مجلة الرسالة/العدد 127/الصقالبة في الرواية العربية وفي الدولة
مجلة الرسالة/العدد 127/الصقالبة في الرواية العربية وفي الدولة
2 - الصقالبة في الرواية العربية وفي الدولة الأندلسية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ونلاحظ أنه بينما كان نفوذ الصقالبة يقوى ويشتد في بلاط قرطبة وفي الدولة الأموية في الأندلس، إذا بنفوذ الصقالبة يغزو بلاطاً إسلامياً آخر ودولة إسلامية أخرى هي الدولة الفاطمية؛ ومما يدعو إلى التأمل أن يزدهر النفوذ الصقلي في البلاط الفاطمي في نفس العصر، أعني في أواسط القرن الرابع الهجري، وفي ظروف مماثلة؛ وقد قامت الدولة الفاطمية في المغرب بمؤازرة القبائل المغربية القوية، واستأثر زعماؤها مدى حين بمناصب الثقة والنفوذ؛ ولكن تطوراً وقع في السياسة الفاطمية؛ ومنذ عهد المعز لدين الله يغزو نفوذ الصقالبة البلاط الفاطمي ويغالب نفوذ المغاربة؛ وقد كان جوهر الصقلي أعظم أعوان المعز وكبير قادته من أصل صقلبي، وكان له في الدولة وفي الجيش أعظم نفوذ؛ وفي عهد العزيز سما نفوذ الصقالبة وساد في القصر وفي الوزارة؛ وبلغ ذروة قوته في أوائل عهد الحاكم بأمر الله الذي تولى الملك صبياً وتولى الوصاية عليه صقلبي هو برجوان؛ وفي عهد وصايته القصير سيطر الصقالبة على القصر والدولة، واستأثر بمناصب النفوذ والحكم نفر من الفتيان الصقالبة مثل يانس وميسور ويمن وغيرهم؛ ولكن الحاكم لم يلبث أن تخلص من هذا النفوذ الخطر بمقتل برجوان ونكبة الفتيان الصقالبة، وبذلك انهار نفوذ الصقالبة في البلاط الفاطمي.
وكان ذلك في أواسط القرن الرابع وفي أواخره حيث كان يزدهر نفوذ الصقالبة في بلاط قرطبة في عهد الناصر حسبما بينا، ثم في عهد ولده الحكم المستنصر من بعده. ولما توفي الناصر كان نفوذ الصقالبة أشد ما يكون بسطة في القصر وفي الحكومة؛ وكان فتيان القصر الصقالبة وهم المعروفون بالخلفاء الأكابر أول من أخذ البيعة للحكم المستنصر؛ وكان حاجب الحكم، جعفر بن عبد الرحمن الصقلي أقوى وأعظم رجل في الدولة؛ وكان الحرس الخلافي المكون من الفتيان الصقالبة سياج البيعة الخلافية وأبرز مظاهرها؛ وكان من وزراء الحكم أيضاً زياد ومحمد ابنا أفلح الصقلبي صاحب الخيل في عهد الناصر؛ وفي عهد الحكم غدا الحرس الخلافي كل شيء في القصر، وغدا عصمة الخلافة والخليفة يسه على سلامة عرشه وشخصه، ويحميه من المؤامرات والدسائس الخارجية؛ وكان أولئك الجند الصقالبة يعتدون بقوتهم وسلطانهم ويمرحون في العاصمة ويسيئون أحياناً إلى أهلها، وكان الحكم يخشى بأسهم ويغضي عن تصرفهم وسوء سلوكهم؛ وكان عدد الحرس الخاص من الفتيان الصقالبة يبلغ زهاء ألفن، بيد أنهم كانوا يتمتعون بوفرة في الوجاهة والثراء، ويملكون الضياع الشاسعة، ويسيطرون على كثير من الأتباع والحاشية.
وهكذا أصبح الحرس الخلافي أو الفتيان الصقالبة في بلاط قرطبة أصحاب الحول والقوة، وغدوا عاملاً يحسب العرش حسابه، بل غدوا قبل بعيد حكماً في مسألة العرش وولاية العهد، مثلما غدا الحرس التركي في بلاط بغداد. وما توفي الحكم (سنة 366هـ - 976م) كان الصقالبة هم سادة الموقف وأصحاب الكلمة في ولاية العرش والخلافة. وكانت زعامتهم بيد فائق النظامي صاحب البرد والطراز، وجوذر صاحب الصاغة والبيازرة، وإليهما كان أيضاً أمر الغلمان الفحول خارج القصر. وكان رأي الصقالبة أن يصرف النظر عن تولية ولي العهد هشام بن الحكم، وهو يومئذ غلام في نحو الحادية عشرة حتى لا يفقدوا نفوذهم في ظل وصاية جديدة، وأن يولى الخلافة أخو الحكم المغيرة بن عبد الرحمن الناصر فيكون لهم بذلك فضل يمكنهم من توطيد نفوذهم وسلطانهم عليه؛ ولكن الحاجب جعفراً المصحفى أدرك ما يضمره الصقالبة من وراء هذا المشروع ولم يقرهم على ائتمارهم بولي العهد؛ ونظم البيعة لهشام ولي العهد بمعاونة الوزير محمد بن أبي عامر؛ ودبر الاثنان مقتل المغيرة بن الناصر خشية مناوأته، وتولى ابن أبي عامر تنفيذ الجريمة، وبذا استقر هشام المؤيد في العرش الخلافي، وانهار مشروع الصقالبة؛ ودبت الوحشة على أثر ذلك بين الصقالبة والحاجب جعفر، فأخذ يتحين الفرصة لسحقهم؛ وكان ابن أبي عامر يستميل الصقالبة ويداريهم بادئ ذي بدء حتى تمكن نفوذه في القصر وفي الجيش؛ وعندئذ اتفق مع الحاجب على نكبة الصقالبة وتشريدهم، ولم يدخر في ذلك وسيلة ظاهرة أو مستترة حتى شرد زعماؤهم واستصفيت أموالهم وأخمدت شوكتهم، ونفي زعيمهم فائق إلى الجزائر الشرقية (جزائر البليار)، وفي ذلك يقول شاعر معاصر هو سعيد الشنتريني:
أخرِج من قصر أمام الهدى ... كل فتى منبسط جائر فمن رأينا منهم قال لا ... مساس قبل الناس بالشاكر
فخف ظهر الملك المرتضي ... قد خف من ثقلهم الظاهر
وسال ماء العلم من وجهه ... مذ مال عن حبلهم الخاثر
فلازم الميدان في قصره ... مع الوزير الخير الطاهر
ولما سما أمر ابن أبي عامر وسحق كل خصومه ومنافسيه واستبد بالسلطة، رأى أن يتخذ من البربر بطانة له وخولا وأن يستعين بهم على العرب، فقدمهم في الحكومة والجيش، وعمل على تمزيق القبائل العربية؛ وكانت العصبية العربية قد اضمحلت منذ بعيد، فلم تلق السياسة الجديدة معارضة تذكر؛ وهكذا حل البربر مكان الصقالبة في الالتفاف حول السلطة العليا والتمتع برعايتها، بيد أن الصقالبة لم يفقدوا كل نفوذ بعد، فقد استمر عدد كبير منهم يشغل وظائف الخاص بالقصر؛ ولما أنشأ ابن أبي عامر حاضرته المعروفة بالزاهرة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور، عاد إلى اصطناع الصقالبة، واتخذ منهم إلى جانب البربر حاشية وبطانة؛ وحشد منهم كثيراً في الجيش؛ والظاهر أن هذه الطائفة أعني الصقالبة كانت تتمتع بصفات وخلال خاصة تجعلها أداة لينة صالحة في يد السياسة القوية الحازمة، وإذا كان الصقالبة قد بدوا في أحيان كثيرة خطراً على الدولة والعرش فقد كان من أثر السياسة التي تمد لهم في السلطة وتسمح لهم باستغلالها، وتغضي عن صلفهم وتمردهم؛ وقد كانت هذه حال الصقالبة في عهد الحكم المستنصر وحين وفاته، فقد بلغ من سلطانهم ونفوذهم أن اعتزموا التصرف في أمر العرش طبق أهوائهم، ولولا أن سحقتهم يد ابن أبي عامر القوية لاستمر سلطانهم المطلق. بيد أن ابن أبي عامر لم يجد بأساً بعد أن أخمد شوكتهم وشرد زعماءهم من أن يستخدمهم أداة لتنفيذ إرادته، بل لم يجد بأساً من أن يرفع بعضهم إلى أسمى المناصب، كما حدث في شأن مولاه الفتى واضح الصقلبي، فقد منحه حكم الولايات الجنوبية وولاه قيادة الجيش الذي بعثه لمحاربة أقوى وأخطر خصومه زيري بن عطية البربري حاكم المغرب الأقصى؛ وقد كان لواضح هذا وعصبته الصقالبة شأن عظيم فيما تلا من الحوادث والخطوب.
ولم يستطع الصقالبة في ظل حكومة المنصور القوية أن يتدخلوا في شؤون الدولة أو يؤثروا في سيرها وتوجيهها؛ فلما توفي الحاجب المنصور (393هـ - 1002م)، وانهارت الدولة العامرية بعدئذ بقليل، رأى الصقالبة الفرصة سانحة للعمل، فانضموا إلى الحزب الأموي الذي عمل لإسقاط الدولة العامرية وسحق البربر الذين آزروها ومكنوا لها؛ ولما ظفر محمد بن هشام زعيم هذا الحزب ببغيته واستولى على قرطبة وتلقب بالمهدي، انضم إليه الفتى واضح وعصبته الصقالبة واتخذ واضحاً لحجابته وانضم فريق آخر من الصقالبة بزعامة خيران العامري وزميله عنبر إلى سليمان المستعين خصيم المهدي ومنافسه، وجرت بين الفريقين مواقع جمة، واستتب الأمر للمهدي؛ ولكن الصقالبة لم يخلدوا إلى السكينة ورأوا صالحهم في إبعاد المهدي عن العرش، فتفاهم الصقالبة من الحزبين وائتمر واضح وخيران بالمهدي فقتله الصقالبة، في الحمام (سنة 400هـ) وأخرج واضح الخليفة المؤيد هشام المحجور عليه، وكان سجيناً بالقصر منذ أيام المنصور، وأجلسه على العرش؛ وتولى واضح حجابته، واستأثر بكل رأي وسلطة؛ وقبض على ناصية الأمور في قرطبة مدى حين؛ ولكن سليمان المستعين لم يلبث أن هاجم قرطبة في مجموعة البربر ثم دخلها رغم كل ما اتخذه له واضح من الأهبة لمقاومته، وفتك جنده بالسكان أيما فتك، واقتحموا مدينة الزهراء وخربوها (401هـ)؛ فعندئذ رأى واضح السلامة في خيانة المؤيد واللحاق بالمستعين؛ ولكن الجند الصقالبة وقفوا على نيته في الوقت المناسب فقتلوه؛ واستمر الصقالبة في الدفاع عن قرطبة وعن المؤيد وعرشه، والمستعين يحاول استمالتهم عبثاً، واضطرمت الحرب بين الفريقين مدى حين، وانتهت باستيلاء سليمان على قرطبة في مناظر هائلة من السفك والعيث (403هـ) وانهار سلطان الصقالبة بانهيار عرش المؤيد؛ وبدأ سلطان البربر، واستأثروا بحكم الثغور والنواحي، وانتثر عقد الخلافة وانقسمت الأندلس إلى دويلات وإمارات صغيرة، وبدأ عهد الطوائف.
بيد أن الصقالبة لم ينسحبوا نهائيا من الميدان، ولم يختفوا نهائياً كعامل يؤثر في سير الحوادث فقد اجتمع فلهم حول زعيم منهم، من صنائع الدولة العامرية، هو خيران العامري؛ واستقر خيران بعصبته ومن لحق به من خصوم المستعين والبربر إلى المرية بعد أن أستخلصها من يد البربر؛ وفي الوقت نفسه عبر علي بن حمود حاكم سبتة في جيش من البربر إلى الأندلس محاولاً أن يشق له خلال الاضطراب طريقاً، وتفاهم مع خيران العامري والصقالبة وتحالفا على محاربة المستعين، ثم زحفا بجموعهما على قرطبة، ونشبت بين الفريقين حرب رائعة هزم فيها سليمان وأسر ثم قتل مع أفراد أسرته؛ وجلس علي بن حمود على العرش وتلقب بالمتوكل (407هـ). ولجأ في الحال إلى سياسة الإرهاب والشدة، ولم يترك أي مجال أو سلطة للصقالبة، فسخط عليه خيران وتركه، وأظهر الخلاف عليه. وأثار المتوكل ببطشه وشدته زعماء العرب، واشتدت عليه النقمة، ولم يلبث أن قتله الصقالبة في الحمام (أواخر سنة 407هـ) وبذلك استطاعوا أن يؤثروا في سير الحوادث كرة أخرى.
ولما توفي المتوكل خلفه أخوه القاسم بن حمود وتلقب بالمأمون، وعدل عن سياسته الشدة إلى اللين والمسالمة، واستمال خيران العامري الذي استعصم بالمرية، وأقطع زميله زهير العامري ولاية جيان؛ وكانت الحوادث تتطور بسرعة، وكان الخلاف يضطرم فيما بين آل حمود؛ فانتهز الزعماء العرب تلك الفرصة وتفاهموا مع الصقالبة ضد أل حمود والبربر، واستخلصوا قرطبة من يد المتغلبين عليها؛ بيد أن نجم الصقالبة كان بدأ بالأفول، ولم يكن يسطع يومئذ إلا غرارا؛ وكانت دولتهم قد انهارت في الواقع وتفرقوا بين مختلف الصفوف والأحزاب؛ وكانت آخر مظاهر سلطتهم أن تولوا الحجابة لإدريس بن حمود الذي استقر في مالقة وتلقب بالمتأيد بالله، فتولى حجابته نجا الصقلبي مدى حين، ولكن دون عصبية ظاهرة.
وكان هذا آخر العهد بتدخل الصقالبة في سير الحوادث الأندلسية بصورة بارزة. ومن ذلك الحين يختفون من ميدان الشؤون الأندلسية كقوة فعالة لها أثرها الحاسم في توجيه الحوادث، ومن ذلك الحين يبزغ نجم البربر؛ وتتحول المعركة الداخلية إلى نضال مزدوج، نضال ملوك الطوائف فيما بين أنفسهم، ثم نضالهم ضد العدو المشترك أعني أسبانيا النصرانية؛ ثم يجيء دور البربر في السيادة المطلقة بسرعة، فتنهار دول الطوائف الصغيرة تحت ضرباتهم القوية، وتسقط الأندلس في يد المرابطين ثم يفتتحها الموحدون، فتستمر سيادة البربر عصراً آخر؛ ثم تنهض مملكة غرناطة في تلك الغمار والخطوب العصيبة فتسطع في الأندلس حتى يحل الصراع الأخير.
تم البحث
محمد عبد الله عنان