مجلة الرسالة/العدد 129/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 129/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1935



صور من هوميروس

18 - حروب طروادةمصرع هكتور

للأستاذ دريني خشبة

اختلط حابل الطرواديين بنابلهم، وظلوا يهرعون إلى الأبواب حذر الموت الذي يتلقفهم عن شمائلهم وعن أيمانهم، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، كأنما جثمت المنايا في كل خطوة فهي لهم بالمرصاد. . . طالما يكر أخيل هنا ويفر هناك، وتكر من خلفه وتفر شياطين الميرميدون، صائحين متهدجين: (يا لَثارات بتروكلوس!)

ووقف أبوللو وهو يتميز من الغيظ يشهد المعركة، ويرى إلى أخيل يحصد تلك الرؤوس اليانعة التي لم يحن بعد قطافها، فلم يملك أن دنا منه وقال:

(على رسلك يا ابن بليوس، فكأني بك ما كفاك من صرعت حتى لتحدثك نفسك بقتال الآلهة، ومحاربتي أنا من دون أرباب الأولمب خاصة! ولكن هيهات! فإنك لابد يوماً ذائق الموت الذي لن يذوقه إله في الأرض ولا في السموات. . . فاقصد في تقتيل هؤلاء الأبرياء، ولا يغرنّك نصر قد تكون في آثاره هزائم. . . . . .)

وعبس أخيل عبوسة قاتمة، ثم نظر إلى أبوللو مغضباً وقال: (حسبك يا سيد الشمس ما ضيعت من جهود، وما فوّت عليّ من ثارات. . . أعرج في سمائك الشاسعة، ودع بني الموتى يصطرعون من أجل المجد والشرف. . . لقد أنقذت خصمي من قتلة محققة، فهل يا ترى تظل يا سيد الشمس تعترض طريق الأقدار، ليمرح في كنفك الفجار الأشرار؟. . .)

وانطلق أخيل يعدو في أثر هكتور؛ وكان هكتور قد أخذته العزة فأبى أن ينجو بنفسه فيدخل المدينة مع الداخلين

وكان بريام، الملك الشيخ، يشرف على الساحة الحمراء من أحد أبراج مدينته، فرأى ابنه واقفاً في إحدى حنيّات الأسوار يستجم، ويرسل في رهج الميدان عينين سادرتين محزونتين، تشفان عن قلق عميق، واضطراب دوي، فريع الأب المفئود، وزلزل زلزالاً شديداً، وطفق يئن أنيناً عالياً، ويدرب صدره الموهون بيديه الواهيتين، ثم يصيح بابنه أن يسارع إلى البوابة الإسكائية قبل أن يلحق به أخيل، عسى أن ينجو مما يتربص به من منون. . .

(أي بني! هكتور! فيم تقف في هذا الميدان وحدك تنتظر الطاغية أخيل عليه لعنة السماء والآلهة، بقتله بنيّ، وإهداره دماء مواطنيّ!

هلم يا بني فحسبي ما جزعت عن بوليدور، وحزنت أمض الحزن وأوجعه على ليكاون، وحطم قلبي من الأسى على أبناء اليوم!. . .

هلم يا بني فأنت أمل طروادة ومعقد رجائها، وليس لها بعدك من ولي ولا شفيع!

هلم فأبوك الشيخ قد صدعه الحزن، وأوقرت ظهره ويلات الحرب، وأغطشت عينيه أرزاء هذا البلاء، فلا تكن أنت محنة المحن التي تحل به، واستبق شبابك له يتسل بك، ولأمك المفجّعة تستلهم بقربك الصبر، على ما كرثها الزمن الصارم من نكبات يلاحق بعضها البعض، وتأخذ أولاها بتلابيب أخراها مشرق كل شمس، وكل مغيب شمس

هلم يا هكتور إليّ! إلى والدتك! إلى زوجك! إلى طفلك الذي تكاد تسلمه لليتم، وتدعه خلفك للشقاء!. . .

هلم وحسبنا أرامل شجعاننا اللائى يحلن إشراق أيامنا ظلمة، ويصيرون لألاء الحياة قتاماً. . . أو يرسفن في أغلال الاستعباد حيث يقمن في خدمة الإغريق اللؤماء. . .!

هلم إليّ يا بني! فو أرباب الأولمب إني لأرتعد فرقاً كلما خلتك كلقى بالعراء تنوشك سباع الطير، منبوذاً لضواري هذه البرية التي طالما أطعمتها وأكرمت مثواها. . .)

وصمت الملك، وراعه أن ابنه لم يتحرك لتوسلاته، بل لبث مكانه يرمق الميدان فراح يضرب يداً بيد، ثم انحنى فجعل يحثو التراب على رأسه المجلل بثلج الشيب، وندف الأيام، وبهذه الشعلة البيضاء التي زادتها أحداث الزمان اضطراماً. . .

وكان هيكوبا إلى جانبه. . . هيكوبا مليكة اليوم،. . . هيكوبا الأم. . . التي فجعها أخيل في عدد من أعز أبنائها، ويحاول اليوم أن يفجعها في هكتور، ابنها البكر، وتاج الأمومة الوضّاح، الذي تفخر به كل أم، وتدل به كل والدة!

وقالت الأم الباكية تخاطب هكتور: (هلم يا ولدي فإنك وحدك لا تستطيع أن تكبح جماح هذا البحر الزاخر من الجند، بل لو أن معك ألفاً من شجعان طروادة ما وسعهم أن يردوا عادية هؤلاء الميرميدون المقنعين في حديدهم، الكثيرين في عديدهم.

هلم يا هكتور واستبق شبابك وعنفوانك لأمك المحزونة التي لم يبق لها من ولد غيرك، ولا عز إلا في جوارك، ولا حمى إلا في كنفك، ولا مجنّ يرد عنها عوادي الأيام إلا في ظلك، ولا فخر لها بين النساء إلا فخرك، وما تمد الآلهة في أيدك، وتشد به أزرك. . .

هلم يا بني فقد أزعجتني الرؤى، وروعتني الأحلام، وجثمت فوق صدري أشباح هذه الساحة التي تفتأ تلبس الحداد وتخلعه وتغري بالنصر ثم تنزعه، وإن سرت بطلاً بفوز تنكص فتفجعه، فتنقد أضلعه وتمتزج بدمي أدمعه. . .).

وكانت الملكة، كما كان الملك، تمزج توسلاتها إلى ولدها بأغلى الدموع، وأحر الآهات؛ بيد أن هكتور ظل مسمراً مكانه كالحية الرقطاء التي تتحوى وتتكوم في انتظار عابر تنقض عليه؛ وكان يمني أن يأخذ أخيل على غرة، فيريح طروادة منه، ويضفر لنفسه بنفسه إكليلاً من المجد لم يزن مفرق بطل من قبل.

وكانت توسلات أبويه تتناثر فوق أذنيه، ولا يصغي لها قلبه، بل هو ظل يحلم في يقظته أحلاماً معسولة، كانت تطن في خلده هكذا: (ضلة لي إذا ثنيت عناني إلى المدينة ألوذ بها من أخيل، فأرسف أبد الدهر في حضيض العار، واطأطئ حياء كلما رأيت طروادياً يهمس في أذن أخيه: إن هذا هكتور الذي ولى دبره، ونكص على عقبيه، ولم يجرؤ أن يلقى أخيل بمفرده في الميدان. . . وأين أذهب من غادات اليوم وحرائرها إذا أنا وليت الأدبار، وهاهن مشرفات على الساحة يرين ماذا يكون من أمري مع ابن بليوس الذي تفزع الآلهة من ضرباته، وتمور الأرض تحت عجلاته، وتنعقد عجاجة الوغى فوق رأسه في حين يبرز منها كالكوكب الدري! حاشاي أن أعود أجرر أذيال الخيبة، فأما أن ألقاه فأريح الدنيا قاطبة من شره، وإما أن يرحني هو من هذا الهم المقيم فأفضي في سبيل بلادي ومن أجل مملكتي. . .

ثم فيم صراخ أبي وعويل أمي؟ أيرجوان أن أدخل إلى المدينة فأكون بنجوة من الموت الشريف فوق أديم الميدان ساعة، ثم يفتحها أخيل عليّ، فيذبحني كما يذبح شاة لا حول لها ولا طول، أو يضع الأغلال في عنقي ويجرني في شوارع (إليموم) كما تكون أذن الجارية في يد النخاس بسوق الرقيق!؟ (حاشا. . . بل خير لي ألف مرة أن أخوض غبار المعمعة، مادام لن يضيرني إلا ما حتمت المقادير عليّ. . .)

وما كاد يفيق من أحلامه حتى كان أخيل أمامه وجهاً لوجه، وعلى كتفه الرحب الهرقلي رمحه الضامئ العتيد، وفوق صدره العريض الممرد سوابغ دروعه التي سردها الإله الحداد فلكان، تنعكس عليها آلاف وآلاف من أراد الشمس فتبهر الأبصار وتخلع الأفئدة، وتذيب في الجوارح كهرباء الرعب، وتشعل في الرؤوس ضرام الشيب!!

وزاغ بصر هكتور، واضطرمت مفاصله، ونُخِب قلبه، واستُطير لبه، وأحس كأن جبلاً ينحط عل روحه فلا يكاد يفلتها، وذاب الثلج في عروقه فجمدت من الروع والفزع، وهزته قشعريرة طفقت تعصف بكيانه الضخم، وتلعب بفؤاده الونى. . .

ثم بدا له أن يلهب جياده فتفر به من وجه أخيل، ولكن إلى أين؟ إنه حيثما تولى فثم وجه أخيل!! إن أخيل غدا آلافاً لا حصر لها من الأشباح المفزعة تملأ الساحة وتكظ الهواء، وتأخذ على الطرواديين أنفاسهم!

وانطلق ابن بليوس في أثر هكتور، وأشرف عذارى اليوم يطللن من أبراج المدينة الخالدة ويمسكن حبات قلوبهن أن تثب إلى الميدان فتطأها سنابك تلك الجياد الجوامح. وكان كلما أغذّ هكتور أوخف أخيل في أثره، فكانا كالأبردين: لا الليل يدرك النهار ولا النهار يستأنى فيدركه الليل، حتى نال منهما الجهد، وتفزعت الآلهة في علياء الأولمب إشفاقاً على ابن بريام العظيم، ورثاء لابن بليوس المتهدج، ورحمة لهذه الأرض لتضرجه بدماء الشهداء

وهم سيد الأولمب أن ينقذ هكتور لولا أن أقنعته ابنته، مينرفا ربة الحكمة والموعظة الحسنة، فنحّته عن طريق الأقدار وأخلت بين أخيل وخصمه. . .

وطافا حول طروادة ثلاثاً، وما كادا يبدآن طوافهما الرابع، حتى قبض زيوس إليه ميزان القدر، فهوت كفة الحق بقتل هكتور، وأربد وجه أبوللو وسقط في يده، وانطلق يضرب أخماساً لأسداس. . .!

وأسرعت منيرفا إلى أخيل تزف إليه بشرى السماء، وآثرت له أن يتلبث مكانه يستجم نشاطه، ويتنفس الصعداء، حتى تذهب هي إلى هكتور تغريه بلقاء خصمه، وتنفره من هذا الفرار الذي أضحك منه قيان إليوم وحسانها. . .

واستخْفت منيرفا، وبدت لهكتور في هيئة أخيه الأصغر ديفوبوس، ثم راحت تحضه على الحرب، وتحرضه على أخيل، وتهوّن له من شأن زعيم الميرميدون، وتعده أنها ستقدم له كل عون حتى يظفر به وتنصره السماء عليه نصراً عزيزاً. . .

ولم يشك هكتور في أن الذي يخاطبه هو شقيقه وحبيبه ديفوبوس، فوقف قليلاً يفرج عن قلبه بعض ما كرثه من روع، وراح يمزج شكرانه لأخيه بدموع الفزع، وذلة العبارات المنقطعة الحزينة، وخفقان القلب المضطرب ذي الوجيب!

وانثنى هكتور للقاء أخيل. . .

فما كاد ابن بليوس يشهده مقبلاً، بعد إذ كان مدبراً، حتى طرب قلبه، وشاعت بشاشة اللقاء في زنده القوي وسواعده المفتولة، ثم انقلبت هذه البشاشة إلى جهنم من الغيظ تستعر بالتشوّف إلى الانتقام في فؤاده، وتضطرم بلظى البطش في سويدائه؛ وتطل من عينيه تود لو تنقدح في أضلع هكتور. . .!

وقال هكتور: (تخدع نفسك يا أخيل إذا ظننت أني كنت ألوذ بأذيال الهرب منك، حين أجريتك هذه الأشواط الثلاثة حول إليوم. . .؟! لا. . . فإنني ما حاولت إلا إجهادك، وأن ينال الإعياء منك. . . والآن، هأنذا قد انقلبت للقائك فأما أن أقتلك، وأما أن تروي رمحك الضامئ من دمي. من يدري؟ أليست الأقدار مطوية عنا في صحائف الغيب، لا يعلمها إلا سيد الأولمب وكبير الآلهة: زيوس جل شأنه!

بيد أنني أطمئنك من الآن يا أخيل، إن أظفرتني السماء بك، فلن أفضحك في هذه العدة السابغة من فوقك، ولن أنزع عنك تلك الدروع الضافية التي لن تنفعك من المقادير من شئ. . . ثم أعدك أيضاً إلا أفضحك بعد موتك في هذا الجسم العزيز الذي سيكون بعد قليل جثة لا نأمة فيها ولا حياة. . . لن أرسل بك إلى عراء طروادة فأنبذك فتأكل الطير منك، زتنوشك سباع البرية الموحشة التي تعج بالضواري والكلاب. . . لا. . . لن أفعل من ذلك قليلاً ولا كثيراً. . . بل سأترك لجنودك البواسل أن يحملوك إلى سفائنك عزيزاً في قتلتك، كما كنت عزيزاً في معاشك

والآن يا ابن بليوس! هل تعدني الوعد الذي وعدتك، وهل تعاملني بمثل ما أنا معتزم أن أعاملك، إن أظفرتك السماء عليّ. . . . . . . .؟ وتزلزل الأرض تحت عربة أخيل مما سمع من مهاترة ابن بريام ويقذفه بشواظ من الكلم المحنق والقول المضطرم، ثم يقذفه بصعدته الظامئة التي تمرق إلى هكتور كالبرق الخاطف، لو أصابت منه عضواً لذهبت به إلى الجحيم. . .

ولكن هكتور العظيم ينفتل انفتالةً عجلى، فيهوي رمح أخيل إلى أرض الساحة، ويغوص ثمة إلى ثلثيه. . . إلا قليلاً

وكانت فرصة طيبة لهكتور ينفرد فيها بخصمه الأعزل، لو لم تكن مينرفا حاضرة، وعلى أهبة تامة لمعاونة أخيل. . . . فلقد سارعت إلى الرمح فانتزعته من الأرض وسلمته لصاحبه دون أن يلمحها هكتور. . .

وقبل أن يتهيأ لها أن تضع ذلك، قال ابن بريام: (أخيل! ها قد طاشت ضربت، وآن لطروادة التليدة أن تستريح منك يا ألد أعدائها!! لقد كنت تحدث نفسك برأس هكتور؛ غريمك وخصمك، فلتبحث الآن عن رأسك يا ابن بليوس. . . .

ولم يكد البطل المسكين يتم قولته، ويضيع بها فرصته حتى كانت مينرفا قد أعادت الرمح إلى أخيل. . . وحتى تبسم أخيل ابتسامة لاذعة ساخرة بما قال هكتور، الذي داعب هو الآخر رمحه، ثم أرسله كأنه الحتف فارتد على درع فلكان، ومنه إلى الأرض، فغاص فيها؛ وقبل أن يلحق به هكتور حال أخيل بينهما، وأصبح الموت أقرب إليه من حبل الوريد؛ وتلفت ابن بريام يبحث عن أخيه ديفوبوس فلم يعثر له على أثر، فصاح من الوجل يقول: (يا ديفوبوس! أغثني يا ديفوبوس! أدركني يا ديفوبوس! هات لي رمحاً يا ديفوبوس. . . . . .)

بيد أن ديفوبوس لم يغثه ولم يدركه ولم يحضر له رمحاً، وبدت له مينرفا وهي تبتسم له ابتسامة خبيثة زلزلت أركان هكتور، الذي فطن إلى الحيلة التي دخلت عليه، فقال يخاطب الربة الساخرة، وهو يكاد ينشق من الغيظ: (يا للسماء! أهكذا تخاتل الآلهة، فتقضي بموتي في معركة لا أحمل فيها سلاحاً. . . ولكنني سأقاومك يا ابن بليوس، فإذا سقطت فلن يكون لك في ذلك فضل ولا محْمدة، واذهب من بعدها فصلّ للخاتلة التي نصرتك وآزرتك. . .)

وامتشق المسكين سيفه، ولكن ماذا يصنع الجراز البتار في ملحمة لا يقطر الموت فيها إلا على أسنة الرماح!. . .

لقد انقضّ أخيل على فخر طروادة وأملها المذخور فعاجله بشكة من رمحه الظامئ نفذت في عنقه، وهوت به إلى أديم الأرض المقدسة التي يا طالما دافع عنها مع جنوده البواسل الكرماء. . .

. . . (هكتور! اليوم شفيت حزني الممض على بتروكلوس. . . واليوم تذهب روحك إلى ظلمات هيدز غير كريمة ولا محمّدة. . يا كلب طروادة المذؤوم!! كم كنت تمني نفسك لو تظفر بي فتنبذ جثتي بالعراء لوحوش طروادة وجوارح طيرها. . . إلا فحدث نفسك الآن مامذا صنع القدر بك. . .!)

ويتهدج هكتور قائلاً: (أخيل! يا ابن بليوس العظيم! استقسمك برأسك الرفيع، وأبويك الحبيبين، إلا تأخذ جثتي فتنبذها لكلابك، وتعفر جبيني الحر بثرى المذلة بين أصحابك، وحسبك أن الآلهة قد أظفرتك بي، وأن المقادير السوداء قد أفلذتك عليّ)

فيقول أخيل، وقد زهاه النصر على ألد خصمائه: (اطمئن يا هكتور، فكلابنا لا تستطيب إلا جزر الأبطال، وستكون لها وليمة فاخرة. . . فو رأس أبيك لو ملأ لي بريام هذه الدنيا ذهباً على أن أخلي بينه وبينك، ليعود بك إلى اليوم، ما رضينا بك بديلاً. . .)

وتكون سكرة شديدة من سكرات الموت جاثمة في صدر هكتور تعذبه وتضنيه، فيتأنى قليلاً حتى تنجاب عنه الحشرجة، ويفتح عينيه ويقول: (أخيل؟ لا تغتر بما تم لك من نصر؛ فباريس أخي سيقتص منك لي؛ وسيرميك من أبراج طروادة بسهم يعجل بك إليّ. . . في هيدز. . . وثمة سنلتقي!)

ويموت البطل. . .

وتنطوي صحيفة مجيدة من صحائف طروادة. بل تنطوي أنصع صفحاتها جميعاً، بموت هكتور.

يا عجباً!!

هل كان كتاب الغيب مفتوحاً أمام هكتور يقرأ منه عندما أنذر أخيل بسهم باريس؟!

وازدحم الهيلانيون حول الجثة يطعنونها ويصلونها كلوماً عجزوا عن إيصالها إليها حية فأبوا إلا أن يصلوها بها ميتة. . .

ونزل أخيل من عربته، فنحنى على الجثة، ونزع عنها تلك العدة العزيزة التي نزعها هكتور عن جثة بتروكلوس. . . عدة أخيل. . . فلن تكون بعد اليوم إلا لأخيل!

واستل ابن بليوس خنجره، وأهوى على عقبي هكتور فخرمهما، وربط القدمين العزيزتين في مؤخر عربته الحربية، ثم ألهب جياده فهامت على وجوهها في الساحة، وطفقت تطويها مثنى وثلاث حول إليوم، والرأس العظيم يتعثر بثرى المعمعة الذاهلة، والطرواديون فوق الأسوار ينظرون ولا يحيرون. . . إلا هذا الملك الشيخ. . . بريام المذهول. . . الذي راح يملأ الفضاء أنيناً موجعاً، وشجواً مفزعاً،. . . وإلا هذه الأم المرزأة. . . هكيوبا الملكة. . . التي راحت تحثو التراب فوق رأسها، وتتقلب فوق الأرض كالطائر المذبوح. . .

أما أندروماك. . . فلها السماء. . . ولها الآلهة!!

لقد كانت تضفر أفواف الزهر للقاء هكتور، وترشق الورود في أرائك المخدع، وتعد الحمام الساخن لغسل ثرى الميدان. . . ولم تكن تفكر قط إلا في عودة البطل مخضّب الذيل بدماء الأعداء. . .

ولكنها سمعت لغطاً وضوضاء يرتفعان فجأة خارج القصر. . . وكأن هتافاً من السماء هتف بها أن تخرج لتستجلي النبأ. . . ولكنها أيضاً شعرت بقوة خفية تدفعها إلى البوابة الأسكاتية. . . حيث وقف بريام يبكي ولده. . . فما كادت تصل ثمة وتشهد هذا الجمع المحزون يذري دموعه. . . وما كادت تطل من شرفة البرج فترى إلى هكتور مربوطاً في عربة أخيل، وأخيل الجبار يطوي به الساحة، ويذرع به الميدان. . . حتى وجفت نفس الزوجة البائسة، وخرت إلى الأرض مغشياً عليها. . .

وأفاقت أندروماك التاعسة. . .

وطفقت تبكي زوجها وترثيه بالدم

وطفقت نفسها تساقط عليه أنفساً!؟

لها بقية

دريني خشبة