مجلة الرسالة/العدد 115/أقطاب الرواية المصرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 115/أقطاب الرواية المصرية

مجلة الرسالة - العدد 115
أقطاب الرواية المصرية
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1935



عز الملك المسبحي جندي ومؤرخ وسياسي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان المسبحي رجل حرب ورجل قلم، وكان سيل أسرة حّرانية نزحت إلى مصر قبل قيام الدولة الفاطمية، واستوطنت مصر وسطعت فيها؛ وكان إحدى هاته الشخصيات القوية البارزة التي كانت الدولة الفاطمية أبان قوتها وفتوتها تحشدها حولها، وتوليها ثقتها وعطفها، وتؤثر أن تختارها من غير المصريين البلديين. بيد أن المسبحي كان مصرياً بمولده، مصرياً بتربيته وبيئته، وقد خصص حياته ومواهبه الممتازة لدراسة مصر وأحوالها وتاريخها، ولو لم يذهب الزمن بآثاره ولا سيما بموسوعته الضخمة عن تاريخ مصر، لكان بين يدينا الآن أعظم أثر عن مصر وتاريخها في المرحلة الأولى من الحكم الفاطمي، أعني مرحلة العظمة والبهاء.

ولد المسبحي بمصر حسبما ذكر في تاريخه ونقل إلينا الرواة المتأخرون في العاشر من رجب سنة ست وستين وثلئمائة (977م)، وهو الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله ابن أحمد بن إسماعيل المعروف بالمسبحي، ولم نعثر على تفاصيل عن حياته الأولى ولا تربيته وتكوينه، ولكن يبدو لنا من آثاره التي نسبت إليه، والتي انتهت إلينا شذور منها أنه تلقى ثقافة أدبية علمية واسعة متعددة النواحي، كذلك يظهر أن المسبحي بدأ حياته العامة جندياً ورجل ادارة، لأنه كان يرتدي زي الجند، ولأنه تقلد بعض المناصب الإدارية الهامة، وقد ذكر لنا المسبحي في تاريخه أيضاً، أن اتصاله بخدمة الحاكم بأمر الله يرجع إلى سنة 398هـ، بيد أنه تقلب قبل ذلك في بعض الوظائف الهامة، فتقلد أعمال القيس والبهنسا من أعمال الصعيد ثم تولى ديوان الترتيب وهو يومئذ من مناصب الوزارة الهامة، ثم اصطفاه الحاكم بأمر الله وعينه في بطانته الشخصية في سنة 398هـ وكان الحاكم يومئذ فتى في نحو الثالثة والعشرين من عمره، ولكنه كان في ذروة القوة والسلطان والبطش، وكانت هذه الفترة بالذات من أروع فترات حكمه، وفيها فتك بكثير من الوزراء ورجال الدولة (سنة 395 - 400هـ) ويروى لنا المسبحي نفسه في تاريخه طائفة من الحوادث الدموية التي شهدها في هذا العهد، وكان الحاكم دائم الفتك بالزعماء والكبراء لأسباب تتصل بسياسته العامة أو لريب ومخاوف تساوره، ولكن المسبحي تبوأ لدى الحاكم مركزاً من النفوذ والثقة لا تتطاول إليه الشكوك والريب، ولا تتجه إليه النقمة الغادرة، بل يظهر أن المسبحي كان من أخص خواص الحاكم، حسبما تدلى به الواقعة الآتية التي يرونها لنا في تاريخه، قال:

(قال لي الحاكم، وقد جرى والده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، قال فاستدعاني وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمى عليك يا حبيب قلبي ودمعت عيناه، ثم قال: امض يا سيدي فالعب فأنا في عافية. قال الحاكم: فمضيت والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله تعالى العزيز إليه).

ويقول لنا ابن خلكان إن المسبحي نال لدى الحاكم حظوة وسعادة، وإنه كانت له مع الحاكم مجالس ومحاضرات حسبما يشهد بها تاريخه الكبير، وتبدو دلائل هذه الصداقة التي توثقت عراها بين الحاكم والمسبحي في كثير مما يرونه المؤرخ في تاريخه وينقله عنه الكتاب المتأخرون مثل المقريزي وابن تغرى بردى عن عصر الحكام بأمر الله، وعن أحواله وتصرفاته الشخصية، ففي كثير من هذه المواطن يبدو المسبحي الصديق المخلص والمستشار الأمين.

وهذه حقيقة تلفت النظر، فإن الحاكم كان أميراً خطر النزعات عنيف الأهواء، وقلما نجا من نقمته أحد من رجال الدولة الذين خدموه. بيد أن الذهبي يقدم إلينا في تاريخه تعليلاً لهذه الظاهرة، هو أن المسبحي كان رافضياً. والروافض فرقة من غلاة الشيعة تغلو في حب علي بن أبي طالب وفي بغض أبي بكر وعثمان ومعاوية ومن إليهم، وقد اختلفت في سبب تسميتهم بالروافض. وهنا نلمس سر هذه الصداقة التي توثقت بين المؤرخ وأميره، فقد كان الحاكم، جرياً على سنة آبائه، يصطفى غلاة الشيعة أبناء مذهبه ويوليهم مناصب النفوذ والثقة، وكان المسبحي يتمتع فوق صفته المذهبية بخلال باهرة تضاعف مكانته، فقد كان عارفاً بعلوم عصره، وكان راوية ومحدثاً ساحراً، وكان أيضاً شغوفاً بعلم النجوم الذي يشغف به الحاكم بأمر الله، وقد وضع فيه أكثر من مؤلف، وهذه كلها عوامل وظروف تلقي أكبر الضياء على طبيعة هذه الحظوة التي نالها المؤرخ في بلاط الحاكم بأمر الله.

وقد استطاعت هذه الخطوة حتى وفاة الحاكم بأمر الله سنة 411هـ، ولا نعرف ماذا كانت صلة المسبحي بالبلاط الفاطمي في الأعوام التالية، والظاهر أنه اعتزل الحياة العامة.

وانقطع للبحث والكتابة، ووضع كثيراً من مؤلفاته في هذه الفترة التي استطاعت تسعة أعوام أخرى حتى وفاته في شهر ربيع الثاني سنة 420هـ (1029م).

- 2 -

يقدم إلينا ابن خلكان ثبتاً حافلاً من مصنفات المسبحي، وفي هذا الثبت القوى المتباين معاً ما يدل على ما كان يتمتع به هذا الذهن الممتاز من نواحي التفكير والثقافة المتعددة، فقد ألف المسبحي في التاريخ والجغرافيا والأدب والاجتماع والفلك كتباً بل موسوعات ضخمة، وإليك مفردات هذا الثبت الذي يقدمة إلينا ابن خلكان: كتاب التاريخ الكبير في ثلاث عشرة ألف ورقة، كتاب التلويح والتصريح في معاني الشعر وغيره في ألف ورقة، كتاب الراح والارتياح في ألف وخمسمائة ورقة، كتاب الغرق والشرق في ذكر من مات غرقاً وشرقاً في مائتي ورقة، كتاب الطعام والأدام في ألف ورقة، كتاب درك البغية في وصف الأديار والعبادات ثلاث آلاف وخمسمائة ورقة، قصص الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم ألف وخمسمائة ورقة، كتاب المفاتحة والمناكحة في أصناف الجماع ألف ومائتا ورقة، كتاب الأمثلة للدول المقبلة وهو في النجوم والحساب خمسمائة ورقة، كتاب القضايا الصائبة في معاني أحكام النجوم ثلاثة آلاف ورقة، ورقة، كتاب جونة الماشطة في غرائب الأخبار والأشعار والنوادر ألف وخمسمائة ورقة، كتاب الشحن في أخبار أهل الهوى وما يلقاه أربابه ألفان وخمسمائة ورقة، كتاب الشجن في أخبارأهل الهوى وما يلقاه أربابه ألفان وخمسمائة ورقة؛ كتاب السؤال والجواب ثلاثمائة ورقة؛ وكتاب مختار الأغاني ومعانيها، وغير ذلك من الكتب؛ ويقول لنا ابن خلكان أيضاً إن مصنفات المسبحي بلغت نحو الثلاثين

وهو تراث حافل ضخم ينم عن غزارة مدهشة ويشهد من حيث تنوعه لصاحبه بطرافة يندر توفرها في آداب هذا العصر؛ بيد أننا لم نتلق من هذا التراث شيئاً يذكر، ولا نكاد نظفر في عصرنا للمسبحي بأثر تام أو فصل تام، وقد اشتهر المسبحي بالأخص بتاريخه الكبير، الذي يصف لنا محتوياته في مقدمته فيما يلي: (هو أخبار مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها، وأحوال من حل بها إلى الوقت الذي كتب فيه، وأشعار الشعراء، وأخبار المغنين، ومجالس القضاة والحكام والمعدلين والأدباء والمتغزلين وغيرهم)، وإذن فقد كان تاريخ المسبحي، سواء من حيث حجمه أو موضوعاته موسوعة قوية شاسعة؛ ولم يصلنا هذا الأثر الضخم الذي يلقى بلا ريب أعظم الضياء على تاريخ الدولة الفاطمية في عصرها الأول، ولا سيما عصر الحاكم بأمر الله، وشخصيته الغريبة الفذة التي درسها المسبحي عن كثب، ولكن الشذور القوية الممتعة التي وصلتنا منه على يد المقريزي وغيره من المؤرخين المتأخرين عن أحوال الدولة الفاطمية وقصورها وخزائنها وصروحها وبذخها وبهائها، تنوه بقيمة هذا الأثر ونفاسته وطرافته، وتدل أيضاً على أن مؤلفه قد تناول خطط وآثارها ومعاهدها في كثير من الإفاضة.

وقد لبث تاريخ المسبحي مستقى خصباً لمؤرخي مصر الإسلامية حتى عصر متأخر جداً؛ فالمقريزي وابن تغري بردي والسخاوي والسيوطي وغيرهم يقتبسون منه ويشيرون إلى وجوده؛ وكذلك يذكره حاجي خلفية في (كشف الظنون) بما يأتي: (ومنها تاريخ مصر لعز الملك محمد بن عبد الله المسبحي الحراني المتوفى سنة 420هـ، وهو كبير في اثني عشر مجلداً؛ واختصره تقي الدين الفاسي والذيل عليه لابن مُيَسّر)؛

وفي ذلك ما يدلي بأن تاريخ المسبحي كان موجوداً حتى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)؛ بل هنالك ما يدل على أنه كان موجوداً كله أو بعضه حتى القرن الثاني عشر (الثامن عشر)؛ فقد ورد في معجم مخطوطات الأسكوريال الذي وضعه الغزيري اللبناني باللاتينية في سنة 1770 بأنه يوجد في مكتبة الأسكوريال العربية (أربعة مجلدات من تاريخ مصر وأرضها وعجائبها مرتب حسب السنين لغاية سنة 414هـ، تصنيف محمد بن عبد الله بن عبد العزيز المسيحي (كذا) (معجم الأسكوريال رقم 531 فقرة 2)، وليس من شك في أن المقصود هو تاريخ مصر للمسبحي، وذلك رغم تحريف الاسم. على أننا عند مراجعة فهرس الأسكوريال الحديث الذي وضعه ديرنبورج، ثم ليفي بروفنسال (سنة 1928) لم نجد في كتب التاريخ ذكراً لكتاب المسبحي، مما يدل على أن ما كان موجوداً منه بقصر السكوريال في القرن الثامن عشر قد ضاع شأن كثير من الآثار التي اثبت الغزيري وجودها في معجمه بيد أنه

يبدو من هذا الوصف الذي أثبته الغزيري في معجمه أن المسبحي أستمر في تتبع حوادث مصر وحوادث عصره حتى سنة 414هـ، وربما أستمر إلى ما قبل وفاته في سنة 420هـ إذا لم يكن الغزيري قد وقف على نهاية كتابه. وهذا وقد كتب ابن ميسر المصري المتوفى سنة 677هـ ذيلاً لتاريخ المسبحي، يبدأ فيه من حيث انتهى المسبحي، وسماه (أخبار مصر)، وانتهى الينا منه قسم يبدأ في سنة 439هـ وينتهي سنة 553هـ، وهذا الذيل هو الذي أشار إليه صاحب كشف الظنون فيما تقدم

هذا وقد كان المسبحي شاعراً رقيقاً وله شعر جيد نقل إلينا ابن خلكان شيئاً منه، ومن قوله يرثي أم ولده:

ألا في سبيل الله قلب تقطعا ... وفادحة لم تبق للعين مدمعا

أصبراً وقد حل الثرى من أوده ... فلله هم ما أشد وأوجعا

فيا ليتني للموت وقد قبلها ... وإلا فليت الموت أذهبنا معاً

وقوله من قصيدة يرثى بها والده:

بأبي فجعت فأي ثكل مثله ... ثكل الأبوة في الشباب أليم

قد كنت أجزع أن يلم به الردى ... أو يعتريه من الزمان هموم

وقد رأينا أن المسبحي كتب فيما كتب كتاب (التلويح والتصريح في معاني الشعر وغيره) مما يدل على انه كان راسخ القدم في فنون الشعر رسوخه في النثر

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان