مجلة الرسالة/العدد 12/عمالقة الأشجار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 12/عمالقة الأشجار

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1933



للدكتور محمد بهجت. خريج جامعة كاليفورنيا

لا ريب أن العالم كان مسكونا بكائنات على جانب عظيم من الضخامة

فالعلم يخبرنا عن (الداينصور) العظيم الذي يوجد هيكله العظمي

الهائل بالمتحف البريطاني مع هياكل أشباهه من عظائم الحيوان

وأغواله، وكذلك (العنقاء) أو الطير العظيم أو المسمى (بتروداكتيلس)

ولم يكن هذا الأخير طيراً بمعنى الكلمة أو وطواطا بل نوعا من

العظايا الهائلة اكتسب خصوصية الطيران.

دبت هذه الحيوانات المرعبة على ظهر الأرض في العهد (الميوسيني) كما يسميه علماء طبقات الأرض أو عهد منتصف الحياة، وذلك من ملايين السنين الخالية!! ويحتمل أنها عاشت قبل الإنسان بكثير.

ويظهر أن هذه الحيوانات انقرضت فجأة بفعل وبتأثير بركان عنيف أباد معظم المخلوقات، ثم تبع ذلك العصر الجليدي فأتى على آخرها ولم يترك لنا من آثارها الا عظاما نخرة أقامها العلم هياكل هائلة ووقف الإنسان مبهوتا فاغرا فاه. أما في البحار فلا يزال بها من المخلوقات العظيمة ما لم تنقرض كأقربائها الدواب فالحوت الهائل يمخر البحار ويشق عبابها واذكر أنهم اقتنصوا وحشا منه في المحيط الهادئ قرب شاطئ كاليفورنيا الجنوبي منذ سنتين وكان يزن سبعين طنا!!

كذلك كان الحال في المملكة النباتية، كانت لها عمالقتها، كانت هناك أشجار ضخمة تؤلف غابات شاسعة تشمل المناطق الشمالية من أوربا وأمريكا، ولا ريب أنها أظلّت وحمت الكثير من تلك الوحوش، ومن هذه الأشجار شجرة (السيكويا) - ملكة النباتات - التي قاست ولا ريب كل المحن التي ألمت بالكائنات الحية التي عاصرتها ولكنها نجت من دونها وعاشت إلى هذا الوقت تخبرنا في صمت رهيب عن ماض بعيد مليء بالكوارث والخطوب.

وتنتمي شجرة السيكويا إلى العائلة المخروطية أي عائلة الصنوبر ويجد منها نوعان: (سيكويا مبرفيرنس) و (سيكويا جايجانتيا) ولا يوجدان في مكان ما على ظهر البسيطة إلاّ في ولاية كاليفورنيا. فيوجد النوع الأول نامياً على ساحل المحيط في شمال الولاية حيث الطقس بارد صيفا وشتاء وحيث الرطوبة متوفرة طول السنة، وفي منطقة يبلغ طولها 450 ميلا بموازاة الساحل، ويقل تدريجيا كلما ابتعد عن البحر وامتد شرقاً إلى الجبال الساحلية. وأما خشبه فضارب إلى الحمرة ويعرف في مصر بالجوز الأمريكاني الذي يصنع منه الأثاث، وأما النوع الثاني فيوجد بداخل الولاية ومنتصفها في ثلاثة أحراج متقاربة في قمة جبال السييرا على ارتفاع عظيم من سطح البحر. ومن العجب أنه لا توجد أشجار متفرقة من هذا النوع فكأنها خافت على نفسها نوائب الحدثان وخشية الانقراض فتجمعت في هذه الأحراج متقاربة كما تتقارب أفراد القطيع إذا أحسّت خطراً.

وعندما اكتشف النوع الثاني الذي هو أضخم من الأول في سنة 1855، أرسلت منه نماذج إلى إنجلترا فأسماه النباتي لندلي (وللنجتونيا) تمجيداً لأسم الجنرال ولنجتون الذي قهر نابليون والذي كان في ذروة المجد وقمّة الشهرة إذ ذاك، فأخذت الأمريكان النعرة الوطنية إذ عزّ عليهم أن تسمى شجرة أمريكية بإسم رجل إنجليزي فأسموها (واشنطجطونيا) نسبة إلى جورج واشنطن أبى الأمريكيين. وأخيرا قر الرأي على جعل اسمها الجنسي سيكويا نسبة إلى رجل من متوحشي الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين لم يصب مجدا بالفتح وإراقة الدماء، بل بعقلية جبارة وعبقرية نادرة. ينتمي هذا الهندي إلى قبائل (الشيروكي) التي كانت ضاربة في تخوم ولاية جورجيا الجنوبية، تزوج أبوه الأبيض من أمه الهندية ثم لم يلبث أن هجرها فاعتزلت وابنها ركنا في غابة ونشأ نشأة هادئة تغاير نشأة أترابه الهنود الذين يتلقنون فنون الصيد والقنص والحرب وغيرها من أعمال الفروسية في سن مبكرة فكان يساعد أمه على أعمال المنزل أو فلاحة الأرض وقطع الأخشاب، فلما شبّ وترعرع احترف الصياغة ونبغ فيها نبوغا عظيما وذاع صيته ذيوعاً كبيراً ثم وجد أن البيض يغيرون على وطنه ويقتطعون أراضيه ويجلون أهله وعشيرته عن مساقط رؤوسهم فأحزنه ذلك وأخذ يفكر في الأمر وخرج من تفكيره بضرورة مقاومة المدنية بالمدنية.

ولما أدرك بثاقب فكره ان السر في تفوق البيض وتمدينهم ينحصر في مقدرتهم على التفاهم قراءة وكتابة قرر أن يخترع لغة لقومه فنبذ الصياغة وعكف على الدرس في الغاب وأخذ يكد ذهنه ويحفر في قشور الأشجار إلى أن وصل بعد ثلاث سنين إلى اختراع رموز تمثل كل كلمة أو فكرة في لغة قومه، ولكن هذه تكاثرت لدرجة يصعب على الأذهان استيعابها ففكر مرة أخرى واهتدى أخيرا إلى أن الصوت هو مفتاح اللغة فكدّ واجتهد إلى أن خلق حروفا أبجدية فاستطاع أن يكتب لغة أغنى بمفرداتها من لغاتنا!! بعد ذلك علمها قومه فتهافت عليها صغيرهم وكبيرهم إلى أن حذقوها، ومن ثم تحسنت أحوالهم العمرانية وازدادت ثروتهم وخطوا في سبيل المدنية خطوة واسعة، ولكن جشع الأبيض وظلمه كانا دائبين. فما زال بأراضيهم يغتصبها بقوة السلاح إلى أن تشردت قبائل الشيروكي وتقلصت حدودهم. لم يقف سيكويا عند هذا الحد بل خرج وهو في الثانية والثمانين من عمره في صحبة صبي صغير ليدرس لهجات الهنود المختلفة ويضع بعد ذلك لغة عامة للهندي الأحمر. فعبر السهول والجبال ولكن مات رفيقه الصبي من مشاق الرحلة فسار وحده ضاربا في الفيافي المقفرة والغابات الموحشة والجبال الشامخة المكسوّة بالجليد، إلى أن وقفه الضعف والإعياء فحطّ رحله قرب حدود المكسيك لآخر مرة. ودفن حيث مات في حفرة عادية، ولم تلبث الذئاب أن نبشت قبره وبعثرت عظامه.

هذا رجل من عظماء العالم قل من يعرفه، حتى قبره امتهن ولم تكن عليه أقل إشارة تدل على عقله الراجح ونفسه العظيمة ولكن العبقرية لا تفنى فقدر لأسمه أن يقترن بهذه الأشجار الخالدة وسوف يخلّد معها إلى أبد الآبدين.

وأشعر بعد طول هذه المقدمة أن أقصر كلامي على حرج واحد من الأحراج الثلاثة، لا لأنه أهمها فقط بل ولأنه أعجبها. . .