذ المهاجرون من الإنكليز وغيرهم وطناً جديداً لهم فيها.

وقد يتطور الاستعمار في بعض المستعمرات من طور إلى آخر. مثل ذلك تحول الاستعمار في الهند من شكل الاتجار إلى شكل الاستغلال، وتطور الاستعمار في كندا وأوستراليا من الاستغلال إلى الاستيطان، ونجد بعض المستعمرات ينفذ الاستعمار فيها بشكلين في وقت واحد. فقد حل الفرنسيون الجزائر مستعمرين لاستغلالها، ثم ما لبثوا أن أخذوا يرمون إلى سياسة الاستيطان في بعض أقسام الجزائر كما هو واقع.

إن الغايات الثلاث التي ذكرناها هي الغايات الأساسية التي عملت عملها في تأسيس المستعمرات. غير إن المستعمرين أخذوا يتوخون من الاستعمار غايات أخرى لا تقل أهمية عنها. منها الغاية العسكرية، فبعض الدول تقصد من وراء استعمارها بلداً ما إيجاد قواعد ارتكاز وحركة لجيشها وأسطولها، وبعض الدول لا تكتفي بذلك بل تعمل على إيجاد جنود من أهل البلاد المستعمرة تضيفه إلى جيشها معززة به قواتها المحاربة، وقد تجللت هذه المطامع في الحرب الكبرى، إذ حاولت كل دولة من الدول الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من مستعمراتها، فلم تكتف باستنزاف الثروة منها واستغلال خيراتها لمعيشة جنودها، بل عملت على أخذ أفراد من أهالي المستعمرات زادت بهم جيشها.

وإني لأذكر المارشال (ليوتي) الذي يعتبره الفرنسيون مؤسساً للإمبراطورية في أفريقية الشمالية، وقد أسهب هذا القائد الكبير في الخطبة التي ألقاها عند دخوله عضواً في الأكاديمية الفرنسية في وصف (فوائد المستعمرات للجيش) وأعترف بأن أبناء المستعمرات الذين جندوا في خلال الحرب العالمية قد وفروا على فرنسا بما قدموه من تضحيات بأرواحهم ملايين من الأنفس الفرنسية)

وزيادة على ذلك فقد بين المارشال ليوتي في خطبته أن فرنسا استفادت من مدرسة المستعمرات استفادة كبيرة من جهة (تكوين الضباط والقواد) أيضاً، لأن جل قوادها الذين بلغوا بها إلى النصر الأخير قد نشأوا في بيئة المستعمرات، وشب كبار رجالها على المعيشة في البلاد المستعمرة فنشأوا خير نشأة لأن حياة المستعمرات تربي في المستعمر الناشئ القوة المعنوية التي هي دعامة من دعامات الجيش. فالقادة المستعمرون في بلاد الاستعمار يضطرون إلى التذرع بالحزم والتدرب على اتخاذ القرارات الآنية وهم بذلك يتكونون رجالاً أشداء في عقولهم وأخلاقهم.

إن الكتاب والمفكرين من رجال الاستعمار لا يقفون عند هذا الحد في تعداد فوائد المستعمرات، بل يسترسلون في شرح فوائدها المعنوية أيضاً، فيقولون إن المستعمرات لا تكون للدولة المستعمرة مناجم ثروة مادية فحسب، بل هي مباءة استغلال للقوة المعنوية أيضاً، إذ تجد هذه الأمم في المستعمرات مجالاً واسعاً للجد والنشاط والإقدام فيزدهر أملها المرجو في المستقبل. فإن الأمم القانعة بحدودها تعتاد التراخي والكسل، بينما تغير المستعمرات نفسية الأمة وتخلق فيها نشاطاً حياً وآمالاً جديدة، ويمكننا أن نشبه تأثير المستعمرات في نفسية الأمم بتأثير الأولاد في نفسية العائلات، فالولد ينشئ للعائلة أمل للمستقبل ويحملها على العمل، وكذلك المستعمرة تقدم للأمم المستعمرة دافعا جديداً للحياة والكفاح.

بعد أن ألقينا هذه النظرة العامة عن غايات الاستعمار ومراسيها نستطيع أن ننتقل إلى بحث (سياسة التعليم) في الاستعمار.

إن هذه السياسة تتجلى في ثلاثة أنواع من المعاهد التعليمية

أولا - المعاهد التي يؤسسها المستعمر في وطنه الأصلي لخدمة الاستعمار.

ثانيا - المعاهد التي يؤسسها المستعمر في المستعمرات لتربية أبنائه.

ثالثا - المعاهد التي يؤسسها في المستعمرات لتربية أولاد الأهلين في القطر المستعمَر.

فالنوع الأول من المعاهد التعليمية الاستعمارية سيبقى خارجاً عن نطاق بحثنا هذا، أما النوع الثاني من المعاهد التعليمية التي ينشئها المستعمر في المستعمرات لتربية أولاده فهي أيضاً لا تستدعي اهتمامنا كثيراً لأنها تشبه بوجه عام المعاهد التعليمية التي تنشأ في الوطن الأصلي ولا تختلف عنها إلا من حيث زيادة بعض الدروس لإعداد أولاد المستعمرين للقيام بأعمال استعمارية.

والمهم أن ندقق في النظم التي يرسمها المستعمر لتعليم أولاد الأهلين في المستعمرات وأن نستعرض السياسات المختلفة التي ابتدعت في ذلك. إن أقدم هذه السياسات كانت السياسة السلبية في التعليم، وهي تتلخص في عدم تعليم أحد من أبناء الأهلين، وقد ترمي إلى بذل الجهد في محو المتعلمين، وهذه سياسة تجلت بوضوح تام في أوائل القرن التاسع عشر في أمريكا.

ففي أمريكا الجنوبية عندما ثار الأهلون على المستعمرين الأسبانيين كتب القائد العام إلى مليكه يبشره بانتصار جيشه في إحدى المعارك، وكان مما قال في تلك الرسالة التاريخية: (إنه عامل المتعلمين من أبناء البلاد معاملة العصاة وقضى عليهم قضاء ومحاهم محواً، وإنه استأصل بهذه الصورة فكرة التمرد والعصيان من جذورها استئصالاً تاماً). وحتى في أمريكا الشمالية مثلا كان يحظر في الولايات المتحدة الأمريكية تعليم الزنوج القراءة والكتابة؛ وكان كل أبيض يعلم زنجياً يعاقب بالحبس والجلد. وعلى هذا المنوال كانت سياسة الاستعمار في التعليم بادئ ذي بدء في موقف عدائي مطلق تسعى إلى عدم التعليم، وتعمل على محو المتعلمين.

غير إن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية ولاسيما في المستعمرات الاستغلالية، لأن المستعمرين وجدوا أنفسهم في تلك المستعمرات في حاجة شديدة إلى الاستعانة بأهل البلاد لاستغلال المرافق الاقتصادية والثروات الطبيعية، وشعروا بضرورة تعليمهم لإعدادهم لتلك الأعمال، ولذلك أخذوا يؤسسون معاهد التعليم في المستعمرات؛ وكان العامل الأساسي لتأسيس هذه المعاهد تخريج طائفة من أهالي المستعمرات يخدمون المستعمر في مصالح الحكومة والشركات؛ وفي المشروعات المختلفة التي تتطلبها مقاصد الاستغلال والاستعمار، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فكر بعض المستعمرين في مسألة التعليم تفكيراً آخر فذهبوا إلى إنه يجب أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي، بحيث يقترب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجاً، وقد فكروا في سبيل تحقيق هذا الغرض أولاً بنشر لغة المستعمر، وثانياً بتعليم أهالي المستعمرات تعليماً ينشئ في نفوسهم حب المستعمر فيستسلمون له عن طواعية.

وقد برز النوع الأول من سياسة الاستعمار أكثر وضوحاً في الهند في ظل الاستعمار الإنكليزي، كما تجلى النوع الثاني في الجزائر بالاستعمار الفرنسي.

وكان الفرنسيون يأملون من سياستهم هذه تقريب المستعمرين إليهم، وظنوا أنهم بنشرهم لغتهم بينهم وإشرابهم ثقافتهم يغرسون حبهم في قلوب الأهلين، لذلك جعلوا للغة الفرنسية محوراً لكل درس في مناهجهم، وقالوا بصراحة إن المدرسة يجب أن تكون قبل كل شيء معهداً لتعليم اللغة الفرنسية، وكذلك اهتموا بمناهج الأخلاق في المدارس لتعليم أولاد المستعمرات كل ما يحبب الأهلين في الفرنسيين، فنجد في مناهج الأخلاق في مدارس الجزائر مثلا قسماً خاصاً في واجبات الأهلين نحو فرنسا، يشغل حيزا مهماً بين الواجبات الأساسية كالواجبات نحو الله، والواجبات نحو الناس. ومما جاء في هذا المنهج (ما يترتب على أهل الجزائر من الواجبات نحو فرنسا، مقابل الحماية التي تسديها إليهم والعدل الذي أدخلته إلى بلادهم، والأمن الذي نشرته في ربوعهم، ونعم التعليم والحضارة التي أغدقتها عليهم. . . الاحترام الذي يجب أن يشعروا به نحو من يدير البلاد باسم فرنسا، والاحترام الذي يجب أن يظهروه نحو العلم الفرنسي) وهكذا نجد الاستعمار بعد أن ترك السياسة السلبية في التعليم التي وصفناها سلك طريقاً آخر يمكننا أن نسميه: (التعليم لتسهيل عمل الاستعمار)

على إن التجارب القاسية لقصر التعليم على خدمة الاستعمار وحده قد أسفرت عن نتائج سيئة إذ ما عتمت أن أحدثت رد فعل عند أولاد المستعمرات فقد تغيرت أحوالهم بعد مدة قليلة أو كثيرة من تخرجهم من المدارس، وبدلاً من أن يكونوا مطبوعين على حب المستعمر يتفانون في سبيل خدمته وفق الثمرة التي كانت مرجوة من التعليم الاستعماري، أصبحوا على نقيض ذلك يكرهونه ويكافحونه. فأسقط في أيدي المستعمرين وطفق ساستهم وعلماؤهم يفكرون في الموضوع ويدرسونه فيجدون أنفسهم كلما أمضوا في تعليم أولاد المستعمرات بطرائق تضمن محبة الأهلين لهم، تذهب الجهود سدى، إذ لا يلبث أكثر هؤلاء الأولاد بعد تخرجهم أن يقلبوا للمستعمر ظهر المجن، ففكر علماء المستعمرين في هذه المعضلة فوجدوا أن هذه نتيجة طبيعية، لأن ابن المستعمرات إذا ما قرأ تاريخ الأمة المستعمرة ودرس الثورات وقف على مطالب الشعب من الحكومة يتحمس بهذا الحس برغم أنف المستعمر فيشب راغباً في تطبيق ما درسه. وهكذا تطورت آراء المستعمرين في سياسة التعليم ووقعوا في حيرة مربكة لا يدرون ماذا يفعلون.

هل يركنون في المستعمرات إلى عدم التعليم؟ ولكنهم يعلمون إن عدم التعليم لا يمكنهم من استغلال البلاد المستعمرة، إذ يجبر المستعمر في تلك الحالة على ممارسة الاستغلال في المستعمرات بقواه الذاتية فيضطر إلى الإتيان بالعمال من وطنه الأصلي وهو لا يجد في أمته العدد الكافي منهم، وإذا وُجد فاستقدامهم إلى المستعمرات وتشغيلهم فيها يكلفه كثيراً فيغدو المنتوج الاقتصادي أغلى سعراً بحيث لا يستطيع أن ينافس منتوجات غيره في الأسواق العالمية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يكون العامل مفيداً في أي عمل ما لم يكن قد أخذ بنصيب من التعليم في عصر الصناعة الذي نعيش فيه.

وقد ظل المستعمرون في حيرة من هذه المشكلة: التعليم في المستعمرات يؤدي إلى ثورة الأهلين عليهم، وعدم التعليم في المستعمرات يعيقهم عن الاستغلال! ففكروا كثيراً وأخيراً وجدوا ضالتهم بطريقة مبتكرة في سياسة التعليم وهي: (التعليم بغير تثقيف). فقالوا نعلم أولاد المستعمرات من غير أن نثقفهم. نعلمهم تعليماً ضيقاً جداً يجعلهم آلات صماء في أيدي الاستعمار. وقد بذلت الدول المستعمرة جهودها في وضع نظام للتعليم على هذا الأساس، بجعل التعليم وسيلة ميكانيكية بحتاً إذ يكون لغايات محدودة معينة بدون أن يدخل على هذا التعليم أي عنصر من عناصر الثقافة العامة. وقد تقننوا في إيجاد هذه الأساليب وابتكار طريقة خبيثة لتدريب أبناء المستعمرات على أن يكونوا مسامير في صفحة خشبية، أو عجلات في آلة ميكانيكية، محرومين من أي لون من ألوان الثقافة العامة

وهكذا اتفقت سياسة الاستعمار التعليمية على وجوب الأخذ بالتعليم بدون تثقيف، وهذا آخر ما وصلوا إليه لحل معضلة التعليم في المستعمرات. وقد بدأ المستعمرون من يوم تفتحت قرائحهم بهذا الابتكار يجاهدون في تحقيق غاياتهم، وقد أرادوا أن يموهوا على الناس ويستروا مقاصدهم المعلومة تحت أستار حيل مختلفة، فقالوا بأن هذا النوع من التعليم الابتدائي والعملي هو الذي يفيد أولاد المستعمرات أنفسهم؛ وادعوا بأن التعليم الثانوي والعالي وكل نوع من أنواع التعليم الأوربي بغير الأهلين؛ وقد بذلوا جهوداً عظيمة ليقنعوا الأهلين بذلك، وقاموا بدعايات كثيرة نشروها لبث هذه الفكرة وتوجيه الأمم المستعمرة إلى هذا الضرب من التعليم

مع هذا جابه المستعمرون مشاكل كبيرة: جوبهوا بحقيقة مرة وهي تعذر السيطرة التامة على التعليم في المستعمرات، إذ في وسع ابن المستعمرات الذي يرغب في التعليم ولا يجد في بلاده العلم الذي يريده أن يقصد إلى بلد آخر في طلب العلم

ويجدر بنا أن نذكر في هذا الصدد المناقشات التي جرت في إيطاليا لمعالجة مسألة التعليم في طرابلس الغرب، فعندما أقدموا على إلغاء المدارس الثانوية والعالية والدينية قال أحد رجال التربية في روما خلال مناقشة لهذا الموضوع: إنني لا أوافق على إلغاء هذه المدارس، إذ يجب أن نعلم أننا إذا ألغينا هذه المدارس لا نستطيع أن نمنع الذين يريدون الذهاب من أبناء طرابلس الغرب إلى الجامعة الزيتونية في تونس أو الجامع الأزهر في مصر، وهؤلاء الشبان يحتكون هناك بشبان من أمم مختلفة ويتلقون ثقافات واردة من أنحاء العالم ويرجعون بأفكار أشد وبالاً على سياستنا الاستعمارية. فخير من إلغاء هذه المدارس إذا أن نحدد التعليم في داخل طرابلس الغرب لنؤسس مدرسة عالية نحدد تعليمها ونجعل النشء مرتبطين بها فلا يضطرون إلى السفر إلى الخارج في طلب العلم ويعودون إلى بلادهم وقد تسممت أفكارهم كما قلت.

إن الخطط التي وضعها المستعمرون في هذا الباب مختلفة باعتبار المشاكل العديدة التي يريدون حسمها فيعمدون لتحقيق كل مأرب من مآربهم بخطة منها. ومما يلفت النظر انتباههم إلى أمر انتقال الطلاب من أبناء المستعمرات من بلد إلى آخر حيث يقتبسون آراء جديدة ويستفهمون نزعات حديثة، لذلك عمدوا إلى تدابير يقدرون من ورائها فصل الأقطار عن بعضها لجعلها مختلفة اللغة.

فقد أخذ الفرنسيون في المغرب يفرقون بين البربر والعرب وغيرهم بحرمان البربر من تعلم اللغة العربية حتى يجعلوهم بعيدين عن التأثر بالمدارس التي تدرس العربية أو ما يكتب بهذه اللغة في الأقطار الأخرى.

وهناك فكرة أحيت بعض الأمل في نفوس المستعمرين وهي السعي لنشر اللغة العامية، وهذه الوسيلة تباعد بين الأقطار العربية وتسهل على المستعمرين أغراضهم. وقد بثوا لهذه الفكرة دعايات منوعة: دعايات بدأها المستعمرون فانطلت مع الأسف على بعض أبناء البلاد المستعمرة إذ أن بعضهم خدعوا بها وروجوا لها، وقد طلا المستعمرون هذه المكيدة تحت عنوان نشر التعليم بين طبقات الشعب وقالوا (ما دام الجمهور في الأقطار العربية لا يعرف اللغة الفصحى غالباً، فيجب تعليمه بلغته المحلية العامية. ولماذا نضيع عليه الوقت في تعليم الفصحى وقواعدها الكثيرة وأساليبها العويصة؟) وقد وجدت هذه الفكرة بعض الأنصار ولا يزال لها مؤيدون في بعض الأقطار العربية مع إنها وليدة الاستعمار!

ومن حسن حظ الأمة العربية أن هذه الفكرة لم تعمر كثيراً في حينها. مع هذا نجد بعض الأوربيين قد أخذوا يعودون إلى هذه الفكرة وصاروا يعتقدون بأن السينما الناطقة والراديو من المسائل التي ستجبر البلاد العربية على أن تفسح مجالاً أوسع للغة العامية لأن التمثيل والكلام باللغة العامية يرضي الدهماء أكثر من الفصحى؛ فيجب علينا نحن أن ننتبه إلى هذا الخطر الأخير خطر انتشار اللغة العامية كما يشتهيه المستعمرون، وهذا الخطر الذي يتمثل أمامنا ربما كان خطراً كبيراً لأن الموضوع يخالطه شيء كثير من المنفعة المادية: لأن التمثيل بالغة العامية يكسب الممثلين أكبر عدد من النظارة، ولا ريب في أن على كل مفكر عربي أن يحارب هذا السلاح الأخير الذي يرجو منه المستعمرون خيراً عظيماً لمقاصدهم على حساب الضرر البليغ بالبلاد العربية.