مجلة الرسالة/العدد 113/الهدية
مجلة الرسالة/العدد 113/الهدية
للأستاذ بشير الشريقي
حدثني صديق لي وهو في مقتبل عمره، وأول عهده بالوظيفة، قال:
في صباح أحد الأيام، وأنا متهيئ للخروج إلى عملي، إذا بباب غرفتي يطرق، وإذا بالطارق فتى جميل المحيا، يقظ الملامح، يحمل على يديه سفطاً مستطيل الشكل، كبير الحجم، فما وقع نظري على الفتى والسفط بين يديه حتى تولاني الانقباض، لأنني عرفته من هو؟ وأين يشتغل
تمتم الفتى: لقد عاد عمي الشيخ من دمشق مساء أمس وهو يهديك تحياته، وقد أرسلني بهذا السفط هديته من دمشق إليك
ولكن عقلي كان قد اهتدى إلى أني موظف، وأن لصاحب هذه الهدية مصالح كثيرة عندي يهمه قضاؤها
فبادرت الفتى بتؤدة: ما هذا؟ ليس من الضروري. . . . له مني الشكر. . . أعد السفط إليه. . . ليس من الضروري. . . ولكنه قاطعني بأدب: لقد بعث به الشيخ إليك. . وهو هديته من دمشق. . . وسيغضب علي إن رجعت به
قلت بلهجة الآمر: أرجعه. . . سوف لا آخذه
عاد الفتى بالسفط وهو لا يصدق أني رفضت قبوله؛ وعدت فأغلقت علي باب غرفتي أفكر في الذي صنعت: لولا أنه صاحب حاجة عندي لما خطرت هذه الهدية له على بال ولما فكر في لحظة، إذ لا صداقة بيني وبينه، وأنا لا أراه إلا في الدائرة حين يريدني في أمر رسمي، أو في الطريق فنتبادل التحية من بعيد، وفوق ذلك فهو من التجار الذين يحاسبون على السحتوت والقطمير، والذين يعطون القرش ليستردوه قرشين؛ وهكذا كان الظاهر محاطاً كله بالريب فلم يدخل في نفسي أن هدية الشيخ منزهة عن الغرض
وبينا أنا على هذه الحال، إذ أرى الشيخ من نافذة غرفتي قادماً إلي، فأسرعت وفتحت له الباب:
أهلاً وسهلاً بحضرة الشيخ، الحمد لله على سلامتك، تفضل. . . جلس فإذا به قد تجاوز الخامسة والخمسين، ولكنه لا يزال محتفظاً بقوته ونشاطه، قد تدلت من ذقنه لحية كبير بيضاء، يرتدي سروالاً وجبه، نظيف البزة، وسيم الطلعة، حسن القيام على نفسه
- ماذا فعلت يا ابن أخي، لقد كان النبي ﷺ يقبل الهدية
قلت: ويرد الصدقة
قال: ويرد الصدقة؟! ولكن قسما بهذه اللحية - وقبض على لحيته - إن الهدية قد صنعت على اسمك وحملتها من دمشق إليك
قلت: أشكرك. . . أشكرك. . .
قال: ولا أزيدك علماً أنه يروى عن النبي ﷺ ما معناه: (من أُهدي إليه شيء ورده فكأنما ردّه على الله)
قلت: صدق رسول الله الكريم. . أنا لا أشك في حسن نية الشيخ، ولكن القانون يا عم. . . هذا القانون المكلفون نحن قبل غيرنا بحفظه واحترامه ينهانا عن أخذ مثل هذه الهدية، فهي في عرفه رشوة والعياذ بالله، يستحق معطيها وآخذها شديد العقاب - إليك المواد - 67 و68 و69 و76 من قانون العقوبات العثماني - وقرأت له نصوصها - إنه لأمر خطير
وقلت له:
ولكي تثق بواسع علم المشرع الذي سن لنا قانون العقوبات وببعد نظره أروي لك هذا الحديث الشريف المثبت في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي ﷺ رجلاً من الأزد يقال له ابن النبيه على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي: ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي فهل قعد في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا!)
وهنا صمت الشيخ ولكن لسان حاله كان يقول:
- لقد عرفت كثيرين غيرك من الموظفين كباراً وصغاراً فلم يحدثني واحد منهم عن مواد قانون العقوبات ولا عن حراسة القانون، لم يذكر لي واحد منهم حديث النبي ﷺ مع عامله على الصدقة بل كان أمري معهم ولا يزال على عكس تماما فأنا مكلف عند كل خطوة وعند كل حاجة أن أقدم الهدايا وألبي الطلبات. . .
وإلى هنا انتهى حديث الصديق فوجدته جديراً بالتدوين؛ فدونته في الحال؛ وهاهو كما سمعته بلا زيادة ولا نقصان.
(شرق الأردن)
بشير الشريقي