مجلة الرسالة/العدد 11/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 11/الكتب
ثورة الأدبمن هيكل إلى طه
أخي طه
لم تخلفني موعدك عند ظهور كتابي (ثورة الأدب) فقد عوَّدَتْني أُخُوَّتُكَ
الصادقة وصداقتك الخالصة كلما ظهر لي كتاب ان تتناوله بالبحث وان
تتناولني بالثناء. بل عودتني هذه الاخوة ان تتناول بعض فصول كتبتها
بالبحث فيها وبالثناء عليّ من أجلها. وتحت نظري الآن ثلاثة فصول
من قلمك العذب أحدها عن كتابي (في أوقات الفراغ)، والآخر رد على
نقدي كتابك في (الأدب الجاهلي)، والأخير عن الفصل الذي كتبت عن
النثر والشعر والذي احتواه كتابي الجديد. وفي كل واحد من هذه
الفصول كما في غيرها من فصول نشرت السياسة ونشرت الأهرام من
قبل هذا الثناء، وهذا البحث الذي يسعدني بما لك من أثر في مجهودي
وإنتاجي يجعلك صاحب فضل فيه كبير. ولست أخفيك أني مدين في
حيلتي ككاتب لأشخاص كثيرين شجعوني وآزروني وعاونوني بوحيهم
وبنقدهم وبحسن توجيههم إياي وأني ما أزال بحاجة إلى هذه المؤازرة
وإلى هذا الوحي إن كان قد قدر لي أن أنتج في الكتابة شيئاً جديداً
ولعلي أستطيع يوما أن أفي لأصحاب الفضل هؤلاء بفصل على الأقل
أكتبه، فما أستطيع اليوم أن أحصيهم وهم كثيرون. لكنك كنت وما تزال
يا صديقي في مقدمتهم كنت وما تزال كذلك حين ألقاك وأتحدث إليك
وحين أقرؤك واستمتع بجمال ما تكتب، وعظيم لذته ودسم غذائه وحين
أفكر فيك وفيما أثرت في الأدب وفي تاريخ الأدب العربي من ثائر لما تهدأ. والحق انه إذا كانت ثورة الأدب مدينة في هذا العهد الأخير
لعدد غير قليل من الكتاب والأدباء فهي مدينة لك بأعنف ما فيها، مدينة
لك بأشد ما فيها طرافة. وبحسبي أن أذكر ذلك لتعلم كم يفكر فيك من
فكر وما يزال يفكر في ثورة الأدب، ومن يعتقد بل من يلمس هذه
الثورة ويرى أنها ما تزال لما تهدأ وأنها ما تزال تحطم وتهدم وتحاول
أن تبني كما حطمت الثورة الفرنسية النظم والطبقات. ولست أحاول
الرجم بما عسى ان تتمخض عنه هذه الثورة حين يستقر الأمر إلى
التوليد الهادئ المطمئن، ولعل صديقنا المازني أقدر مني على هذا
الرجم.
ولست أخفيك كذلك ان فصلك عن (ثورة الأدب) أثار مني ابتسامات دهشة وخجل متصلين من أوله إلى آخره فقد رأيتك تصورني فيه صورة لا أعرفها لنفسي، صورة جن لا ينقطع إنتاجه وأب لا يبخل على أسرته بحقها عليه، وصديق لا يضن على أصدقائه بحقوقهم عليه. فلست أعرف لنفسي من هذا كله شيئا. إنما أنا مقصر في حقوق أصدقائي، أكثر من مقصر في حق أسرتي. ثم ماذا تراني يا صديقي أنتجت؟ دعك من فصول يومية تكتب في الصحف فأنت أعرف الناس بتفاهة ما ينفق من مجهود في هذه الفصول. ودعك من العمل في حزب سياسي فأنت أدري بالسياسة المصرية: ما هي وما مبلغ الجد فيها. دعك من هذين وانظر وإياي فيما أنتجت. إنه لا شيء أو لا يكاد يكون شيئا، فأنا رجل بيني وبين الخامسة والأربعين شهور، وهذا أنا لا خيل عندك تهديها ولا مال، فليسعد النطق ان لم تسعد الحال. أم تحسب هذه الكتب القليلة مجهود جني؟! إن يكن ذلك فهو جني بليد ويطوف في الآفاق ثم يرضى من الغنيمة بالإياب، أو هو كما ذكرت جني هادئ مطمئن أفاق منذ حين قصير من نوم مريح. ولعلي لا آسف إذ أصف نفسي في ذلك على حقيقتها. وكل رجائي أن أصل من الحياة إلى حظ هادئ مطمئن يكفيني بعده أن أفي لأصدقائي بحقوقهم ولأسرتي بحقها وألا أكون هذا الرجل المقصر الذي يعذر الناس تقصيره ويتوهمونه لكثرة عمله، وما هي كثرة العمل وإنما هو تقصير من جعله الحظ مقصرا.
وتذكر يا صديقي انك دهشت حين رأيتني أعلنت عن (ثورة الأدب) إعلانا أميركياً وإني سارعت في إهدائي وكنت تعرفني أشد الناس فتورا في الإعلان والإهداء، وتتساءل إن كان الله قد رزقني عفريتا في الإعلان، وتكرر انك ما تزال دهشا لأنك لم تفهم بعد مصدر هذه السرعة في الإهداء والإعلان. وإني لجد حريص على أن تزول دهشتك. فلأدلك على هذا العفريت الذي رزقني الله في الإعلان والإهداء. هو النظام الجديد للمطبوعات والصحف. فقد تعلم أن هذا النظام يقتضي إجراءات، منها تقديم عدد من النسخ إلى إدارة المطبوعات ومنها أن أية هيئة علمية أو أدبية أو دينية أو ما أدري ماذا تستطيع أن توحي إلى الحكومة فتصادر الكتاب الذي يطبع، وقد تصادر المطبعة التي طبع الكتاب فيها. ولعلك لم تنس قصة كتاب الخطيب البغدادي في السنة الماضية وحسن بلائك في الإفراج عنه. وقد ابتلينا نحن من قبل بشيء من هذا حين طبعت وصاحبي المازني وعنان كتاب (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) فقد قدمنا منه خمس نسخ لإدارة المطبوعات وأخذنا بها إيصالا وأردت بنفسي أخذ خمسمائة نسخة من الكتاب فإذا البوليس يحيط بي ويقتادني وكتابي إلى قسم عابدين، وإذا به يأمر ألا ينشر الكتاب وإذا بي اضطر إلى الالتجاء للنائب العام وإلى انتظار أسبوع أو نحوه حتى يفرج عن الكتاب. أفليس من حقي وذلك ما رأيت أن احتاط لنفسي حتى لا يقودني البوليس والجند مرة أخرى إلى القسم. فإني لأؤكد لك يا صديقي طه إن مثل هذا الموقف ليس مما تستريح له نفسي ولا نفس أي رجل مثقف. ولتلاحظ يا صديقي أن عنوان كتابي (ثورة الأدب). . وإذا كنت مهما آثر ألاّ أخيفك أو كانت الثورة لا تخيفك مهما تكن فيخيل إلي إن غيرك يخاف حين أثور وإن لم أر نفسي يوماً في حاجة إلى أن أثور، ويخيل إلي أن غيرك يخاف من كلمة الثورة كما كان الأتراك في العهد الحميدي يخافون كلمة الثورة وكلمة الحرية ولا يأذنون بنشرها أو نشر ما يماثلها. ولكي أتقيِ البوليس والجند والذهاب إلى القسم أعلنت الكتاب للناس وسارعت إلى إهدائه أصدقائي حتى إذا صودر قبل نشره أو أصابته مصيبة من مصائب هذا العهد أكون قد تعزيت بما أهديت من بعض نسخه، وبأني أعلنته للناس فحل بي وبه ما حل من ظلم وهضم.
هذا هو العفريت الذي لم تعرف يا صديقي مصدره. ولعلي إذ دللتك عليه وذكرت لك ما أصاب كتابي (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) عزيري عن خروجي على ما طبعت عليه من فتور في الإعلان والإهداء يعادل فتوري في حق أصدقائي وفي حق أسرتي. فان رأيتني مع ذلك بالغت في الاحتياط فظهرت في غير ما كان يليق بي أن أظهر فليس لي إلا أن أعتذر إليك وأن أعدك أني لن أعود إليها.
هذا عن شخصي. وما أدري يا صديقي ما عساي أقول لك فيما كتبت عن (ثورة الأدب) لقد أثار دهشتي وأثار خجلي فما كنت أحسبه ينال منك كل هذا التقدير، ولا كنت أحسبه جديراً به. وما عساي أقول في تقديرك الكتاب بأنه (تاريخ صحيح دقيق للأدب العربي المصري في هذه الأعوام الأخيرة من جهة وهو فلسفة أدبية رفيعة موضوعها أدبنا الحديث من جهة أخرى) وانه كتاب (تمضي فيه فيخيل إليك انك تمضي في كلام مألوف ولكنك لا تكاد تفكر قليلاً فيما تقرأ، أو لا تكاد تلح في القراءة حتى يفح لك هذا الكتاب أبواباً ويبسط أمامك آفاقاً ما كنت تعرفها أو تفكر فيها من قبل). وإذا كل شيء جديد. وإذا كل شئ طريف. وإذ الكاتب يخدعك ويمكر بك وان لم يرد خداعا ولا مكرا، (وان المؤلف هو المؤرخ العربي للأدب العصري الحديث، وانه قد فرض بذلك نفسه، لا أقول على هذا الجيل وحده، بل أقول على الأجيال المقبلة أيضا. . . وان كتابه هذا سيصبح من المصادر القيمة للذين يريدون أن يدرسوا أدبنا المصري في نهضته هذه الحاضرة) ما عساي يا صديقي أقول في هذا كله. أقول انه كثير. وانه أثار دهشتي وخجلي. واحسب صدق مودتك وإخلاص اخوتك كان لهما أثر غير قليل في إملاء هذه العبارات ومثلها عليك، كما كان لهما اثر غير قليل فيما كتبت عن شخصي.
ولعلك أنت شعرت بهذا، وخشيت من أن يتهمك الناس بالإسراف في الثناء على صديقك إسرافا بصرفهم عن حسنِ الاستماع له فأردت أن تحصي عليه وعلى كتابه بعض هنات تجعلهم أدنى إلى الإيمان بعدالة ثنائك. وأنت على حق فيما أحصيت من بعض الهنات وإن كنت قد أسرفت في بعضها. فقد ذكرت أن هيكلا: (من أصحاب المعاني بين الكتاب وأنه يهمل لغته إهمالا شديداً ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال. والغريب أنه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه وإلى أدبه معا) والحق يا صديقي إنني لا أضيق بشيء ولا أجد به بأساً. لكني أستأذنك في أن أوجه إليك شيئا من اللوم غير قليل. فنحن حقا مختلفان في أمر اللغة والأسلوب خلافاً سأتلو عليك سببه. لكني لم أعرف قط منك أن لغتي وأسلوبي يدنياني من الابتذال. بل عرفت منك غير هذا. ولعلي لا أخطئ إذا وضعت تحت نظرك بعض عبارات كتبتها أنت في هذا الشأن. فقد ذكرت حين كتبت في السياسة الأسبوعية في 13 مارس 1926 عن كتابي (في أوقات الفراغ). و (. . . كذلك كنت منذ عشرين سنة أو نحو ذلك حين كنت تكتب في (الجريدة) وكذلك أنت الآن. وإن يكن قد جد شيء فهو أنك ازددت فيما أنت فيه من القوة ثباتاً ورسوخ قدم، وانك استطعت ان تملك اللغة العربية وتسخرها لأغراضك، وقد كانت تستعصي عليك وتنتهي بك أحيانا إلى ما يكره سيبويه والخليل، وصديقك طه حسين. وأنت تذكر ما كان بيني وبينك من جدال متصل في هذا الموضوع. فقد كنت أتهمك بقلة البضاعة في اللغة العربية وكنت تجيبني بأني أزهري. وكان أستاذنا لطفي السيد يسخر منك ومني في رفق وحنان. وقد مضت أيام وأعوام وما زلت أنا أزهرياً كما كنت، أما أنت فقد أتقنت اللغة العربية إتقاناً وروّضتها حتى ذلت لك. فأنت تستطيع ان تقول إني أزهري وأنا لا أستطيع أن اتهمك بالضعف في اللغة العربية. ولكن لكل شيء حداً. فما رأيك في أنك أتقنت اللغة العربية، حتى لقد تسرف في هذا الإتقان وتصطنع من الألفاظ والأساليب ما يصح أن تعاب به لأنه أدنى إلى التقعر منه إلى شيء آخر. صدقني فأنت أزهري في بعض الأحيان. وكم لي عليك من فضل أيها الصديق العاق. ما زلت أعيب لغتك حتى أصبحت شيخاً قحاً). . . وقد ذكرت حين كتبت عن فصل الشعر والنثر في السياسة الأسبوعية بتاريخ 9 أغسطس سنة 1927: (أنت لا تكتب إلا اضطررت قرّاءك إلى الثناء والإعجاب، وأنت لا تسمع ثناءً ولا تحس إعجابا إلا ازددت إجادة وأمعنت في الإتقان. ولست ادري إلى أين يذهب بك هذا الإمعان في إجادة البحث وإتقان التفكير والتوفيق إلى الجمال الفني فيما تكتب. الخ) لعلي لم أخطئ إذ وضعت تحت نظرك هذه العبارات وما قد تذكر من مثلها لأوجه إليك شيئاً من اللوم غير قليل. فمالك يا صديقي وكلنا نعرف دقة ذوقك الأدبي، لم توجه نظري منذ تلك السنوات الطويلة إلى ما أتورط فيه من خطأ واضطراب في الأسلوب يدنيني أحيانا من الابتذال. لقد كان لي أثناءها متسع من الوقت لأوجه شيئا من الجهد أسلم به من هذا الذي لم تنبهني إليه إلا اليوم. أما ولم تفعل فلعلي لا أغلو يا صديقي إذا اتهمتك بأنك خدعتني كل هذه السنين وعبثت بي كل هذا العبث، وتركتني حتى تقدمت بي السن إلى حيث لا يستطيع الإنسان إصلاح ما أفسد الدهر.
أم أن الأمر ليس كذلك يا صديقي وأنك أنت قد ازداد ذوقك الفني دقة، زادت نقدك للغة والأساليب بأساً وشدةً، فأخرجني ذلك من حظيرة رفقك وتسامحك. إن يكن ذلك فأنت جدير من أجله بكل ثناء، جدير بكل تقدير على ما حباك الله مما كنت أود لو جاد عليّ ببعض منه.
أم إنني كنت يا صديقي على ما وصفت في سنة 1926 وسنة 1927 ثم عادت بضاعتي من اللغة العربية إلى مثل ما كنت تذكر قبل خمس وعشرون سنة من قلة، وعاد أسلوبي إلى الاضطراب أحيانا. إن يكن ذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله. وإنّا لله وإنا إليه راجعون. فإما إن لم يكنه فلومي شديد إياك وعتبي عليك يقضي به عليك وفاؤك لصديقك أن تراجع كتبه كلها ما ظهر منها وما قد يظهر وان تزيل منها ما قد يكون فيها من اضطراب وخطأ، فان لم تفعل وجهت إليك اليوم ما وجهت أنت إلي في سنة1926 من تهمة عقوق الصداقة وعدم الوفاء بما لها من حق.
أحسبك ستبتسم حين تقرأ هذه العبارة لأنك تعلم أني لا أضيق بأسلوبي، ولا أجد به بأساً. ولعلك يا صديقي على حق. بل انك لعلى حق. فليكن أسلوبي ما يكون فلن أرضى به بديلا: فأسلوب الكاتب هو الكاتب. ولن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا. أنا بما فيّ من حسن وقبيح. من خير وشر. من عرف ونكر. والحمد لله الذي جعلني كما أنا، ولم يجعلني شراً مما أنا. والحمد لله الذي جعل كثيرين ممن تناولوا كتابي هذا وغيره من كتبي يعجبهم أسلوبي اكثر مما أعجبك يا صديقي.
وما لي أضيق بأسلوبي ولم اتخذ الأدب يوما صناعة ولا أنا توفرت على دراسة الأدب. إنما أنا رجل درس القانون ودرس الاقتصاد والسياسة ومال إلى قراءة الفلسفة والأدب لا إلى دراستهما دراسة انقطاع وتمحيص، وطبيعي أن يكون أسلوبي أسلوب الذين درسوا القانون والذين يرون ان تؤدي المعاني بألفاظ لا تزيد عليها ولا تضيق بها، والذين لا يعنيهم لذلك بهرجة اللفظ للفظ، وقد زادني حرصا على هذا الأسلوب إني رأيت مثله موضع الإطراء من طائفة من كبار الكتاب والفلاسفة. وأنت لا ريب يا صديقي قد قرأت نقد (تين) لفلسفة كوزن في أحد الأجزاء الثلاثة من كتابه (رسائل في النقد والتاريخ) ورأيت كيف جعل من أشد ما آخذه به أنه يطيل من حيث لا تقتضي الفكرة الإطالة، وكيف جعل ينقل الصفحة الكاملة من كوزن فيضع فكرتها في سطرين أو ثلاثة اسطر. هذا والأدب الذي أقرأ ينحو اليوم نحو هذا الأسلوب. فبعد أن كانت روايات روسو تقع في خمسمائة صفحة أو اكثر نزعت القصة شيئا فشيئا بأسلوبها إلى الإيجاز. لا في وقائعها، ولكن في بهرجة الألفاظ التي تقص بها تلك الوقائع، ولعل ميل العالم الحاضر إلى السرعة في كل شيء هو الذي عفى على الإطالة، فملّ الاستماع إلى الأشخاص الذين يعجبون بالاستماع إلى كلامهم حين يتكلمون فيطيلون القول لتطول لهم لذة هذا الاستماع، وملّ قراءة الأشخاص الذين يعجبون بألفاظهم حين يكتبون فيطيلون رسائلهم وكتبهم. لعل هذا الميل إلى السرعة هو الذي مال حتى بالأدب إلى أسلوب القانون، وهو الذي جعل الذين درسوا القانون في فرنسا وفي مصر وفي كل أمة من الأمم يجددون في الأساليب كما يجدد فيها الذين توفروا على دراسة الأدب، أو أكثر مما يجدد فيها هؤلاء في بعض الأحايين، والفن الحديث هو الآخر ينحو هذا النحو، فالبساطة والقوة هما اليوم أساسه، ويخيل إلي أن أسلوب هذا الفن وأسلوب الأدب وأسلوب القانون قد اتفقت اليوم وقد نفت الزخرف للزخرف، وأصرت على أن يكون اللباب هو الأساس في أساليبها جميعا. اللباب الذي يعطي القطعة الفنية طابعها والذي يقيم نظريات القانون ويحقق رسالة الأدب، اللباب الذي يقف من هذه جميعا كالبيت المشيد من غير حاجة إلى ما تعودته القرون الماضية من زخرف عصور الرومانتسم ومن زخرف الكلاسيك أنفسهم. ولعلك توافقني يا صديقي على الأسلوب هذا ولا ترى رأيا غبره وإن كان الخلاف بيننا على اللغة وعلى الأسلوب قديما. فقد درجت أنت من أزهريتك التي أشرت إليها إلى أسلوبك الجديد وجاهدت أنا ما استطعت الجهاد حتى وصلت إلى ما أنا اليوم.
لكني أعترف يا صديقي بأنك على حق حين آخذتني بأنني أسرع فيفوتني لذلك التحقق من بعض الشؤون وانك وقعت على هنّة ما كان يجوز لي أن أقع فيها حين أردت أن أذكر الأوديسا فذكرت الأنياد. وإذا ذكرت لك أنني أنا الذي قمت بتصحيح تجارب الكتاب فقرأته عدة مرات قبل طبعه رأيت أني أكبر جريرة. لكني اختلف وإياك وإن كنت لا أحسب ذلك خلافا فيما ذكرت عن لابرويير وموليير. فما اشك في انهما تأثرا بكتّاب اليونان ممن ذكرت ومن تعرف أكثر مما أعرف لأنك درستهم دراسة خاصة. ولكنني إنما أردت أن موليير ولابرويير لم يتخذا من تاريخ اليونان والرومان إطار أدبهما كما فعل راسين وكورني. بل اتخذا الحياة المحيطة بهما وتأثرا بها إطار أدبهما. وهذه خطوة في التحرر من آثار اليونان والرومان مهدت للخطوات التي بعدها. فان تكن إشارتك يا صديقي إلى طائفة من الخطأ تأخذ به كتابي إنما هي إلى خطأ من هذا النوع، فلعله لا يكون خطأ. ولعلنا نستطيع أن نتفق عليه اتفاقنا على أكثر ما في كتابي من آراء، وليس شيء احب إلى من أن أتفق وإياك وأن كنت أجد في اختلافنا لذة لا أجدها في خلاف يقع بيني وبين أحد غيرك.
وقد لاحظت يا أخي أن اشتغالي المتصل بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها بعض الشيء وذكرت لذلك مثلين:
أحدهما إني أسرفت حين أسأت الظن بما يكتبه الأوربيون عن حياتنا الأدبية بينما أنت تظن أن (جب) وأمثاله لا يأخذون السياسة وأهواءهامقياساًلدراستهم الأدبية. والثاني إنني أسرفت حين أحسنت الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج وإني إنما فعلت ذلك لأرضي المصريين والشرقيين في الأدب كما أفعل في السياسة. وانك أنت ترى هذا شرا لأنه تغيير للحقائق العلمية إرضاء لمصر والشرق، والحقائق آثر عندك من أي شئ، ومن أي إنسان. وإنني لأؤكد لك صادقا ان الحقائق العلمية آثر عندي أنا أيضا من كل شئ ومن كل إنسان. وإذا كان اشتغالي المتصل بالسياسة قد اثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها فإنما كان أثره أن زادني تقليباً للأشياء، وامتحانا لها وتعمقاً في بحث ما تنطوي عليه وما ترمي إليه، وأنا معك في أن (جب) وأمثاله لا يتخذون السياسة وأهواءهامقياسا لدراستهم الأدبية. لكن دراساتهم هذه، ودراسات الكثيرين منهم على الأقل، يقصد بها أكثر الأمر إلى تنوير الساسة من أهل بلادهم، وإلى اطلاعهم على عنصر من عناصر حيوية الشرق هو في رأيهم، وهو في الواقع، أجلّ هذه العناصر خطراً. فإذا كانت الأهواء السياسية ليست هي التي توجه دراساتهم فدراساتهم يقصد بها في كثير من الأحيان إلى خدمة هذه السياسة وإن قصد بها كذلك إلى أغراض علمية بحتة. وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة إنما هو كتاب سياسي مداه بحث ما وصلت إليه أوربا مما يسميه الأستاذ (جب) تغريب الشرق، وما يرجى لهذا (التغريب) في المستقبل من نجاح. وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء المحترمين بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد. فهم به يخدمون أوطانهم ويخدمون العلم ويخدمون الحقيقة من ناحية سياسة بلادهم ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون ان تظل المدنية الحاكمة في العالم. وهذه الخدمة الجليلة التي يقومون بها لأوطانهم وللعلم ولحضارتهم حقيقة علمية يسرّ لي اشتغالي بالسياسة الوقوف عليها. ولو أنك انقطعت للسياسة يا صديقي انقطاعي وأفنيت من تفكيرك فيها ما أفنيت أنا لوافقتني على هذه الحقيقة ولم تتهمني بالإسراف إذ علمتها، وما ذكرت أنا في مقدمة (ثورة الأدب) عن الحضارة التي نعمل جميعا لبعثها، وهل هي حضارة إسلامية أم حضارة عربية، واهتمام بعض الطلاب والطالبات الأوربيين برأينا في ذلك وحرصهم على إقناعنا بأنها حضارة عربية وليست حضارة إسلامية، إذاً صدق ظني، ففيه جانب من السياسة يعادل ما فيه من جانب البحث عن الحقيقة العلمية.
أما إني أسرفت متأثراً باشتغالي المتصل بالسياسة في حسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج فاحسب صديقي يوافقني على انه إذا زالت عوامل الفتور والضعف مما أشرت إليه في تضاعيف كتابي لما كان فيما قلت شيء من الإسراف. وإذا جاء اليوم الذي ينفسح فيه عندنا ميدان العلم وتزول كل العوائق التي تقف اليوم في سبيله والذي تتقرر فيه حرية العاطفة وحرية الحس وحرية الأدب، والذي يبعث فيه تراث هذا الشرق العظيم، والذي يكثر فيه المتعلمون تعليما صحيحاً منا كثرة تسمح بالتخصص في الأدب والانقطاع لفرع من فروعه، يومئذ يكون القول بقصورنا في الخيال وفي القوة على الإنتاج تجنياً على هذه البلاد وعلى الحقيقة، هذا إلا أن تكون يا صديقي من الذين يقولون بان الأوربيين ينتمون إلى الجنس الآري وهم لذلك أرقى منا ونحن ننتمي إلى الجنس السامي بالطبع. وما أحسبك تقول بهذا أو تعتبره حقيقة كما يود بعض العلماء في أوربا اعتباره بل أحسبك ترى هذه حقيقة سياسية يراد بترويجها تغريب الشرق والقضاء عليه بان يبقى خاضعا للغرب إلى الأبد.
واختم رسالتي هذه إليك يا صديقي بشكرك شكراً لا حد له وبان أشير عليك أن تقرأ كتيباً صغيراً كتبه بول جيزل عقب وفاة أناتول فرانس عنوانه ما ذكر فيه عن موليير وشكسبير وغيرهما من كبار الكتاب وما قاله النقاد فيهم. وإذا كنت أنت اكبر من هؤلاء النقاد، وكنت أنا لا شيء إلى جانب هؤلاء الكتاب الذين خلقهم القدر أعلاما في حياته الإنسانية بل في حياة الوجود كله فان فيما قرأت أنا من ذلك ما عزاني عن أسلوبي وعن بعض ما أخذت عليّ بحق من هنّات أؤكد لك إني سعدت بتنبيهك إليها اكثر ما سعدت بثنائك علي. أفليست الحياة جهاداً متصلا نحو الكمال، كل في حدود ما يطيق، وهل للكمال سبيل إلا المجهود المتصل والتهذيب الدائم لهذا المجهود وتشذيب ما يند عن الطريق السوي فيه حتى لا ننساق وراء الشذوذ فنضل الطريق السوي. وهذا فضل لك جديد أضيفه إلى سابق أفضالك علي وأرجوك أن تعتقد إني دائما.
صديقك الوفي المخلص
محمد حسين هيكل
1