مجلة الرسالة/العدد 115/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 115/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1935


11 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد العال الصعيدي

منزلته في الشعر:

قد يكفى أبا العتاهية عندنا توجيهه الشعر هذه الوجهة الصالحة، وذهابه به في الحياة نحو تربية الشعوب وهدايتها، وإنارة السبيل أمامها، وتقويم عوجها؛ وهذا أبو نواس وهو من أعلام الشعر في عصره يشهد له بهذا الفضل، ويفضله به على نفسه. حدث هرون بن سعدان قال: كنت جالساً مع أبي نواس في بعض طرق بغداد، وجعل الناس يمرون به وهو ممدود الرجل، بين بني هاشم وفتيانهم، والقواد وأبنائهم، ووجوه أهل بغداد، فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد منهم، ولا يقبض رجله إليه، إذ قيل شيخ راكباً على حمار مريسى، وعليه ثوبان ديبقيان، قميص ورداء قد تقنع ورده على أذنيه، فوثب إليه أبو نواس، وأمسك الشيخ عليه حماره واعتنقا، وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه، فمكثا بذلك ملياً، حتى رأيت أبا نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى، مستريحاً من الأعياء، ثم انصرف الشيخ وأقبل أبو نواس، فجلس في مكانه، فقال له بعض من بالحضرة: من هذا الشيخ الذي رأيتك تعظمه هذا الإعظام، وتجله هذا الإجلال؟ فقال: هذا إسماعيل بن القاسك أبو العتاهية. فقال له السائل: لم أجللته هذا الإجلال؟ وساعة منك عند الناس أكثر منه. قال: ويحك لا تفعل، فوالله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.

وقد يكفى أبا العتاهية أيضاً أنه هو الشاعر الشعبي الذي أمكنه أن يدنو بالشعر العربي إلى إفهام العامة، فوردوا مناهله العذبة بعد أن حرموا منها زمناً طويلاً بنزول لغتهم عن لغته، وانصراف الشعراء عنهم كأنهم عجماوات لا حظ لها من علم وأدب، وهذا كله مع احتفاظه للشعر بما يتطلبه منه الخاصة أيضاً، فأرضى بشعره الفريقين، ولم ينزل به عن مرتبة فحول الشعر في عصره وقبل عصره، وقد قلنا إنه يقصد إلى ذلك قصداً، ويثور به على الطريقة القديمة عامداً، وسقنا من قصته في ذلك مع سلم الخاسر ما يؤيده، وهذه هي قصته معه كاملة:

قال أبو الفرج: حدثني على بن مهدي، قال: حدثني أحمد بن عيسى. قال حدثني الجماز. قال: قال سلم الخاسر: صار إلى أبو العتاهية، فقال: جئتك زائراً، فقلت: مقبول منك ومشكور أنت عليه فأقم، فقال إن هذا مما يشتد عليَّ، قلت: ولم يشتد عليك ما يسهل على أهل الأدب؟ فقال لمعرفتي بضيق صدرك، فقلت له وأنا أضحك وأعجب من مكابرته: (رمتني بدائها وانسلت)، فقال: دعني من هذا واسمع مني أبياتاً، فقلت: هات، فأنشدني:

نغًّص الموتُ كلَّ لذة عيش ... يا لقومي للموت ما أوْحَاه

عجباً إنه إذا مات ميْتٌ ... صدَّ عنه حَبيِبُه وجفاه

حيثما وجَّهَ أمرؤٌ ليفوتَ ال ... موتَ فالموتُ واقفِ بحذاه

إنما الشيب لابن آدم ناعٍ ... قام في عارضيه ثم نعاه

من تمّنى المُنَى فأغرق فيها ... مات من قبل أن ينال مُنَاه

ما أذلَّ المقِلَّ في أعين النا ... س لا قلاله وما أقْمَاه

إنما تنظر العيون من النا ... س إلى من ترجوه أو تخشاه

ثم قال لي: كيف رأيتها؟ فقلت له: لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية. فقال: والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها

وقد ذكر ابن رشيق القيرواني أبا العتاهية فيمن كان يذهب إلى سهولة اللفظ، ويعني بها مع الإجادة وملاحة القصد، وأنه اجتمع يوماً مع أبي نواس والحسين بن الضحّاك الخليع، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد منكم قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية:

يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فسيَّروا الأكفانَ من عاجل

ولا تلوموا في اتباعِ الهوى ... فإنني في شُغُلٍ شاغل

عيني على عُتْبَةَ منهلَّهٌ ... بدمعها المنسكب السائل

يا من رأى قبلي قتيلاً بَكى ... من شدة الوجد على القاتل

بسطت كَفّي نحوكم سائلاً ... ماذا تردُّون على السائل

إن لمُ تنيلُوُه فقولوا له ... قولاً جميِلاً بَدَلَ النائل

أو كُنْتُم العام على عُسرةٍ ... منه فمُنُّوه إلى قابل

فسلما له وامتنعا من الإنشاد بعده، وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا القصد، وحسن هذه الأشارات، فلا ننشد شيئاً. قال ابن رشيق: وذلك في بابه من الغزل جيد أيضاً لا يفضله غيره.

ولم يكن أبو العتاهية في ذلك يتكلف شيئاً لا تواتيه فيه سجيته، بل كان يجري فيه على سجية مواتية، وشعر مطبوع لا تكلف فيه ولا تصنع، وقد بلغ من سهولة الشعر عليه أنه كان يقول: لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت، وقيل له: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قط إلا مثل لي، فأقول ما أريد، وأترك ما لا أريد. وحدث عبد الله بن الحسن قال: جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان؛ فجلس إليّ، فقلت: يا أبا إسحاق، أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر، أو إلى ألفاظ مستكرهة؟ قال: لا، فقلت له: إني لأحسب ذلك من كثيرة ركوبك القوافي السهلة، قال: فاعرض عليّ ما شئت من القوافي الصعبة، فقلت: قل أبياتاً على مثل البلاغ، فقال من ساعته:

أيُّ عيش يكون أبلغ من عي ... شٍ كَفافٍ قوتٍ بقدر البلاغِ

صاحبُ البغي ليس يسلم منه ... وعلى نفسه بَغَى كلُّ باغي

ربَّ ذي نعمة تَعرَّض منها ... حائلٌ بينه وبين المساغ

أبلغَ الدهرُ في مواعظه بل ... زاد فيهنَّ لي على الإبلاغ

غبنتني الأيامُ عقلي ومالي ... وشبابي وصحتي وفراغي

وكان أبو العتاهية مع هذا أراد تفخيم لفظة ومعناه لم يقصر به ذلك عن غيره، ومضى فيه كأنه من أولئك الشعراء الجاهلين أو المخضرمين أو الإسلاميين، وقد قال مسعود بن بشر المازني: لقيت ابن مناذر بمكة، فقلت له: من أشعر أهل الإسلام؟ فقال: أترى من إذا شئت هزل، وإذا شئت جد؟ قلت: من؟ قال: جرير حين يقول في النسيب:

إن الذين غَدَوْا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا

غَيَضْن من عَبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا

ثم قال حين جد:

إن الذي حَرمَ المكارمَ تَغْلباً ... جعل النبوةَ والخلافة فينا

مضرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا آل تَغلبَ من أب كأبينا

هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئتُ ساقكمُ إلي قطينا ومن المحدثين هذا الخبيث الذي يتناول شعره من كمه، فقلت: من؟ قال: أبو العتاهية، فقلت فيماذا؟ قال قوله:

الله بيني وبين مولاتي ... أبدتْ لي الصدَّ والملاَلاتِ

لا تغفر الذنب إن أسائت ولا ... تقبل عذري ولا مُواتاتي

منحتُها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافاتي

أقلقني حبُّها وصّيرني ... أحْدُوثة في جميع جاراتي

ثم قال حين جد:

ومهمة قد قطعتُ طامسه ... قَفرٍ على الهول والمحاماةِ

بحُرَّةٍ جسرةٍ عُذا فِرَةٍ ... خوْصاء عَيْرَانهٍ عَلَنَدَاة

تبادِرُ الشمس كلما طلعتْ ... بالسير تبغي بذاك مرضاتي

ياناق خُبَّي ولا تَعِدي ... نفسك مما ترَيْنَ راحات

حتى تُناخِي بنا إلى ملك ... تَوَّجه الله بالمهابات

عليه تاجان فوق مَفْرقه ... تاج جِلال وتاج إخبات

يقول للريح كلما عصفت ... هل لكِ يا ريح في مباراتي

مَنْ من عمُّه الرسول ومن ... أخواله أكرم الخؤولات

وإذا كنت فيما سبق قد جعلت أبا العتاهية زعيم شعراء عصره، فهذا ابن مناذر يقضي له أيضاً بهذا السبق، وهذا بشار قد سئل من أشعر أهل زمانه؟ فقال: مخنث أهل بغداد، يعني أبا العتاهية، وكذلك كان يرى فيه هذا الرأي كثيرون مثل الفراء وجعفر بن يحيى وأبي نواس، قد وازن الحرمازي بينه وبين أبي نواس، فقال: شهدت أبا العتاهية وأبا نواس في مجلس، فكان أبو العتاهية أسرع الرجلين جواباً عند البديهة، وكان أبو نواس أسرعهما في قول الشعر، فإذا تعاطيا جميعاً السرعة فضله أبو العتاهية وإذا توقفا وتمهلا فضله أبو نواس، وقد يرجع هذا عندي إلى ما كان لأبي نواس من دراسة واسعة في اللغة وغيرها من العلوم، فلا يخفى أن مثل هذه الدراسة لم يتح مثلها لأبي العتاهية.

ولكنه يبقى بعد هذا ما قد يفيده ظاهر بعض ما رواه صاحب الأغاني من أن أبا العتاهية لم يكن يرى في شعره هذا الرأي، قال: نسخت من كتاب هرون بن علي، قال حدثني علي بن مهدي، قال: حدثني ابن أبي الأبيض، قال: أتيت أبا العتاهية فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب استحسنه لأني أرجو ألا آثم فيه، وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه، فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت، فقال: أعلم أن ما قلته ردئ، قلت: وكيف؟ قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين، أو مثل شعر بشار وغبي هرمة، فان لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا يخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيما الأشعار التي في الزهد، فان الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر، ولا طلاب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به، الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة، وأعجب الأشياء ما فهموه، فقلت: صدقت، ثم أنشدني قصيدته:

لِدوا للموت وابنوا للخراب ... فَكلُّكُم يصير إلى تَباب

ألا يا موتُ لم أر منك بُدَّاً ... أتيتَ وما تحيفُ وما تحابي

كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي

قال: فصرت إلى أبي نواس فأعلمته ما دار بيننا، فقال: والله ما احسب في شعره مثل ما أنشدك بيتاً آخر، فصرت إليه فأخبرته بقول أبي نواس، فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:

طولُ التعاشرَّ بين الناس محلول ... ما لابن آدمَ إن فتشتَ معقولُ

يا راعِيَ الشاءِ لا تغفل رعايتها ... فأنت عن كل ما أسترعيت مسئول

إني لفي منزل أعمره ... على يقين بأني عنه منقول

وليس من موضوع يأتيه ذو نفَسِ ... إلا وللموت سيفٌ فيه مسلول

لمُ يشغَل الموتُ عنا مذ أعدَّ لنا ... وكلُّنا عنه بالذات مشغول

ومن يمت فهو مقطوع ومجتنب ... والحيُّ ما عاش مَغشيٌ وموصول

كلْ ما بدا لك فالآكال فانية ... وكلُّ ذي أكل لا بد مأكول

قال: ثم أنشدني عدة قصائد ما هي بدون هذه، فصرت إلى أبي نواس فأخبرته فتغير لونه، وقال: لم أخبرته بما قلت؟ قد والله أجاد، ولم يقل فيه سواءاً.

والذي أراه في ذلك أن أبا العتاهية كان يريد بهذا صرف هذا الرجل عنع، لأنه كان معتزا بشعره معتدا به، وقد قارع به بشاراً وغيره لدى الملوك والأمراء فخار به قصب السبق، ونال من صلاتهم وجوائزهم ما لم ينله غيره، ولو كان يراه دون غيره من الشعر لقعد به في بيته، ولم يقو أن يقارع أحداً به.

عبد المتعال الصعيدي